رجل المستحيل و أنا

أظن أن نصف جيلي يمكنهم أن يكتبوا تحت هذا العنوان، أظن أن نصفهم عاشوا طفولتهم وجزء من شبابهم، مع أدهم صبري، منى توفيق، قدري، سونيا جراهام، سيرجي كوربوف، موشى دزرائيلي، دونا كارولينا، والسنيورة، وغيرهم ممن طالعنا مغامراتهم على صفحات تلك السلسلة (رجل المستحيل)، بحجمها الصغير الذي صمم للجيب فعلا ً، وكان هذا التصميم الذكي خير معين لنا، في تهريب تلكم السلسلة والاستمتاع بقراءتها في كل مكان، حيث كانت القراءة في طفولتنا نشاطا ً مستغربا ً. كانت لتلكم السلسلة، سلاسل أخرى شقيقة أحببتها وتابعتها باهتمام، من ملف المستقبل، إلى كوكتيل، إلى كتب أحمد خالد توفيق فيما بعد (ما وراء الطبيعة)، و (فانتازيا)، و(سافاري)، بل حتى السلاسل القصيرة التي لم تعمر مثل (فارس الأندلس)، و (سيف العدالة). كنا في صغرنا نقرأ بشغف، عددا ً تلو عدد، نطارد الأعداد المفقودة، نقرأ الرواية حالما نحصل عليها، بل أحتاج الأمر إلى اتفاقيات مع أخي حتى يمكننا تقاسم متعة القراءة بسلام، نوع من تنسيق العمل، بحيث يشتري هو سلسلة وأشتري أنا الأخرى، ويقرأ كلا منا من دون أن يخبر الآخر بكلمة واحدة عن الكتاب الذي قرأه. كبرنا قليلا ً، وكعادة الشباب عندما يريدون القطيعة مع طفولتهم، تركنا تلكم الكتب، حشرناها في صناديق كرتونية، وألقينا بها في العلية، هناك تعانقت شخصيات طالما ملئت طفولتنا، ونامت في سلام، لم يكن الأمر قطيعة فقط، وإنما كان كعادة الأبناء تنكرا ً للأب، كأنما لا تظهر عظمة الابن حتى يخرج من ظل والده، خرجنا من ظلال نبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، وانطلقنا بعيدا ً، نقرأ أبعد، نعانق أهم الكتب، وأشهر الكتاب العالميين، ممن كنا لا نجيد نطق أسمائهم، ولكن الهرم، ليس هرم البدن، وإنما هرم الروح، سرعان ما بعث ذكريات الطفولة، سرعان ما نزع عنها الألوان الكابية التي أسبلناها عليها لحظة الانطلاق، لحظة القطيعة، سرعان ما اكتشفنا أي بهجة كانت، أي جمال، سرعان ما تذكرناها بولع، صحيح أننا نعرف أن مشاعرنا هذه، ليست إلا لعبة نفسية، نفوسنا التي تتوق إلى صباها، إلى براءتها، توهمنا بأن طفولتنا كانت حلما ً بهيجا ً، ولكن ما ألذ الاستسلام لهذه الأوهام. لهذا عدت ذات يوم، عدت إلى المنزل الذي احتضن طفولتي، وقد خرجت منه حالما امتلكت أجنحة، عدت إليه، قصدت العلية، حملت تلك الصناديق على كتفي إلى منزلي، أجرت الكتب الصغيرة، وضعتها في مكان ظاهر، صففتها بشغف كما كنت أفعل في طفولتي، عندما كنت أرصها في درج كان قد صمم ليحوي ملابسي، ولكني قررت أنه ليس بالملابس وحدها يستتر الإنسان ويدفأ، وإنما بالأحلام، بالذكريات الجميلة، فلذا حولت ذلكم الدرج إلى ذاكرة، لازالت تعيش في داخلي. لا يمكنني أن أعود لقراءة شيء من تلكم الكتب الآن، سيرتطم رأسي بسقوف منخفضة كانت قامتي لا تطالها عندما كنت صغيرا ً، فلذا اكتفي بتقليبها في ذاكرتي، أتذكر شيئا ً من أحداثها التي شغفتني، أتذكر سيرجي كوربوف عندما حقن أدهم بالكوكايين، كانت تلك أول رواية نقرأها، لازلنا أنا وأخي نردد اسمها (سم الكوبرا) كتعويذة، أتذكر فرار أدهم من سيبريا، أتذكر اختفاء منى في أحراش تايوان، أتذكر قلعة الصقور التي واجهها أدهم، أتذكر صراعه مع التماسيح والسباع في أحراش أفريقيا، أتذكر موته في المكسيك، عودته المذهلة، أتذكر معركته مع المافيا في إيطاليا، أتذكر العدد الفاصل رقم 100، أتذكر مطاردته في أسانسيون عاصمة الباراغوي في (انقلاب)، أتذكر نهر الدم الذي سال في نيويورك، أتذكر الكثير، باب لو فتحته لانثالت علي ذكريات لا تنتهي، ليست عن الكتب نفسها، بل حتى أجواء قراءتها، والأماكن والوجوه والخيالات التي بعثتها. بعد هذا كله، وعندما كنت أقلب موقعا ً للكتب الالكترونية قبل يومين، ووجدت أمامي هذا الكتاب، نبيل فاروق يتحدث عن بطله، يتحدث عن رجل المستحيل، عندما وقف نبيل فاروق ليقول (رجل المستحيل وأنا)، كان الإغراء لا يقاوم. الكتاب قصير جدا ً، كيف نختصر عمرا ً في صفحات؟ ألسنا نجرم بجزء كبير من ذكرياتنا عندما نكتبها؟ عندما قرأت الكتاب شعرت بأنه لا يكفي، ليس هذا كل شيء يا نبيل، نريد أكثر، أعرف أنك مرهق، أعرف أنك مريض، يا الله، حتى الغلاف المرسوم، نقل لنا تعبك، رسم لنا ذلكم الرجل الذي لطالما بدا لنا متوردا ً، مبتسما ً، نقله لنا، منهكا ً، مائلا ً ليتكئ على رجله المستحيل، الذي لم يفقد ألقه أبدا ً، صفقت وبقوة للرسام، لقد اختصر الكثير بلوحة واحدة، اختصر العلاقة، اختصر الواقع. في الكتاب سنتعرف على نبيل فاروق، الطبيب الشاب الذي أغواه القلم، وجعله يلقي المعطف الأبيض، وهي ظاهرة تكررت كثيرا ً، وكأنما الأطباء ليسوا إلا أدباء مؤجلين، يخبرنا نبيل فاروق عن البدايات، عن رحلته مع شخصية أدهم، عن رجل الأمن المصري الذي ألهمه إياها، يحدثنا عن الناشر الذي احتضنه، الأستاذ حمدي مصطفى، يحدثنا عن حياته الشخصية، زواجه، وأبنائه، وفاة ابنته الصغيرة، يحدثنا عن صراعاته من أجل حقوقه التي حاول الجميع سلبه إياها. عندما انتهيت من الكتاب، عرفت المأزق الذي يقع فيه الأدباء، عندما يبدءون في الكتابة عن ذواتهم، ينظر الكاتب إلى محطات حياته ويبدأ في نقلها لنا، خطوة بخطوة، عندما يفعل ذلك يفقد إهاب الأديب، يصبح مؤرخا ً لحياته، وهذا مهم ولكنه ليس كل شيء، أشعر بأن على الأديب أن يكتب سيرته مرتين، مرة كمؤرخ يعرض فيها سيرته، ومرة كأديب يعرض فيها علاقته بالأدب، علاقته بكتبه، كيف وفدت عليه أفكارها، كيف كتبها، شيء من ذكريات الليالي المسهدة، شيء من ذكريات جفاف الكتابة، وفقدان الحروف، لماذا يفترض الكتاب أننا لا نرغب في معرفة كيف صاغوا كتبهم، كيف عملوا عليها، عندما يقول باموق مثلا ً أن اسمي أحمر أخذت منه عشر سنوات، ستة لجمع المصادر والقراءة، وأربع للكتابة، أليس وراء هذا الكتاب لوحده قصة، مكابدة، إخفاقات طويلة، خيارات مفقودة قبل أن ينجح ويخرج بشكله المقروء !! إذن ماذا وراء الكتب الأخرى؟ ماذا وراء عمر من الكتابة؟ عمر من القراءة؟ لن ندري، لأنهم لم يكتبوا، والمحزن أن سيرتهم الذاتية يمكن أن يكتبها سواهم، أما هذه التجارب فستموت معهم. .. د

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا