الوجه الآخر للذئب

19 - الوجه الاخر للذئب - مارلي ويبرلي
الملخص
عاشت جين في كنف خالتها دورثي من غير أن تعلم شيئا عن والدها سوى ما أخبرتها إياه الخالة وهو أن هذا الأب القاسي الأناني تخلي عنها منذ12 سنة وغادر البيت إلي غير رجعة . وفجأة عرفت جين أن والدها لم يتخلي عنها , وانه كان يراسلها باستمرار من دون أن تصلها أية رسالة , إلي أن وقعت على الرسالة الأخيرة التي يدعوها فيها إلي زيارته في جزيرة "سارامنكا". وفي المطار اصطدمت جين بمشهد آلمها : رجل ضخم الجثة يصرخ في امرأة صينية مسنة , واثنان من أتباع الرجل يأخذانها إلي جهة مجهولة . وتشاء الصدفة أن تلتقي جين الرجل نفسه في بيت أبيها بالذات ... وتتكرر المصادفات وكذلك اللقاءات , وفي كل لقاء كانت جين فريسة أحاسيس متناقضة تجاه الرجل الذي أرعبها تصرفه في المطار . من هو هذا الرجل , وما هي حقيقة قصة المرأة الصينية ... وما هو الدور الذي يلعبه السيد غرانت في الجزيرة ... وكيف انتهي الصراع الطويل المرير بين جين والرجل القوي ؟
-_ أنا آتية يا أبي
أول ما شاهدت جين هذا الرجل نفرت منه وقضمت شفتيها وسارعت إلي المجلة المفتوحة فوق ركبتيها محاولة أن تحجب عن أذنيها ضجة الأصوات المرتفعة في مبني المطار الذي تشوبه لسعة الحرارة في المرحلة النهائية من رحلتها إلي جزيرة سارامنكا . كانت الخالة دورثي تبعد عنها آلاف الأميال , هناك في انكلترا , وبرغم ذلك كانت كلماتها تطن في أذنيها : لن تستطيعي أن تعيشي وسط هذا الضجيج." لم تكن هناك فائدة . فقد كان من المستحيل تجاهل ذلك المشهد كما كان من المستحيل تجاهل الخالة دورثي وقد انطلقت في انفعال . رفعت جين رأسها علي مضض ونظرت ثانية إلي الرجل المتسبب في تلك الضجة . كانت قامته أطول من الآخرين,وشامخا أمام بعض الموظفين , وأمام المرأة الصينية المنحنية المتشبثة بحقيبتها الكرتونية الرثة . كان هناك أيضا عدد من المتفرجين الذين شدهم ذلك المشهد . كان الرجل غاضبا وبرغم هذا لم يكن صوته مرتفعا . بيد أنه عندما كان يتكلم , كان يفعل كمن له سلطان , وكان الآخرون يسمعونه لفترة وجيزة , ليتحركوا من جديد بأيديهم , وجبينهم مكدود في يأس واضح . لم تكن لدي جين أدني فكرة عما يدور , المرأة الصينية يعلو هامتها المشيب , هادئة بجلال غريب وسط ذلك الهياج. " يبدو أننا سنظل هنا إلي أن تنتهي المشكلة ." رفعت رأسها سريعا لتنظر إلي الرجل في جوارها . يبدو انه أميركي , وقد تدلت آلة تصوير من عنقه فوق قميص منقوش بأزهار تخطف البصر : " نعم , رغم إني لا أعرف السبب." الرجل في الستين من عمره , بشرته سمراء وشعره كستنائي وعيناه بنيتان . جلس في جوارها , وقد اعتبر ردها دعوة صريحة لتبادل الحديث وقال: " يبدو أن ذلك الشخص الضخم يعترض علي أن تستقل السيدة الصينية الطائرة إلي سارامنكا , أو علي الأقل هذا هو الانطباع الذي كونته ." نظرت عبر القاعة نحو الرجل . ترى ما هي فرصة مثل تلك المرأة المسكينة للوقوف أمام رجل كهذا ؟ من الواضح أنه لا توجد فرصة على الإطلاق . ثم بدأ الجمع يتفرق . واقتاد أحد المسؤولين المرأة بعيدا تاركا إياها تحمل حقيبتها بنفسها. " ما أقل ذوقه ..." لم تكن تعي أنها تحدثت بصوت مسموع إلي أن رأت الرجل الجالس جوارها يلوي قسمات وجهه في شبه ابتسامة . " إنه يبدو كرجل قادر أن يصل إلي ما يريد." وقدم لجين بطاقته: " دعيني أقدم نفسي . جاكسون تي ميلار . يمكنك الاحتفاظ بها هل أنت ذاهبة إلي سارامنكا" " نعم , في أجازة." ترددت جين عند لفظها الكلمة الأخيرة . فليس في وسعها أن تشرح لهذا الغريب عن أسباب سفرها. " سأحضر بعض المرطبات. ما هو شرابك المفضل ؟" ترددت جين ولكنها ابتلعت مخاوفها وقالت بخجل : " أي شيء مثلج من فضلك . أسمي جين , جين ريتشي." " إني مسرور بلقائك يا جين . فأنا لا أحصل كل يوم على فرصة التحدث مع فتاة جميلة ." أختفي وسط الناس , الذين بدءوا يتحركون الآن تحركا طبيعيا بعد أن أنتهي الحدث المثير . أختفي الرجل الضخم , ولكن أحست جين برعشة خفيفة لم تره إلا عن بعد مع ذلك تلقت انطباعا بأن قوة قاسية تنبعث منه . الرجل شديد السمرة وقد لفحته الشمس , يرتدي بزة بلون الظبي الصغير من قماش خشن . لن تراه ثانية , هذا شيء يسعدها . بدأ ينقشع قدر من اليأس الذي خيم على جين قبل أن تترك لندن منذ ساعات . فهي لم تقدم على شيء خاطئ على الإطلاق . كل شيء سيسير على ما يرام , برغم تنبؤات الخالة دورثي المليئة بالتشاؤم. تطلعت جين أمامها , لكنها لم تر ذلك الحشد , ولم تسمع تلك الثرثرة الحادة المتنوعة اللغات فللحظات عادت بذاكرتها إلي لندن لتعيش من جديد الصدام المرير مع خالتها . " أنها فرصتك الأخيرة . إذا ذهبت فلن تعودي إلي هنا أبدا". كانت الخالة دورثي تقف في جوار النافذة مولية ظهرها لجين . وحين استدارت ببطء كانت هناك بقعتان مشتعلتان فوق وجنتيها وأحست جين بوخزه تسري فيها بقوة لعلها من الشعور بالإشفاق , إذ فجأة رأت عمتها على حقيقتها , امرأة وحيدة في خريف عمرها تشعر بالمرارة وهي تري ابنة أختها تتحداها للمرة الأولي في حياتها. " خالتي دورثي . اعلم أنك كنت كريمة للغاية عندما سمحت لي بأن أعيش معك السنوات الست الأخيرة وأنا أقدر كل ما فعلته من أجلي , ولكن ألا تستطيعين أن تتفهمي موقفي , أريد أن أشاهد والدي ألا يمكنك أن تحاولي أن تقدري وضعي ؟" " كنت في السادسة من عمرك . عندما هجر والدك البيت ولم يسأل عنك .تتذكرين قولي ؟ لاشيء . لم يكن يصلح لشيء ولن يصلح أبدا ." كانت يدا الخالة دورثي متشبثتين بظهر المقعد وقد بدت مفاصلهما بيضاء من التوتر وجهها شاحبا . هزت جين رأسها وهي تقول : " بعث إلي برسائل مرات عدة . دون أن تصلني واحدة منها . ولو لم يكشف لي ساعي البريد إلى مصادقة لما علمت بذلك . لماذا أخفيت الرسائل عني ؟" " فعلت ذلك من أجلك أنت . لم أكن أريد أن أزعجك ." " كانت الرسائل لي . ولم يكن من حقك أن تخفيها عني ." " كان لي كل الحق . أنت تعيشين في بيتي وفي حمايتي ." ضغطت جين على الرسالة الأخيرة التي تمدها لم تعد تخشي الآن تلك المرأة التي سيطرت على حياتها منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها , منذ وفاة أمها . " أنا لم أدرك إلي أي حد كنت مستاءة لبقائي معك . أنا آسفة ولكني سأبذل قصارى جهدي لأعوضك عما بذلت . سأعمل في عطلة نهاية الأسبوع إبان دراستي في كلية المعلمات ." أمسكت عن الكلام بعدما رأت وجه خالتها الغاضب المتجهم . اندفعت الدموع إلي عينيها . أحست بصدمة حين اكتشفت فجأة أن خالتها تضن عليها بتلك الرعاية التي منحتها إياها طوال تلك السنين . والآن اتخذت جين قرارها , ولا عودة عنه . ليحدث ما يحدث فهي ذاهبة لرؤية أبيها . إنه لم يكن في حالة صحية تسمح له بالسفر وإلا لكان حضر إلي انكلترا . أبلغها ذلك في رسائله , رسائله التي ظلت حبيسة صندوق مكتب خالتها . قرأتها جين جميعا : رسالة رسالتان كل عام , من أماكن مختلفة من شتي أنحاء العالم , عدا الرسائل الأربع الأخيرة , فجميعها أرسلت من جزيرة في المحيط الهندي , اسمها سارامنكا . كانت طوابع تلك الرسائل رائعة الجمال عليها صور لطيور وأزهار غريبة بعثت جين على الفور برسالة إلي العنوان المثبت على متن الرسالة المهترئة . وجاءها الرد . بعد خمسة أيام , رسالة مقتضبة : رسالتي في الطريق إليك وفيها نفقات الطائرة . أحضري أرجوك . مسحت جين دموعها , واستدارت تحمل حقائبها , لم يعد هناك مجالات لأي حديث
*****
" هيا استيقظي يا حلوتي جين . أن الثلج يذوب." كلمات قليلة أعادت جين إلي الواقع , لتري صديقها الجديد يرقبها بابتسامة عريضة. " أنا آسفة , سافرت مع تأملاتي إلي البعيد " أخذت الكوب المقدم إليها , شاكرة صديقها الامريكي , ثم مر في جوار المائدة احد الخدم ليقول: "ستقلع الطائرة بعد خمس عشر دقيقة." قاومت جين إحساسا بالذعر بدأ يهاجمها . لقد اقتربوا الآن من نهاية رحلتهم . ماذا لو كانت الخالة دورثي على حق : هل هي متهورة حمقاء ؟ انطلقت الأفكار في دوامة جنونية . ثلاث ساعات أخري ويصلون . سالت رفيقها الاميريكي : "هل ذهبت قبل الآن إلي سارامنكا ؟" " نعم , مرة أثناء الحرب لا يمكنني أن أنساها . وهذا هو سبب عودتي إليها." " أخبرني عنها بالتفصيل ." " أظن أنها مختلفة الآن , لكنها مكان فسيح قد يصل طولها إلي ستين ميلا . تبدو من الطائرة وكأنها سمكة عملاقة . خضراء جدا , نباتها مورق وطبيعتها غنية بما يسحر ويريح." كانت في عينيه نظرة حالمة كأنه غجري منطلق مع قيثارته : " نعم يا سيدتي . إنها رائعة هناك ينمو قصب السكر على مدي أميال وأميال ." " هل أنت ذاهب في أجازة؟" " يمكنك أن تسميها رحلة إلي الماضي ." توقف قليلا ثم ابتسم وقال: "ولكن ما الذي يجعل فتاة مثلك تقطع كل هذه المسافة وحيدة لتأتي إلي هنا ." روت له جين بإيجاز قصة رسالة أبيها ودعوته المفاجئة لها. " هذا شيء رائع . ألم تريه منذ اثنتي عشرة سنة ؟ أراهن أنه سيكون لقاء رائعا." عبر الميكروفون جاء صوت المذيعة الجاف: " الرجاء من المسافرين إلي سارامنكا التوجه إلي الباب الرئيسي." جلست جين في مقعد مجاور للنافذة محدقة في الحشد الصغير المتجمع أمام مدخل الباب الرئيسي وأحست بالارتياح وهي ترقب ذلك الحشد لأنه لم يكن هناك أثر لذلك الرجل الغريب الطويل القامة . أقلعت عدة طائرات منذ أن حدث ذلك المشهد الكريه في المطار . من المحتمل أن يكون قد أستقل إحداها . لم يكن هناك أثر أيضا للمرأة الصينية . وتساءلت جين عما يكون قد حدث لها . إن منظر تلك المرأة العجوز وهم يقودونها بعيدا لا يبرح مخيلتها . وعندما كانت على وشك أن تدير رأسها بعيدا عن النافذة لتحدث رفيقها المنهمك في دراسة بعض الأوراق التي استخرجها من محفظته , توقفت وأطلقت شهقة وقالت : " أوه _ لا ." " ماذا هناك ؟" " أنظر ." أشارت جين إلي رجل طويل يسير متمهلا خارجا من المبني . كان هو ذلك الرجل نفسه , الذي تسبب في ذلك الصخب يسير الآن نحو الطائرة . كان قد خلع سترته , وحملها فوق كتفيه , كان يبدو وكأنه غير مبال بأي شيء حوله . " اعتقدت بأنه رحل." " أنا أيضا . هل قلت إن سارامنكا كبيرة ؟" " كبيرة بالقدر الذي يكفي لكي لا تصدمي به , إذا كان هذا ما تعنينه من السؤال ." ضحك ضحكة خفيفة وقال: " هل تكرهينه إلي هذا الحد ؟" " أنا لا أحب أي شخص يستخدم ماله ونفوذه أو أي شيء ليستأسد على من هم أضعف منه ." " في عينيك بريق غامض , أتدرين أنك جميلة حقا ؟ تذكرينني بابنتي الصغرى " تحسس جيب سترته وأخرج محفظة سحب منها صورة بناته وزوجته , فراحت جين تلهي نفسها بمشاهدة الصور كيلا تري الرجل الضخم الذي دخل الطائرة في اللحظة نفسها , حانيا رأسه ثم سار متجها نحوها . " أنهن جميعا جميلات ." قالت ذلك وهي تتجاهل المضيفة وهي تحوم حول الرجل الذي استقر في مقعد في مؤخرة الطائرة . وقد جرت بينهما أحاديث لم يكن في وسعها أن تسمعها . وعادت جين تتأمل أفراد عائلة رفيقها الأميريكي . عرفت ماذا كان يعني جاكسون بالتشابه بينها وبين أبنته . كانت الفتاة طويلة , ربما أطول قليلا من جين . كان شعرها طويلا مسترسلا داكنا , كما كان هناك تشابه طفيف مع عيني الفتاة الواسعتين ذاتي الرموش الكثيفة . أعادت جين الصورة مبتسمة . كانت برغم كل شيء متنبهة تماما إلي وجود الرجل الجالس خلفها . وحين دعي الركاب إلي ربط الأحزمة استجابت بصورة تلقائية . قد تكون تلك هي المرة الأخيرة التي ستري فيها الرجل الضخم بعد مغادرة المطار . في أي حال أن ما يهمها الآن هو أنها ذاهبة إلي والدها . لفحتهم الحرارة وهم يغادرون الطائرة . تعثرت جين على السلم فأمسك جاكسون بذراعها ثم نظر إليها في حنان وقال: "هل سيكون والدك باستقبالك ؟" هزت رأسها وهي تطرف بعينيها قليلا من شدة وهج الشمس : " كلا . طلب من أحدي جاراته أن تستقبلني أرسلت صورتي في رسالتي الأخيرة وقال لي إنها ستتعرف على أنا أشعر ببعض الدوار ." سأنتظر حتى تأتي هذه الصديقة . لا أحد يعرف ما سيحدث ." " أنت طيب للغاية , لكني " "لا يمكنني أن أتخلي عنك وأنت في هذه الحال ." " آسفة ماذا قلت ؟" أعادها صوت جاكسون مرة أخري إلي الواقع . " يبدو أن تلك السيدة القصيرة تلوح لك ." نظرت جين إلي الحشد الصغير المجتمع خلف حاجز خشبي . الجميع يلوحون بالمناديل تنطلق منهم أصوات سعيدة صاخبة , رأت امرأة شقراء تلبس ثوبا بسيطا مشجرا بالإزهار . كانت تمسك بصورة فوتوغرافية , وعيناها تحدقان في جين وهي تبتسم . " أنت على حق . هذه المرأة جاءت لترافقني ." لم يكن ما عاشته حلما . أن أباها موجود هنا بالفعل , وقد أرسل في طلبها . قالت المرأة الشقراء ذات الأربعين عاما : " يا عزيزتي , عرفتك على الفور _ أنا ميغان ديفيز جارة أبيك هل كانت رحلتك جيدة؟" " رائعة . شكرا لكنني متعبة قليلا ." وبعدما تعرف جاكسون إلي المرأة قال : " سعدت بلقائك يا ديفيز . كنت أود فقط التأكد من أن شخصا ما سيكون في لقاء جين ." قالت جين ضاحكة : " شكرا لك على رعايتك واهتمامك ." وبعد مغادرتهما أ رض المطار حدث شيء غريب . أطلقت ميغان نفير سيارتها ولوحت بيدها . استدارت جين وفي ظنها إنها تلوح لجاكسون لكنها كانت سيارة مرسيدس بيضاء انطلقت بجوارهما . وأثناء ذلك حيا السائق ميغان . لم يكن ذلك الشخص سوى الرجل المشاغب الضخم . "لم أعرف أنه عاد على الطائرة نفسها معك ." استدارت ميغان في ذهول في اتجاه جين , ورأت التعبير الذي يعلو وجهها وقالت : " ماذا هناك يا جين ؟" " لاشيء ... سبق لنا وشاهدنا هذا الرجل في مطار جافر كان يتشاجر مع بعض الموظفين ." انطلقت ميغان ضاحكة : " إنه غافن غرانت المعروف في كل مكان . ماذا كان سبب الشجار؟" " لا أعرف ." ردت جين بهدوء مدركة أنها تقف على أرض زلقة . فهذا الرجل , كما يبدو صديق لميغان . لذا ينبغي ألا تحس به . لكنها لم تستطع الكذب , وأفصحت قائلة: " جاكسون يعتقد أنه كان يحاول منع امرأة صينية من أن تستقل الطائرة . كانت تقف هناك ممسكة بحقيبة من الكرتون , ثم اقتادوها بعيدا وما عدنا رأيناها ." " أنا واثقة ,أن الحقيقة تختلف عن المظهر تماما ." " كيف حال أبي ؟" أرادت جين أن تغير مجري الحديث. " ليس على ما يرام يا جين . أنه في شوق إلي رؤيتك طوال الأسابيع القليلة الماضية ومنذ أن قلت إنك قادمة كان كالطفل . اضطر ماك أن يعطيه مهدئا غير مرة." " ماك ؟" " الدكتور دانكان ماكدونا هو معروف لدى أبناء الجزيرة باسم ماك أنه لم يفقد أبد لهجته الاسكتلندية الواضحة وهو ووالدك صديقان قديمان." ". " بماذا يشعر أبي ؟" " لا نعلم ماك طلب منه أن يذهب ليعرض نفسه على صديق له أخصائي في سيلان . لكنه رفض بإصرار أرجو أن تحاولي إقناعه." " سأحاول بالطبع ." ربتت ميغان على ذراعها : " أنا سعيدة بمجيئك يا جين فأنا في حاجة ألي صديقة تخفف عني وطأة الرجال." " هل هذا أمر سيء ؟" " كلا , ولكن ليس في وسعك أن تتحدثي معهم بالطريقة نفسها , أتستطيعين ذلك ؟ ابني كولين سيحاول على الأرجح أن يختطفك بعيدا , لكنني سأكون حازمة." " كولين ما عمره ؟" كانت جين تتصوره غلاما في سن المراهقة . " 23سنة. إنه يعمل لدي غافين ." " أنا لا أعرف أي شيء عنك وعن عائلتك ." " أنا أقطن قريبا من أبيك . وعندما أقول جارته الملاصقة فهذا صحيح إلي حد ما لكن منزلي يبعد عنه حوالي نصف ميل تقريبا . أنا أرملة منذ سبع سنوات وأعيش مع كولن . أما أبوك فيعيش وحيدا باستثناء ألين مديرة المنزل هي لطيفة للغاية ولكنها ميالة جدا إلي السيطرة . ثم هناك غافن." " أتعنين أن غافن جار لأبي أيضا ؟" " نعم يجب أن تري منزله يا عزيزتي أنه خرافي . فهو في الواقع يملك الجزيرة ويفرض عليها قوانينه الخاصة كما ستكتشفين بنفسك." ضحكت ثم استطردت : " هناك ليوني سمايث وابنتها سارة لكن منزلهما يبعد أميالا عدة . ستلتقين بهما حتما . أحب أن أعرف رأيك فيهما , إن ليوني ترغب في أن ترى أبنتها زوجة لغافن , وهي قد ترى فيك المنافسة الخطيرة . ألم يقل لك أحد بعد كم أنت جميلة ؟ لو كنت أملك عينيك الخضرواين لكنت في قمة السعادة ." صمتت جين , أدركت فجأة ان ميغان كانت تتحدث في صدق , الخالة دورثي غرست فيها وبصفة مستمرة أنها مجرد فتاة عادية , وتقبلت هي هذا الوضع , كان ذلك يجعل الحياة أسهل . والآن بدأت تدرك أن آراء الخالة ليست دائما في محلها . وصلتا إلي المنطقة المتحضرة , بدت لمحات خاطفة لبعض الفيلات من خلال أشجار النخيل الكثيفة , مبان منخفضة بيضاء ذات أبواب ملونة , وصاحت جين : " إنها رائعة ." " وصلنا الآن إلي منزل غافن , انظري إلي يسارك يا جين , هناك منزل عال ذو شبابيك خضراء وسطح به حديقة ملأي بالأشجار والأزهار اليانعة المورقة من كل نوع ولون." " هل يسكن هنا ؟" " نعم , أنه يقيم حفلات رائعة تظل حديث سارامنكا كلها ." شعرت جين بما يشبه الجيشان بسبب حرارة الجو من جهة وبسبب ازدياد كرهها لغافن الذي يحظي , على ما يبدو , باحترام المرأة التي ترافقها . وعقدت العزم على ألا تذهب إلي أي من حفلاته إذا دعاها وهذا أمر مستبعد . أدركت , وقد أسرعت خفقات قلبها , أنهما يقتربان من منزل أبيها . كيف سيكون شكل البيت من الواضح أن هناك ثراء أين هو مما قالت الخالة دورثي ؟ قالت انه على الأرجح يعيش في كوخ بناه من أعشاب الشاطئ يا ليتها كانت هنا الآن. " أشكرك لك يا مغان حضورك للقياي." ضحكت ميغان قائلة : "يجب أن أعترف بأنني كنت متشوقة لأراك آمل أن أكون حاضرة عندما تلتقين ليون وسارة ." " أنا أرجو ذلك أيضا يا عزيزتي ". " وصلنا " انعطفت السيارة إلي طريق خاص واسع متعرج يشبه كثيرا الطريق المؤدي إلي منزل غافين غرانت غير أن المسافة بين الطريق والفيلا . البيضاء التي ظهرت الآن كانت أقصر . شهقت جين في دهشة عندما شاهدت المنزل . كانت هناك شرفة طويلة فيها أعمدة بيضاء نحيلة تدعم قرميد السقف . وكانت النوافذ ذات لون أخضر فاتح وقد فتحت على مصراعيها أمام أشعة الشمس . كل هذا محاط بمنظر الأزهار والورود ذات الرائحة الشذية وقد ترعرعت في انطلاق حول الحشائش الخضراء . " قالت جين : " لم أكن أتوقع أن يكون بيت أبي في مثل هذا الجمال ." " حسنا تعالي يا عزيزتي فأبوك ينتظرك ." كان هناك شيء غريب في الطريقة التي تحدثت بها ميغان لكن جين لم تكتشف السبب ألا بعد فترة . خرجت من السيارة وهي تشعر بالتعب . وسط حرارة شديدة مشبعة بالرطوبة . قالت ميغان : " ستعتادين ذلك حاولي الاحتفاظ بطاقتك إلي ما بعد الظهر وأؤكد لك أن الجو يصبح أبرد وألطف في المساء ." دخلتا إلي بهو رطب جدرانه بيضاء فيه سجاجيد رقيقة فوق أرضيته الخشبية اللامعة . كان هناك أيضا العديد من اللوحات المعلقة فوق الجدران . وغيثار ينعكس خشبه الداكن مع لون الجدار الأبيض المبهر من خلفه فرحت جين برؤية الغيتار وكانت على وشك أن تتكلم عندما سمعت صوتا يقول : " ميغان , هل أحضرت ابنتي معك؟" جاء صوت ميغان بنغم شجي : " نعم يا جون , وستأتي فورا ." دخلتا غرفة جلوس فسيحة في مؤخرتها نوافذ واسعة تطل على مزيد من الحدائق تنحدر نحو غابة من النخيل ذي الورق اللامع المتموج . تناثرت في الغرفة قطع من الأثاث الخيزراني البسيط التي أعطت انطباعا بالأناقة وقد أمتلات الجدران بمزيد من اللوحات . وسط كل هذا كان الرجل هو الذي أستحوذ على انتباه جين وقد تلاشي كل ما عداه وهو ينهض من مقعده وذراعاه ممدودتان. " جين ,ابنتي ..." كان صوته منفعلا , واتجهت نحوه كأنها في حلم . كان هذا هو الرجل الذي حلمت به ولم تتخيل أنها ستراه . كان اكبر سنا مما كانت تظن ذاكرتها , لكن جون ريتشي كان رجلا وسيما , وكان شعره الداكن الذي يتخلله لون رمادي باهت ممشطا إلي الخلف كاشفا عن جبين عريض , كانت عيناه تشبهان كثيرا عيني ابنته , حنونتين , مليئتين بالحزن . " أبي , أبي !." " جين طفلتي بعد كل تلك السنوات ." تعلق كل منهما بالآخر في صمت ثم أبعدها في رفق : " دعيني أتأملك . أنا لا أصدق أنك أنت ابنتي حقا ." " نعم أنا أبنتك . وعندي الكثير مما يجب أن تطلع عليه ." " لا . ليس الآن قلت لي ما يكفي يا جين في رسائلك . لست في حاجة إلي أن تقولي لي شيئا عن شخصية دورثي . أين ميغان ؟" عادت ميغان وهي تبتسم : " سمحت لي إلين أن أحضر لكما هذا بنفسي . ستحضر هي بعض الكعك ." استطردت ميغان وهم يتناولون القهوة: "رأينا غافن في المطار . لم أكن أعلم أنه سيكون على الطائرة نفسها مع جين." رفع جون ريشي وحاجبيه في دهشة : " ولا أنا أيضا , غريب أنه لم يذكر ذلك عندما كان عندي أمس ." نظر إلي جين متسائلا : "ما رأيك فيه ؟" وقبل أن ترد جين اندفعت ميغان ضاحكة : " أخشي يا جون أن تكون جين قد أخذت انطباعا سيئا عنه . حدث مشهد صاخب في مطار جافر ويبدو أنه كان هو المتسبب فيه ." ابتسم جون ريتشي وقال : " آه فهمت , يمكن أن يكون مخيفا إذا كان في إحدى نوبات طبعه الحادة . لا بأس غدا تعرفه تماما عندما تتعرف إليه . أنا متأكد من ذلك والآن أخبريني يا جين ما رائك في سارامنكا ؟ أهي كما تصورتها." تنفست جين الصعداء وراحت تروي لأبيها ما شاهدته . دخلت إلين , وكانت امرأة ملونة ضخمة , وهي تحمل صحنا كبيرا مليئا بالكعك والشطائر قدمها جون ريتشي لجين وكان من الواضح أنه يحمل لها الكثير من التقدير . وعندما غادرت الغرفة نظرت ميغان إلي ساعتها وقالت: " يجب أن أذهب الآن إلي اللقاء, سأمر غدا لأراكما ." " أن ميغان صديقة طيبة , وكذلك أبنها كولين ستكون هذه أجازة طيبة لك وسأبذل كل ما في وسعي لأجعلها كذلك ." " يكفي إنني هنا لم أتخيل لحظة أن ذلك سيتحقق." أمسك جون ريتشي بيديها وقال: " لن نأسف على ما فات . أن المستقبل هو كل ما يجب أن نفكر فيه الآن أريدك أن تفكري بجدية في البقاء معي , أن تجعلي من هذا المكان بيتا لك " كان لكلماته وقع غريب على جين . "أنا_ أنا ". " لا ليس الآن . أنا لا أريدك أن تقولي شيئا الآن . أنا رجل ثري يا جين . لقد كنت محظوظا وليس لي من أشاركه ذلك سواك . لكن القرار هو قرارك . وأنا لست مستعجلا أشعر أنني صغرت عشر سنوات بعد أن رأيتك . إنك تشبهين أمك كثيرا ." توقف برهة ثم استطرد : " لدي الكثير لأقوله لك _ ولكن ليس الآن . سأستدعي إلين لتريك غرفتك . استغرقت في إعداده أياما عدة." ابتسمت جين وقد بدا عليها الإعياء , ثم تذكرت شيئا فقالت : " رأيت آلة غيتار في البهو . أتعزف علي الغيثار ؟" لمعت عيناه قائلا : " كنت معتادا على ذلك في الماضي . لا تقولي لي إنك تعزفين الغيتار أيضا؟" " نعم تعلمت ذلك في المدرسة . كنت أود أن أحضر غيتاري معي لكني لم أستطع نظرا للوزن المسموح به للأمتعة ." ضحك والدها وقال : " هذا رائع ! جين تلعب الغيتار , لا أصدق ذلك . أتدرين أنه كان أول آلة أتعلم العزف عليها والآلة الوحيدة كذلك . عديني أن تسمعيني بعض الموسيقي غدا ؟" " أعدك بذلك ." انحت جين لتقبله في الوقت الذي دخلت إلين تطقطق بخفيها على أرضية الحجرة البراقة وقالت لها: " أنك في حاجة إلي أن تنامي قليلا , وغرفتك معدة . تعالي معي 0 عندما استيقظت جين كان الظلام مخيما وكانت الغرفة باردة . أحست بالجوع فجأة . قفزت من سريرها , لبست خفا من الفرو وتدثرت جيدا ثم ذهبت إلي الحمام . رأت ضوءا منبعثا من الطابق الأسفل , وبعد تردد نزلت في هدوء . كانت تأمل أن تجد شيئا لتأكله , سارت عبر البهو حيث كان ضوء خافت يسطع على الغيتار وعلى اللوحات . توقفت جين أمام أحداهما , وقد نسيت جوعها وهي تحدق في الألوان الزاهية في لوحة صياد يقف في جوار زورقه , كانت لوحة بالألوان الزيتية بدت أكثر أثارة وغموضا تحت الضوء الخافت . خيل إلي جين أنها شاهدت اللوحة من قبل . ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟ أحست بالحيرة , واستأنفت في هدوء يشدها ذلك الوهج الدافئ المنبعث من مصباح في غرفة تقع في نهاية الممر , دفعت الباب لتجد نفسها في المطبخ . أتت إلين بحركة خفيفة في مقعدها الهزاز ثم فتحت عينيها وابتسمت لجين قائلة : " أنت جائعة أليس كذلك ؟" " نعم . أنا آسفة يا إلين إذا كنت أزعجتك ." " لا يا طفلتي . لقد كنت أريح عيني فقط كنت أعلم أنك ستستيقظين في هذا الوقت . الجميع يفعلون ذلك بعد رحلة طويلة . أجلسي . هناك بعض الدجاج سأحضره لك ." " شكرا يا إلين . رأيت منذ قليل لوحة زيتية في البهو . هل أحضر أبي معه العديد من الرسوم عندما جاء إلي هنا؟" " ماذا ؟ أنها ملكه . اعني أنه هو الذي رسمها . ألم تعرفي ذلك ؟" كانت دهشتها تعادل دهشة جين نفسها . " أتعنين أن أبي رسام ؟ هذا غير معقول." " نعم أنه كذلك . بل أنه أهم رسام . هو يبيع لوحاته في مختلف أنحاء العالم . أحقا لا تعرفين ؟" هزت جين رأسها وهي مذهولة . أن هناك الكثير لا تعرفه , بلا لا يمكن لها أن تتخيله وقد بدأت الأشياء الآن تنتظم في شكل محدد : " لم أعلم شيئا عن أبي , لم أعلم شيئا على الإطلاق يا إلين , إلي أن اكتشفت رسائله ورددت عليها ." " أصدقك يا طفلتي . لا تضطربي هكذا . أني فخورة بأني أعمل لدي والدك . لقد حضر خبراء من شتى أنحاء العالم إلي هنا ليروا اللوحات ويبتاعوها . ألم تشاهدي أيا منها من قبل ؟" هزت جين رأسها في ذهول : " لا أعلم لكن اللوحة التي في ا لبهو , لوحة الصياد والزورق , تبدو مألوفة لدي ." " قد تكونين شاهدتها في الصحف . فقد جاء إلي هنا في العام الماضي مراسلو عدد من المجلات والتقطوا صورا لإعمال أبيك . إن اسم اوغستاس ريتشي معروف في العالم كله." همست جين قائلة : "أوغستاس . أوغستاس . بالطبع كم كنت حمقاء !" لقد رأت طبعات لرسومه الحية لبعض الجزر . مناظر طبيعية زاهية الألوان ذات أسلوب مميز الحق عليه الخبراء صفة البدائية . وأستوقف نظرها أسم ريتشي أيضا , لكن هذا هو كل ما حدث . لم تكن لتتخيل أن أباها هو الذي رسمها . " بالطبع , أسمه جون لكن أسمه الآخر أوغستاس وهو يعني الشخص ذا المكانة الرفيعة ." تنهدت إلين , كان وجهها ترتسم عليه الطيبة وهي تطقطق فوق أرضية المطبخ لتضع الطبق أمام جين . " لديك الكثير لتعرفيه عن أبيك , أليس كذلك ؟ إنه سعيد بمجيئك , يمكنني أن أري ذلك وقد سررت لذلك أنا أيضا ." " أشكرك يا إلين ." ابتسمت جين قائلة , وهي تحس بعاطفة مفاجئة نحو هذه المرأة : " أنا لا أشعر بالنعاس . هل استطيع أن أخرج لأتمشى في الحديقة ؟" " بالطبع . يا حلوتي , لا لصوص هنا في سارامنكا . ولكن هل أنت متأكدة من أنك ستخرجين في هذا الوقت المتأخر." " متأكدة طبعا . وإلا فلن أستطيع النوم." " سأحضر لك مشعلا ,فوالدك لن يسامحني إذا تعثرت وأصبت . عديني ألا تبتعدي كثيرا عن المنزل ؟" " أعدك يا إلين . أريد فقط بعض الهواء النقي." " إذن اصعدي حالا وارتدي معطفا فوق قميص النوم . فالجو بارد في الخارج سأحضر لك المشعل ." ركضت جين سعيدة إلي الطابق الأعلى . فكرت أن تسير عبر ذلك الممر لتصل إلي الطريق ثم تعود . أن ذلك سيساعدها في تخفيف وقع الأنباء المتراكمة عليها . أنبعث صوت الحصى المطحون تحت قدميها ولفتها رائحة أزهار خفيفة . كان الجو باردا , وشعرت بالسعادة لأنها تدثرت بالمعطف. ممسكه بالمشعل . وقفت قليلا في الظلال بعيدا عن المنزل حتى تعتاد عيناها على الظلام . كان الليل هادئا والسماء مرصعة بالنجوم تتلألأ على مدى أبعاد لا نهائية . كان الإشعاع الخافت المنبعث من القمر يعطيها ضوءا كافيا لترى طريقها . تنفست جين في عمق وأحست بسعادة مطلقة تحتاجها , لم يكن هناك خطأ في تصرفها . قطعت الآف الأميال لتصل إلي هنا واختفي تماما كل المخاوف والآلام . إن والدها يريدها , وهذا هو كل ما يهم . سارت ببطء وحرص , وكأنها تخشي السكينة المسيطرة , ثم ما لبثت أن سمعت نباحا رهيبا وصوتا يصرخ : "كارلو , قف مكانك." خمد الكلب وهو يئن أنينا خافتا ورقد تحت قدمي جين , أخذت تبحث عن زر المشعل ثم أضاءته لتجد غافن غرانت يتقدم نحوها في خطى واسعة.
2- اللقاء
هل أرعبك الكلب ؟ لا تخافي فهو لن يؤذيك كان قلب جين يخفق بسرعة وهي تواجه الرجل الضخم الذي كرهته من النظرة الأولي : " هل يقفز هكذا دائما في وجه الناس ؟" " لا ,أنه لا يفعل ذلك . لكنه أيضا لا يرى عادة أي شخص في هذه الساعة المتأخرة من الليل ." كان صوته هادئا , وكان يمكن أن تجده جذابا ولكن بسبب ما حدث , أحست جين بكيانها كله ينفر من الرجل . قالت وقد استدارت عائدة إلي منزل أبيها . " على أن استأذنك قبل أن أتمشي في الليل ثانية ." " أتقطنين هنا؟" "نعم , طابت ليلتك ." " أذا , أنت أبنه جون؟" استدارت نحوه . وقالت: "نعم أنا أبنته." كانت جين ترتجف لكنها كانت واثقة أنها إذا استمرت تتحدث إلي الرجل فإنها ستقول شيئا تأسف عليه . لم تكن تفهم سبب التأثير الغريب لذلك الرجل عليها ولكنها كانت تعرف تماما أنها لم تلتق من قبل شخصا آخر يستطيع أن يثير فيها مشاعر الغضب مثل هذا . راعها بل أفزعها أن تكتشف أنها وهي الهادئة المتسامحة , قادرة علي الإحساس بمثل تلك الكراهية . " أنا غافن غرانت , جار أبيك يا آنسة ريتشي . أمل أن نلتقي ثانية في مناسبات أفضل من هذه . هل أصحبك إلي المنزل؟" " لا شكرا , يمكنني أن أتدبر الأمر ما دمت قد أبعدت كلبك ." استدارت جين وسارت في أنجاه باب المنزل . وخيل إليها أنها سمعت صدى هازئا لكلماته . لقد كان هناك شيء آخر في صوته غير ذلك الإحساس بالدهشة _ كان هناك خيط دقيق من الاحتقار . وأحست جين وكأن وجهها يشتعل وسط الظلمة الباردة كيف يجرؤ أن يتحدث إليها هكذا؟ استغرقت جين في النوم حتى ساعة متأخرة من النهار . نهضت ونزلت مسرعة إلي الطابق الأسفل يخامرها شعور بالذنب لتأخرها متلهفة في الوقت نفسه إلي لقاء أبيها . وعندما اقتربت من غرفة الجلوس الفسيحة توقفت عند سماع أصوات في الداخل . إن لديه زوارا . أصلحت جين من شعرها . كانت ترتدي ثوبا بسيطا حاكته بنفسها من القطن الأزرق بلا أكمام . وقفت جين أمام الباب في توتر ثم طرقته ودلفت إلي الداخل. استقبلها أبوها بذراعين ممدودتين قائلا : " جين يا عزيزتي , أطلعت على تفاصيل مغامرتك ." أيقنت جين دون أن تلتفت أن الرجل الواقف أمام المقعد المواجه لأبيها لم يكن سوى غافن غرانت . " طاب صباحك يا آنسة ." التفتت جين تجاهه وظلت ممسكة بيدي والدها . " طاب صباحك يا سيد غرانت ." كانت تلك هي المرة الأولي التي تراه بوضوح , رأت عينيه رماديتين تتفحصانها بهدوء . كان وجهه صارما وذقنه مربعة متجهة بعمق إلى الأسفل. شعره الداكن الأملس الذي كان يعلو جبهته بتنسيق جيد كان أطول قليلا من المعتاد.أما فمه كان واسعا فيه لمسة من القسوة. مد لها يده محييا فأمسكت جين بها على مضض وأحست بقبضته القوية . حدثتها غريزتها بأنه رجل قوي خطير وان هناك كراهية مقنعة من جانبه تجاهها تثير قلقها وحيرتها في أن. قال أبوها وهو يضغط على يديها : "لندع الرسميات جانبا .أليست جميلة ياغافن؟" احني غافن غرانت رأسه قليلا بقدر من الافتعال: "بالطبع جئت لأعتذر عما حدث بالأمس , يا جين" "ليس هناك داع للاعتذار, فكل شيء على مايرام." جلست جين تستمع إلى حديث الرجلين وهي تشعر بأنها تريد مغادرة المكان لقد سيطر غافن على الجو كانت تشعر بعينيه مثبتتين عليها حتى من دون أن تنظر إليه . وأحست بغصة : كان في الثلاثينات من عمره, إذ مظهر قوي يوحي بأن لديه القوة الكافية لسحقها إذا أراد ذلك . وبعد جهد تمكنت جين من أن تقول , منتهزة فرصة من الصمت : " سأذهب لأتناول فطوري يأبي فأنا لا أحب أن أدع إلين تنتظر فاسمحا لي." وقفت واتجهت صوب الباب , فتحرك غافن ليفتح لها الباب . " شكرا." تبادلا النظرات . كان هناك ذلك الإحساس العدائي , وبرغم أنه كان مقنعا بصورة بارعة , ألا انه كان واضحا تماما لجين . وتضايقت . لماذا يكرهها؟ ليس لديه أي مبرر لذلك . اتجهت جين ناحية المطبخ وهي تشعر بالقلق لتطور الأحداث. يبدو أنها نسيت كل شيء الآن وهي تسير ببطء مع أبيها في الحدائق الشاسعة المحيطة بالفيلا وسمعت هدير البحر . فاستدارت نحو أبيها وقالت: "لم أعلم أننا قريبون من البحر إلي هذا الحد ." "للأسف أننا لا نراه من المنزل , ولكن ليس في وسع المرء أن يمتلك كل شيء . إن غافن يقيم أحيانا حفلات على شاطئ البحر . أريد أن أدلي بعض الملاحظات في هذا الصدد." " لا توجهها إلي أرجوك , فليس لي شأن في هذه الأمور." " هل أفهم من ذلك أن هناك بعض الفتور بينكما ." " أنا آسفة يأبي . لم أقصد ذلك ." " لا تكوني عصبية إلي هذا الحد . فقد كنت أهزل معك فقط أنا أعرف تماما أنه مستبد إلي حد ما . لكنك ستجدينه شخصا رائعا عندما تزداد معرفتك به ." كان واضحا أن والدها معجب بغافن غرانت فهو جاره وصديقه أيضا . أما هي التي وصلت بالأمس فهي مجرد دخيلة . كيف يمكنها أن تتجرأ وتقول أنها تجده متعجرفا للغاية وأنها لن تنسي أبدا تصرفه في المطار. ابتسمت وقالت : " أنا واثقة من انه لطيف للغاية . كنت بلهاء . أرجوك دعنا ننسي ذلك أريد أن أعرف الكثير عنك . لماذا لم تشر إلي لوحاتك في رسائلك إلي؟" تنهد جون وقال: " روت لي إلين ما دار من حديث بينكما أمس . أنا لم أشر إلي ذلك لأني أردتك أن تحضري لرؤية والدك , وليس لرؤية رسام سخيف." " كنت سأحضر في كل الأحوال ." جلس جون وجين في أريكة تحت ظل نخلة طويلة , صدر حفيفا كان الهواء مثقلا برائحة نبات الياسمين البري . كل شيء فيه لمسة جمال زاهية فأحست جين بالراحة وقالت : "ما تخيلت أن يكون كل شيء رائعا هنا..." وفجأة غيرت مجري الحديث وقالت : " لم أكتشف أنك كنت تراسلني إلا منذ شهر فقط." " كنت أعرف دورثي تكرهني لكني لم أكن أتصور أبدا أنها ستنحط إلي هذا الحد. وعندما كتبت إلي ." " هل كتبت إليك؟" " نعم ! لا تقولي لي أن ذلك كان دون علمك ." " متى كان ذلك فأنا لا أعلم شيئا؟" " منذ حوالي عامين عندما استقر بي المقام هنا . كتبت لتطالبني بأن أكف عن إزعاجك وأنك لا تريدين سماع أي شيء يتعلق بي وأنني أضيع وقتي هباء في الكتابة إليك." ارتعشت شفتا جين وهي تقول : " لا .. لا لكنك واصلت الكتابة بعد ذلك ؟" " لم يكن أمامي حل آخر . فكرت أنك في يوم ما ستصفحين عن إنسان عجوز ." قالت والدموع في عينيها : " لا تقل ذلك أرجوك . أنا لا أفهم يا أبي لماذا كانت تفعل ذلك , وربما لن أفهم أبدا , ولكني أقسم أنني كنت ولو وصلتني رسالة واحدة منك ." " أعلم ذلك الآن يا طفلتي . دعيني أقول لك شيئا آخر قبل أن ننهي هذا الموضوع . عندما تركت أمك , كان ذلك لأنها طلبت مني أن أرحل , لقد أحببتها لكني أدرك الآن بعد ما فكرت في الأمر طوال تلك السنوات أن دورثي هي التي أثارتها ضدي . إنها بشكل ما المتسببة في انفصالنا وأنا أعلم ألان لماذا فعلت ذلك؟" تساءلت جين ببطء : "هل كانت تحبك ؟" " نعم , أتصور ذلك . التقينا منذ عشرين سنة في سانت ايف أثناء العطلة الصيفية . كنت في الخامسة والثلاثين من عمري وكنت فقيرا أحاول أن أمارس هواية الرسم لكني لم أكن قد حققت شيئا بعد . ثم التقيت دورثي وشقيقتها . كانت دورثي في الثلاثين من عمرها وكانت والدتك تصغرها بخمس سنوات. تعارفنا وأخذنا نتبادل أطراف الحديث كما يفعل الناس عادة في عطلاتهم . كانت دورثي هي الأخت المسيطرة . أما لوسي والدتك فقط شدتني كثيرا . خرجنا معا عدة مرات , أحيانا مع دورثي , وأحيانا آخري بدونها إذا تمكنا من ذلك . أعتقد أنها ظنت انه من الطبيعي أن أرغب فيها ما دامت هي الأقرب لي سنا . وعندما طلبت من والدتك أن تتزوجي كنت صريحا معها . قلت لها أني سأبحث عن عمل لكن الرسم هو طموحي الكبير وتفهمت أمك ذلك بعكس دورثي." استطرد محدقا أمامه في لاشيء وكأنه يعيش الماضي من جديد . " كان منزل الأسرة كبيرا يكفي لعدة اسر , والأختان كانتا تقطنان فيه وحدهما منذ وفاة جدك . فكان من الطبيعي أن نعيش أنا ولوسي في المنزل نفسه بعد زواجنا . قسمنا المنزل في الواقع إلي قسمين . في بادئ الأمر عشت في سعادة مع لوسي ." توقف عن الكلام وقد شاعت في عينيه نظرة ألم , ثم قال: " بدأت دورثي في أثارة المتاعب . كانت لوسي تنتظر مولودها الأول .. وربما أثار هذا غيرة دورثي لأنها أدركت أن فرص زواجها تخف مع مرور السنين . بعد مولدك تحسن الوضع كثيرا, فقد شغلت لوسي بك.وعندما كبرت وقعت أمك أكثر فأكثر تحت تأثير دورثي. فقد كنت خارج المنزل معظم الوقت حيث كنت اعمل كرسام في أحدى شركات الإعلان . ولم يكن أمامي إلا أن أمارس هواية الرسم أثناء عطلتي الأسبوعية . وهكذا كان لدى دورثي كل الوقت لتؤثر على والدتك , نجحت في ذلك . في بادئ الأمر كانت تستثيرها بتوافه الأمور :أنه يقول أنه يعمل حتى وقت متأخر في المكتب , لكن جميعهم يقولون هذا , أليس كذلك ؟ ثم بدأت تقول لها أنه يفكر في عمله أكثر مما يفكر فيك .. وهكذا باتت لوسي تشكك في تصرفاتي . وعندما كنت في السادسة من عمرك , دب شجار بيننا في أحد الأيام ووصل إلي سمعك . ووجدتني محطما وأنا أرى وجهك لأني كنت أعرف تماما تأثير ما يحدث . طلبت من لوسي أن نرحل لنعيش ثلاثاتنا في منزل مستقل لكنها طلبت مني أن أرحل بمفردي. ثم اتكأ برأسه على يديه في تأثير عميق , واستطرد بصوت هادئ : " وهكذا رحلت ." طوقته جين بذراعيها قائلة : " كفى يا أبي." سارا في بطء عائدين إلي المنزل . كانت جين تعرف أن الإفصاح عن الحقيقة نفعه وأكسبه راحة البال. في أمسية ذلك اليوم أطلعها جون على سيارته التي ظلت دون استخدام طوال ستة أشهر . كانت من طراز فورد تاونس لونها أزرق فضي . وبادرها متسائلا : " هل تعرفين قيادة السيارة يا جين ؟" هزت رأسها نفيا . " أتحبين أن تتعلمي ؟" " لا أدري , أعتقد ذلك , لكني لم أحاول." "سأطلب من غافن أن يعلمك" وعندما لاحظ ردة فعلها قال: "آه لا ؟ أسف هناك ميغان أو ابنها كولن أنا واثق انه سيسعد بذلك" في تلك الأمسية, وبعد أن تناولا العشاء, جلست جين مع والدها يتجاذبان أطراف الحديث بادرها جون: " اذهبي واحضري الغيتار وعدتني بأن تعزفي لي" أحضرت الغيتار وجلست القرفصاء علي ارض الحجرة الخشبي اللامع داعبت أوتار الغيتار بطريقة مرتجلة لعدة دقائق ثم بدأت احدي أغنيتها المفضلة . بدأت تغني دون خجل بعد أن التقطت نغمات ذلك اللحن الحزين. لم تدرك كم كان منظرها فاتنا وهي تجلس على ارض الحجرة وقد استرسل شعرها الأسود الداكن في تحرر- وانكب وجهها على الآلة الموسيقية , تحتضنها باللطف . نسيت نفسها في عالم تحبه, عالم الألحان اخذ والدها يراقبها مأخوذا وهو يستمع إلى صوتها الحلو الواضح النقي والى النغمات التي تتناثر في جنح الليل . وفجأة جاء صوت من ناحية النافذة ودخل غافن غرانت الغرفة وقد ثبت عيناه على جين وقال بصوت هادئ: "كان هذا رائعا" جذبت نفسها بمشقة . وقفزت وقد استعادت وعيها فجأة. استدار جون قائلا: "آه غافن منذ متى وأنت هنا؟ " " كنت على وشك أن اطرق الباب حين سمعت الغيتار . تصورت أنك أنت يا جون الذي تعزف, ولذا فقد أتجهت إلي الواجهة الخلفية لأستمع في صمت ." واستدار نحو جين قائلا : " أهنئك فأنت تعزفين جيدا ." " شكرا ." ونظرت إليه لتحاول إيجاد أي أثر للسخرية في نبراته ولكنه بدأ صادقا . " أني أحمل دعوة يا جون من سارة ووالدتها ." رفع جون حاجبيه في دهشة فضحك غافن وقال: " ستقيمان حفلة يوم السبت وتتمنيان لو أنك تحضر مع جين ." نظر جون إلي أبنته متسائلا : " ما رأيك يا جين ؟" تذكرت جين فجأة كلمات ميغان أمس عن حرص ليوني وسارة على رؤيتها خاصة وأن سارة التي تسعي وراء غافن لا ترغب في أي منافسة . كبحت جين ابتسامتها وهي تقول لنفسها إن هذا الأمر مسل . ليتهما تعلمان أنها لا تشكل عليهما أي خطر . فالكراهية متبادلة برغم أنه بدأ ظريفا عندما أمتدح عزفها على الغيتار . رفعت جين رأسها عن الغيتار قائلة : " أن هذا يبدو ظريفا للغاية ." التفت غافن إليها . ترى هل استطاع أن يقرأ أفكارها ؟ أن لديه نظرة رمادية ذكية ثاقبة . وأدركت جين فجأة أن عينيه جذابتان للغاية . فقال: " سأبلغهما بموافقتكما على الذهاب وستذهبان في سيارتي . والآن وقد اتفقنا , اسمحا لي بالذهاب ." " يجب أن تشرب شيئا ." أحضرت جين المرطبات ثم جلست. رفع غافن حاجبه متسائلا: "ألا تشربين معنا؟" " لا شكرا ." رفع غافن كأسه قائلا : "في صحتكما ." في تلك اللحظة دخلت إلين الحجرة قائلة : "جاءت السيدة ديفز يا سيد ريتشي." دخلت ميغان , ومعها شاب طويل وسيم أشقر لا يمكن أن يكون إلا أبنها نظرا للتشابه الكبير بينهما . قامت ميغان بمهمة التعارف بينهما , احتفظ كولن بيد جين لفترة أطول من اللازم ثم ابتسم قائلا : " مرحبا يا جين ." " أهلا بك يا كولن ." أحست بتورد وجنتيها خجلا . ترك كولن يدها على مضض واستدار نحو غافن الذي أحست جين أنه كان يرقبهما وقد علت شفتيه بسمة ساخرة." " مساء الخير يا غافن ,لم أرك من قبل." " لاحظت ذلك ." كانت نبرة غافن جافة أحست بالدماء تصعد إلي وجهها. كيف يجرؤ على مراقبتها . حدثت جين نفسها بذلك مضيفة نقطة جديدة إلي أخطاء ذلك الرجل . استطرد غافن : "وفرتما على جهدا . فقد طلبت ليوني مني أن أدعوكما إلي حفلتها يوم السبت." نظر كولن إلي جين متسائلا : " هل ستذهبين ؟" " نعم سأذهب ." "أيوافقك هذا يا أمي؟" ابتسمت ميغان للجميع قائلة: "بالطبع . سيكون مناسبة شيقة للغاية." جلس الرجال الثلاثة معا وجلست ميغان وجين في مقعدين متلاصقين وبذلك تمكنتا من تبادل أطراف الحديث دون أن يسمعهما أحد . قالت ميغان بصوت منخفض: "أتذكرين يا جين ما قلته لك ؟" " نعم أذكر ." " هل لي أن أعطيك نصيحة ؟" " بكل تأكيد أرجوك." " استمعي جيدا . الذين سيحضرون الحفلة سيكونون غاية في الفتنة والأناقة . وأنا واثقة من أنك ستستمعين بتلك الأمسية ولكنها لن تكون مجرد حفلة ... أنها ستكون جلسة تقييم . أنا آسفة أن أقول ذلك بطريقة فجة ولكن دعينا نصعد إلي حجرتك لانتقاء ما يمكن أن ترتديه في تلك الحفلة." قالت الجملة الأخيرة بصوت مرتفع كمبرر لانفرادهما . وفي غرفة جين في الطابق الأعلى خلعت ميغان حذاءها وجلست على حافة السرير قائلة: " آه هكذا أفضل." بدأت تضحك بصوت جذاب ثم نظرت إلي جين وهي مستغرقة في التفكير ثم قالت: " أعتقد أننا سننسجم معا ." " تتحدثين بشكل يوحي بأنك ما كنت تتوقعين ذلك ." عكست نبرة جين حيرتها . فهناك شيء لم تفهمه في قول ميغان . هزت ميغان رأسها وقد شعرت بالضيق: " أنا آسفة , لقد أوقفتني عند حدي." استطردت جين بلهفة : " لا تعتذري , فأنت على حق . سأقول لك شيئا الآن ." " أنا دائما أعترف بخطأي وقد ارتكبت خطأ في حقك دون قصد؟" انتظرت جين في صمت . فقد أدركت أن كلماتها غير المتعمدة فجرت شيئا سيفسر لها ما كان يحيرها إزاء عدة أشياء. أغلقت ميغان عينيها ثم استطردت: " عندما أبلغنا أبوك أنك ستأتين بعد كل تلك السنوات اعتقدنا كلنا أنك جئت من أجل أن..." ترددت قليلا فاستحثتها جين: "استمري أرجوك." " ظننا انك جئت فقط بعد أن عرفت أن أباك رجل ثري ولذلك فقد أتيت لتأخذي كل ما يمكن أن تحصلي عليه . اعتقدنا بأنك تجاهلت أباك كل هذه المدة وألان بعد أن مرض وتوقف عن الرسم الأمر الذي زاد بصورة تلقائية من قيمة لوحاته , قررت الحضور. ولذلك استغربت كثيرا عندما تملكتك الدهشة لدى رؤيتك منزل أبيك . عرفت من وجهك انك كنت صادقة وحين ذاك بدأت أفكر في أننا كنا على خطأ." جلست جين في صمت . كان هناك شيء آخر يجب أن تعرفه فأردفت : " ميغان لقد استخدمت عبارة كنا فمن انتم؟" " كلنا يعني أنا وغافن ." " إذن هذا هو السبب!" " السبب في ماذا ؟" استدارت جين وقالت: "عندما التقيت غافن , بدأ وكأنه يكرهني . لم أعرف لماذا يحمل لي هذا الشعور وتصورت أنه كذلك مع الجميع ولكني الآن فهمت يظنني اسعي وراء المال وكل ما استطيع أن أحصل عليه . سأخبرك كل شيء ." وبدأت جين تروي القصة كلها وكيف اكتشفت وجود أبيها مصادفة وقول خالتها دورثي أن أباها يسكن في كوخ على الشاطئ : عندما أنهت جين قصتها ساد صمت مطبق , وأخيرا قالت ميغان: " يا طفلتي الصغيرة المسكينة , ماذا استطيع أن أقول ؟" " لا تقولي شيئا. أردت أن تعرفي كل شيء كي لا تخطئي في حكمك علي." " أوه يا عزيزتي , عندما أخبر غافن بالحقيقة فانه ..." قاطعتها جين : " لا . لا أريدك أن تخبريه." " لكن لماذا ؟" " لأني أحتقره . أنه يتصور أني أسعي وراء المال أذن دعيه يستمر في هذا التصور . أنا لا أهتم برأيه . فهو متعجرف مستبد .. وأنا لا أظن أني كرهت شخصا قدر كرهي له في حياتي . أنا اعرف أنه صديق أبي ولهذا السبب فقط سأحاول أن أكون مهذبة معه , عشت ست سنوات مع خالة تشبهه إلي حد كبير وتحملتها طوال ست سنوات وفي وسعي أن أتحمل ذلك الرجل غافن غرانت إلي حين . فإذا لم يتعلم كيف يحكم على الناس بما يتفق مع حقيقتهم , وليس كما يراهم هو , فأنه بالنسبة إلي شخص لا يستحق المعرفة. تبادلت المرأتان النظرات . كان في عيني جين تحد شجاع لم يكن في مقدور ميغان إلا أن تعجب به . ابتسمت ببطء قائلة وهي تتلفت في أرجاء الغرفة: " جئنا أصلا لنتحدث عن الحفلة ." ضحكت جين قائلة : " أن هذا سيبدو الآن مصطنعا . ألم تكوني تنوين تحذيري من أن سارة تعتبرني منافسة لها . أن هذا لا يمكن أن ينطبق على بعد كل ما قلناه ." " ليس هذا هو كل ما أود أن أقوله . أن سارة برغم سحرها وجمالها ستحاول ببراعة أن تجعلك تبدين كالبلهاء . وهي ستستخدم لذلك أسلوبين . إما أنها ستتصل بك تليفونيا قبل يوم السبت وتطلب منك ألا ترتدي أي شيء نفيس مؤكدة أن أي ثوب بسيط يكفي , أو أنها لن تحذرك على الإطلاق وفي تلك الحالة ستذهبين وقد ارتديت أفضل ما عندك في حين أن باقي المدعوات ترتدين ثيابا صباحية بسيطة فتجدين نفسك في زى شاذ ." " يالعجب , كم هم أناس ظرفاء ..." ابتسمت ميغان قائلة : "فعلت ذلك من قبل , ولكن في هذه المرة لن تكوني وحدك , سأقف إلى جانبك . الديك ثوب ظريف لترتديه ؟" " ليس تماما . فخالتي دورثي لم يكن بوسعها أن توفر لي شيئا ممتازا ومن جانبي فقد أنهيت منذ قليل دراستي المتوسطة ." " أعتقد أننا يجب أن نبحث الأمر مع والدك . فهناك محل تجاري كبير في بورت باتريك هو ملك لغافن بالطبع ويمكننا أن نجد فيه الكثير أن غافن يملك المحل التجاري الكبير والوحيد في سارامنكا وبالمناسبة هو يملك أيضا الفندقين الوحيدين فيهما . لأنهما يقدران بثروة فوالده هو في الواقع الذي وضع سارامنكا على الخريطة العالم . وهذا هو السبب الذي يجعل سارة تبذل كل هذا الجهد من أجله . دعيني أسألك هل ستحاولين تلقين غافن درسا؟" " لا , بحق السماء ." " حسنا فأنا كنت سأحذرك من ذلك . فهو صلب للغاية وفي وسعه أن يكون قاسيا وأي شخص دخل معه في صراع يمكنه أن يقول لك ذلك ." ولكن هل أن ما قالته لميغان صحيح ؟ لم تكن جين تعرف بالضبط كيف ستتصرف إزاء غافن وشعرت بما يشبه الدوار وهي متجهة إلى غرفتها تزدحم في رأسها الآف الأفكار .
- الدعوة
كان اليوم التالي يوم الجمعة . أبلغت إلين جين أن هناك من يريدها على التليفون ولما التقطت السماعة سمعت سارة تقول : " أهلا بك يا جين , أنا وأمي نشكرك لقبولك دعوتنا ونتوق إلي رؤيتك , فالحياة هنا يشوبها بعض الملل لذا فمن الممتع أن نري وجها جديدا . اتصلت بك في الواقع لأبلغك إلا تشغلي نفسك بما سترتدينه غدا . فالحفلة غير رسمية . ألا تظنين أن هذا سيكون أفضل ؟" وفكرت جين بتحذير ميغان . لم تصدق أن الخداع يصل بالبشر إلي هذا الحد . ربما تكون سارة , تلك المخلوقة العذبة الصوت عبر التليفون , مناسبة جدا لغافن . فهما من نوع واحد. أنهت جين المكالمة وهي شاردة الذهن ثم بادرت بالاتصال بميغان وأطلعتها على اتصال سارة . تذكرت جين شيئا وهي تنتظر وصول ميغان . لقد قام غافن بإبلاغ تلك الدعوة مساء أمس , فهل اتصل تليفونيا بسارة لإبلاغها أم أنه ذهب بنفسه لرؤية سارة . لم يكن الأمر مهما وبرغم ذلك وجدت جين نفسها تفكر فيه. بعد نصف ساعة فقط كانت جين و ميغان تعبران طريق فسيح يؤدي إلي الطرف الآخر من الجزيرة . كانت ميغان تبدو نضرة جذابة وهي ترتدي سترة بيضاء بلا أكمام فوق بنطلون أزرق بينما شدت شعرها إلي الخلف بوشاح من القماش الخفيف أما جين فقد ارتدت ثوبا تقليديا من الترلين الأزرق الذي كان خفيفا بالنسبة لجو انكلترا , أما هنا فهو يشيع فيها الدفء بدرجة غير مريحة تحت حرارة شمس الصباح . لاحظت ميغان ذلك فقالت : " الأقمشة الصناعية لا تلائم جو سارامنكا , القطن أفضل. وقد أعطانا والدك حرية التصرف ولذا سنشتري ما يناسبك في هذا الجو الحار" " أنا أشعر بالذنب لأني أنفق من حسابه الخاص . سأحرص على ألا أنفق كثيرا ." " قال لي أن أشتري كل ما تطلبين . إنه سعيد بهذه الفرصة , صدقيه يا جين ." وأحست جين بدفقه من السعادة لم يكن حتى التفكير في غافن قادرا على إفسادها . أنهما ذاهبتان إلي المحل الذي يملكه , لكن ميغان أكدت انه لا يوجد احتمال في لقائه . أضافت ميغان وكأنها تذكرت شيئا: " كولن قال لي أنه سيحاول أن يلقانا في المطعم الملحق بالمحل لنتناول القهوة . إنه مأخوذ بك الم تلاحظي ذلك؟" " بماذا أجيب من غير أن أبدو مغرورة؟" " لا تقولي شيئا . ولكن على أن أحذرك أن كولن يحب مغازلة الفتيات وقد يفيده أن يلتقي فتاة مثلك ." " سأحاول أن أتذكر ذلك ." وتساءلت جين : كيف سيكون موقف ميغان إن هي عرفت أن جين لم تصادق أي فتى حتى الآن . لقد أدت الخالة دورثي دورها جيدا وتمكنت من أن تغرس في جين شكوكا جعلتها غير واثقة من نفسها . وهي الآن تشعر بإحساس جديد بعدما عرفت أنها قادرة على أن تثير انتباه الرجال. كان لون السماء يقترب من البياض والضوء براقا , وعلى جانبي الطريق أشجار النخيل التي قد لا يخلو مكان منها في الجزيرة . ومن على بعد ترتفع الجبال بانسياب . زرقاء باهتة. أخذت جين نفسا عميقا وهي تهمس : " هذا المكان رائع ." " ولذلك فهو مكتظ بالسياح خاصة في بورت باتريك . فكل أسبوعين ترسو سفينة في الميناء وينزل ركابها إلي الشاطئ وهم ينفقون أموال كثيرة في شراء القطع المفرزة والأعمال الخشبية المحفورة . ولكن بصفة عامة يسود الهدوء الجزيرة , وأنا أحبها هكذا كما أن غافن ينوي الحفاظ على هذا الطابع ." حدثت جين نفسها قائلة .. آوه هذا الرجل ثانية ! أليس هناك مفر من ترديد آرائه. اقتربتا من المدينة . فأصبحت المنازل أكثر التصاقا وأصغر حجما . وبدأت الحدائق تتراءى لهما غنية بالألوان مضيفة سحرا على المدينة . بدت من على بعد المياه لامعة مندفعة في خليج فسيح يطل على منحدر أوصلهما إلي الطريق الرئيسي في بورت باتريك , لتجدا منطقة ملأى بالمحلات التجارية وأناسا من كل شكل ولون ذاهبين لشراء حاجاتهم من دون ازدحام في السير كما هي الحال في المدن . التفتت ميغان إلي جين متسائلة : "إلي متى تنوين البقاء في سارامنكا يا جين؟" "كنت أنوي البقاء شهرا ولكن." توقفت جين فجأة . " هل طلب منك أبوك أن تبقي معه فترة أطول؟" " نعم ." " وهل ترغبين في ذلك؟" " بالطبع أريد ذلك , لكن..." " ولكن لديك بعض الأسباب التي تدفعك لتردد . أهي خالتك ؟ أم صديق لك؟" ضحكت جين قائلة: " لا . ليس هناك صديق . لكني وعدت خالتي بأن أحاول أن أعوضها بعض ما أنفقته على ." قاطعتها ميغان وقد تورد وجهها ربما بفعل تهورها في الكلام : " أنت لست مدينة لها بشيء أنا آسفة يا جين , ليس هذا من شأني ولكن الحقيقة .." ابتسمت جين وهي تقول: " أنا أعلم . لكن كل ما في الأمر أنها امرأة وحيدة بائسة." " انتظري أسبوعا أو أكثر ثم قرري." انحرفت بسيارتها في الطريق فرعي ثم أدخلتها موقفا للسيارات وراء مبني كبير عصري . كانت هناك لافتة ضخمة كتب عليها بحروف حمراء ( محلات غرانت) كان الجو رطبا داخل المحل الذي يسوده جو من الهدوء والأناقة . كان الطابق الأرضي مخصصا للمأكولات حيث كانت الثلاجات الضخمة ملآي بكل ما يمكن تخيله من أنواع الطعام اقتادت ميغان جين إلي المصاعد لتنطلقا إلي الطابق الثاني هناك غاصت قدما جين في سجادة حمراء سميكة . انقضت الساعة التالية في التطلع والبحث وتجربة الثياب والضحك أيضا . لم تكن جين تتصور أن شراء الملابس يمكن أن يكون ممتعا إلي هذا الحد . فمع خالتها كان يتم ذلك وكأنه عمل روتيني يجب أن ينجز في أسرع وقت وأقل كلفة ممكنة. أما مع ميغان فالتجربة لذيذة , فيها شيء من روح المغامرة . وأخيرا وجدتا الثوب المنشود . كان بسيطا جدا , أو هكذا بدأ . مجرد ثوب مسترسل حتى الأرض في خطوط ملساء دون أية زركشة . حريري ذي لون ناري براق بلا أكمام أما فتحة الرقبة فقد كانت مستديرة منخفضة الصدر والظهر مطرزة بشريط حريري بني اللون على شكل أزهار صغيرة داكنة . لم تكن جين في حاجة إلى رؤية وجه ميغان المذهول لتعرف أنها تبدو جميلة . قالت ميغان في إعجاب : "ما هذا يا جين , تبدين رائعة." " نعم يا أمي أنها تبدو كذلك " استدارت جين بسرعة لتجد كولن يخطو نحوهما . كانت عيناه تحدقان في جين وحدها وأحست بالدماء تتدفق إلي وجهها. " ماذا تفعل هنا كان من الواجب أن تكون في العمل ." " إنها الحادية عشرة فترة الراحة . جئت ادعوكما إلي تناول شراب منعش . " " هلمي يا جين اذهبي واستبدلي ثيابك , سنجرب ما تبقي من الفساتين في ما بعد ." خلعت جين الثوب وارتدت ثوبها القديم . كان قلبها يخفق بسرعة لم ترتد مثل هذا الثوب المثير من قبل . فقد شعرت بأنها شخص آخر أثناء الدقائق القليلة التي ارتدت فيها الثوب . أحست بأنها جميلة تقريبا , نظرت إلي نفسها في المرآة مكشرة عن وجه ساخر في محاولة لإعادة نفسها إلي حالتها الطبيعية وهي تهمس يالك من فتاة مغرورة , ولكن برغم كل هذا ظل في أعماقها وهج دافئ . وعندما جلسوا ليتناولوا قهوة مثلجة وقليلا من الكعك رأت ميغان تنظر إليها غير مرة على نحو يوحي بأنها تشاركها في الحفاظ على سر ما . تساءلت ميغان في احدي فترات انقطاع الحديث : " أين غافن الآن ؟" " ذهب إلي أحد الفنادق ليحضر اجتماع عمل ." " الأفضل أن تعود إلي عملك , فلدينا أنا وجين كثير من العمل ." " إنها تحاول التخلص مني ." " إنك تجعلني أبدو وكأنني دكتاتورة." قالت جين في نفسها : من الواضح أن هناك رابطة حب قوية تجمع بينهما . تمنت فجأة أن تذهب معهما إلي الحفلة بدلا من غافن . كانت تعرف أنها ستكون أكثر ثقة بنفسها إذا ما وصلت إلي هذا الحشد وسط أصدقاء بدلا من أن يرافقها ذلك الرجل الذي ينظر إليها بطريقة تخيفها , فرغم تأكيداتها لميغان أنها لا تأبه لآراء غافن , فهي تعلم تماما أنها تخشاه . حتى ذلك التغير الذي لمسته فيه عندما فاجأها وهي تعزف على الغيتار , كان مقلقا بدوره . فهو رجل عميق شخصيته معقدة تمنت جين لو أنها لم تقابله. أحست أن ميغان وكولن ينظران إليها فضحكت قائلة : " آسفة لقد كنت أفكر في ثوبي الجديد ." ابتسم كولن وقال: " لو كنت مكانك لما قلقت فذلك الثوب البرتقالي سيفرض نفسه في الحفلة ." " الثوب ليس برتقاليا يا عزيزي , لونه ناري غريب." " آسف يجب أن تعذرا جهل الرجال . والآن اسمحا لي بالذهاب . مرا على مكتبي قبل أن تغادرا المتجر لتتسلما المشتريات موضبة." قالت ميغان وهما في طريقهما إلي الطابق الأسفل من المحل : " هل تسمحين لي بأن أصفف شعرك غدا؟" نظرت نحوها جين مذهولة : " ولكن .. أنا ." " أرجوك يا جين . سأبوح لك بسر . لقد كنت أعمل منذ سنوات عند أحد المزينين .. أقصد قبل أن أتزوج . كنت أتمني أن تكون لي ابنة أفعل لها كل هذا . أرجوك يا جين . قولي إنك موافقة." "سأكون غاية في السعادة ." تأبطت ميغان ذراع جين وصلتا ألي باب عليه لافتة تقول خاص بموظفي المتجر . دلفتا إلي ممر فيه مجموعة من المكاتب ينبعث منها طنين آلالات تكييف الهواء وأصوات آلالات الكاتبة وطرقتا الباب الأخير . " تفضل." دخلتا مكتبا فخما مكيفا لتجدا أن الشخص الجالس وراء المكتب لم يكن سوى غافن غرانت. " ميغان وجين ! هذا لقاء غير منتظر ." " أنا آسفة يا غافن , تصورت أن كولن هنا , جئنا نأخذ حاجيات جين فقد قال إنها ستكون جاهزة في مكتبه ." " آه فهمت . عدت منذ قليل وهو ذهب لمعالجة بعض الأمور المتعلقة بالمتجر . أعتقد أن هذا هو ما تبحثان عنه." رفع صندوقا ضخما وضعت فيه مشتريات جين تعلوها فاتورة حساب . رمقها بسرعة ثم قال : "الفاتورة محولة على حساب جون الخاص . سأحمله إلي السيارة ." أحست جين وهي تمر من أمامه بعينيه مثبتتين عليها وشعرت بحرارة في عنقها أنه يظن بكل تأكيد أنها بدأت تنفق أموال أبيها . رفعت رأسها عاليا وهي تغادر المكتب . إن هذا سيعطيه مبررا جديدا ليشعر نحوها بمزيد من الاحتقار . وبفعل الحرارة والوهج الشديد أحست جين بوخزه في جفنيها ومرارة في حلقها وبانبهار في عينيها جعلها تضع نظارتين واقيتين من الشمس. قالت ميغان وهي تبحث عن مفاتيح سيارتها : "شكرا يا غافن سنراك غدا عند سارة. " " إلي اللقاء فتح باب السيارة لميغان فأسرعت جين إلي الباب الثاني . وقد قررت ألا تنتظره حتى يفتح لها الباب بدورها , إذا كان ينوي ذلك . تبادلوا التحية وانطلقت بهما السيارة . نظرت جين إلي الوراء لتجد غافن يرقب السيارة ويعلو وجهه تعبير غامض , بادرتها ميغان قائلة : أعتقد أنني عرفت ماذا تقصدين بكلامك عن موقف غافن منك ." " هل لاحظت ذلك أيضا ؟" " نعم كان في وسعي أن أحس . يالرجال كم هم بلهاء !" " ليس هناك شك في أنه فكر وهو يتفحص الفاتورة كيف أنني أسرعت إلي أنفاق أموال أبي ." " أتمني لو تركتني أقول له الحقيقة ." هزت جين رأسها قائلة : " دعيه يفكر كما يحلو له ." كانت جين تزداد توترا كلما اقترب موعد الحفلة . فرغم تأكيدات ميغان لها من أنها تبدو فاتنة فهي تعرف أنها تعوزها الثقة الكافية لتظهر أمام هذا الحشد من الناس وكأنها تقف أمام اللجنة الفاحصة في الامتحانات . كان أبوها قد ذهب ليستريح فترة ما بعد الظهر . وعندما حضرت ميغان في الخامسة لتصفيف شعر جين نزل لملاقاتها . كان يبدو شاحبا للغاية فصاحت جين: " هل أنت في خير ؟" " سأكون على ما يرام فلا تقلقي . أنا أشعر فقط بالإجهاد أذهبا الآن وتذكرا أني أريد أن أري الثوب لأعطي رأيي فيه ." في الطابق الأعلى , وبينما كانت جين تغسل شعرها الحريري الطويل جلست ميغان في استرخاء تتابعها , قالت جين : " مما يشكو أبي بالتحديد ؟" " أن ماك لا يعرف . فبين حين وآخر تفاجئه تلك النوبات فيفقد القدرة على استخدام يديه لعد ساعات . من الممكن أن يكون السبب بعض الاضطراب العصبي . وهذا هو ما يعتقده ماك وهو يأمل في أن تتمكني أنت من إقناعه بعرض نفسه على أخصائي والمناسبة ماك سيكون في حفلة اليوم سأعرفك به وحينذاك يمكنك أن تتحدثي معه في هدوء بينما أجلس انا مع والدك." " اتفقنا ." جلست جين تجفف شعرها في غرفة نومها وأثناء ذلك أخذت تتجاذب أطراف الحديث مع ميغان . امتد حديثهما ليشمل الحياة في الجزيرة: ميزاتها وسيئاتها . هناك قدر محدودة من الفقر في الجزيرة . فسكانها الأصليون يعملون فقط في صيد الأسماك وزراعة الفاكهة والسكر وجوز الهند . هناك أيضا صناعة الأشرطة الحريرية المفرزة وهي صناعة مزدهرة . فأشرطة سارامنكا تتمتع بشعبية كبيرة بين السياح . قالت ميغان وقد تذكرت شيئا : " يجب أن تشتري بعض تلك الأشرطة المطرزة عندما نذهب إلي بورت باتريك مرة ثانية سأساعدك في استخدامها في تطريز ثوب أو قميص للنوم فهي رائعة الجمال وفي الواقع انه لو كان لدينا وقت كاف لكنا استخدمناها في حياكة ثوب لحفلة اليوم . كان سيكون مدهشا . شرائط مطرزة بيضاء , فوق ثوب حريري قرنفلي اللون ." " فعلت ما فيه الكفاية بالفعل." "سندع ذلك للمرة القادمة ." " والآن حدثيني عن سيئات الجزيرة , فهي لا يمكن أن تكون جنة . حتى لو بدت لي كذلك ." " نتعرض إلي عواصف عنيفة ومخيفة تتخللها أمطار غزيرة وهو أمر مستغرب لجزيرة استوائية ولكن هذا هو سبب الخضرة الزاهية . كما أننا أحيانا نتعرض لغزو من أسراب الذباب ولكن ذلك نادر جدا ." تراجعت ميغان عدة خطوات لتتأمل شعر جين . نظرت جين إلي صورتها في المرآة وهي لا تكاد تصدق ما ترى . كان شعرها الذي ينساب باستقامة عادة على كتفيها مشدودا إلي الوراء ثم إلي أعلى وقد ثبتته ميغان ببراعة بدبابيس لينساب بشكل شلال من الشعر الناعم اللامع المتموج ليغطي عنقها . " هذا عظيم يا ميغان , أنت حبيبتي حقا ." طرقت إلن باب غرفة نومها وقالت : " لو عرف أبوك أنني هنا لأطاح برأسي . ولكن يجب أن أقول لك فأبوك ليس في حالة تسمح له بالخروج الليلة , هذه هي الحقيقة." استدارت جين في فزع وقد نهضت من مقعدها : " ماذا هناك يا إلن ؟" " لا تقلقي . ولكنه عندما يكون في الحالة التي هو فيها الآن فالشيء الأمثل له هو أن ينام مبكرا ويأخذ قدرا وافرا من الراحة . " " إذن يجب ألا يذهب إلي الحفلة ؟" " هذا هو الأمر الذي جئت أحدثك فيه . أنه يعرف أنك ستقولين هذا وهو عازم على ألا يفسد عليك سهرتك الأولي , ولذا سيرفض وسيبذل جهدا لإقناعك الأمر الذي سيزيده توعكا." أومأت جين برأسها وقد بدأت تدرك الغرض من مجيء إلن : " إذن يجب أن أقول له أني سأذهب إلي الحفلة بمفردي." توقفت بعد أن كانت قد اتجهت صوب الباب . " لا لن أستطيع . كيف أذهب وأتركه يا إلن؟" " إذا قلت له انك لن تذهبي إلي الحفلة , فأنه سيسارع إلي القول أنه ليس مريضا وانه على ما يرام . أنه رجل عنيد ." هزت إلن رأسها في أسي واستدارت خارجة من الغرفة وقد تدلت كتفاها في يأس . أمسكت جين بذراعها قائلة : " لقد هزمتني . كل ما في الأمر أنني لا أريده أن يظن أنني أردت أن أذهب بمفردي ولكن إذا كان هذا لمصلحته ." " طبعا , أن ذلك لمصلحته بالفعل . وإلي جانب ذلك فأنت ستذهبين مع السيد غافن وأبوك متأكد من أنه سيعتني بك ." صاحت جين : "لا لقد نسيت هذا." وعندما رأت إلن تقطب جبينها في حيرة بادرت قائلة : " اعني أليس الواجب أن نبلغه بهذه التطورات الجديدة ؟" " لا يا عزيزتي سيصل بعد لحظات وهو سيسعد بصحبتك ." همست جين لنفسها : نعم أنا واثقة من انه سيسعد بذلك . أصبح الأمر الآن أكثر سوءا . أمامها الآن رحلة مرتقبة مع ذلك الرجل.. هما الاثنان فقط وليس لديهما من حديث سوى بالطبع أنانيتها في ترك أبيها المريض وحده . عادت بتكاسل إلي المرآة . تمنت لو لم تذهب , لكن ليس لديهما خيار الآن . طالعها وجهها في المرأة وهو أكثر شحوبا من المعتاد , وعيناها واسعتان تلمعان في ضوء المصباح . نظرت لصورتها في المرآة قائلة : استمري , أشعري بالشفقة على نفسك . ومع تلك الكلمات القليلة الغريبة توصلت إلي قرار . دعكت وجنتيها لتعيد إليهما لونهما ونظرت بتحد إلي نفسها . بكل عناية وحذر بدأت جين تضع المساحيق على وجهها دون أن تدرك أنها ليست في حاجة إلي أي شيء من هذا . تعثرت جين وهي تهبط الدرجات ., فثقتها الجديدة في ذاتها , وليدة التحدي , تخلت عنها للحظات عندما سمعت أصواتا تنبعث من غرفة الجلوس . فضمت شفتيها ووقفت أمام الباب المغلق يمتلكها ذعر مفاجئ لم تستطع أن تجتاز ذلك الموقف . ولكن عليها أن تفعل ذلك . فتح الباب على مصراعيه فجأة قاطعا عليها أفكارها رفعت جين يدها إلي صدرها وهي تلهث . ظهر غافن وقد بدا مندهشا مثلها . ثم تراجع قائلا : " أنا آسف ." كان صوته رابط الجأش واثقا . نظرت إليه جين للحظات عاجزة عن النطق , لاحظت أنه كان يرتدي سترة بلون الضبي الصغير رائعة الجمال وقميصا ناصع البياض مبرزا لونه الأسمر الداكن . كان شعره ممشطا إلي الوراء لامعا . أما عيناه الرماديتان فكانتا ترقبانها بفتور . أخذت جين نفسا عميقا ثم ابتلعت ريقها . هاهي الآن مستعدة لمواجهته. " شكرا ." قالتها ومنحته بسمة صغيرة وهي تدخل الغرفة متجهة إلي أبيها . " قالت لي إلن إنك لست على ما يرام ." وضع يده المتعبة فوق ذراعها وجذبها إليه : " صدقيني , أوامر إلن لا تعصى ! لقد قررت إنني لست في حالة تسمح لي بالذهاب . تنقصني الشجاعة لأتحداها . أنت تعرف إلن يا غافن ." هز غافن كتفيه وبقي لحظات ثم قال: " هذه الحقيقة. فمن يعصاها يجب أن يكون أشجع منا نحن الاثنين ." " لم أكن أريد أن أذهب يا أبي عندما أبلغتني إلن أنك." " أذهبي يا جين . غافن سيوفر لك كل الرعاية . استمتعي بوقتك . أنت تبدين رائعة الجمال وأنا فخورا بك يا عزيزتي ." " شكرا يا أبي ." سارت جين نحو الباب كالعمياء لكنها كانت تعي أن غافن يقف في انتظارها ممسكا بالباب . سارا نحو واجهة المنزل حيث كانت تقف سيارة المرسيدس البيضاء . فتح لها باب سيارته في صمت . جلست جين وأحست بصدغيها تنبضان بفعل هذا التوتر المفاجئ وبعدما اقفل باب السيارة خطا نحو مقعد القيادة . وانطلقا.
4- الحفلة
قاد غافن سيارته برشاقة وسأل جين: " هل تحبين الأستماع الى بعض الموسيقى؟" " نعم أرجوك" فكرت أن ذلك سيوفر عليها على الأقل حرج فترات الصمت في حوارهما بل لن يكون حوار على الأطلاق0 كان قلبها يخفق 0 لم يكن خيالها الذي صور لها ذلك ولكنها أحست بالفعل وكأن توترا يغمرها بموجات تكاد تكون محسوسة0 حدثت نفسها قائلة: " أنه يكرهني وانا عرفت ذلك فلماذا لا اتجاهل تلك الحقيقة0 لم تكن لديها أسلحة مماثلة تقاتله بها عدا أـنوثتها 0ففي اعماقها كانت تعلم انه برغم عجرفته كانت هي التي تملك المبادرة 0 فضعفها كان في الواقع هو سبب قوتها0 - متى تنتهي تلك الحفلات عادة ياغافن؟ - تستمر طوال الليل أحيانا0 ولكن تستطيعين الانسحاب ساعة تشائين 0 كان صوته رقيقا يفتقر إلى الحماس لكنها لاحظت أن يديه كانتا تتضغطان على عجلة القيادة قليلا0 إنها تفضل أن تخلد إلى النوم بعد منتصف الليل مباشرة0 لكنها لن تطلب منه أن يعيدها إلى المنزل تراءى لها وجهه وهي تطلب منه أن يعودا و الحفلة في اوجها0 كان يتجهان الآن صوب بورت باتريك لكن كل شيء بدأ مختلفا الآن في ظلمة الليل وكأنه تبدل بفعل سحر السماء السوداء المخملية ، ليبدو كأرض العجائب المرصعة بالنجوم0 تنهدت بعمق وقد أحست أنها وقعت بالفعل في هوى تلك الجزيرة وسحرها الغامض ياليت كولن هو الجالس جوارها لكانت شعرت معه بالراحة تنعم بدفء إعجابه الصريح بدلا من شعورها الحالي بالذنب لأنها تضيع وقت هذا الرجل المضطر لمصاحبتها وتذكرت أن كولن وميغان سيكونان في الحفل مما جعلها ترتاح0 خفت حدة التوتر قليلا عندما نجحت جين في الأسترخاء0 ساعدتها الموسيقى على ذلك لأنها وفرت لها شيئا يمكن أن تركز عليه انتباهها0 كانت كل حواسها مستيقظة مركزة على ذلك الرجل الجالس قربها يمس ذراعها مسا خفيفا كلما حرك جهاز السرعة0 كانت قسماته كالصقر وهو يراقب الطريق أمامه0 الأمر الذي شجعها على المخاطرة بإلقاء نظرة خاطفة عليه0 مرت الأشجار والمنازل من جوارهما في شكل ضباب رمادي اللون حين اقتربا من المدينة انعطف إلى اليسار في طريق ضيق مرتفع0 كان القمر ساطعا وقد أغرق الجزيرة بنوره الخافت وتذكرت ليلتها الأولى في سارمنكا عندما قامت بتلك النزهة المشؤومه0 كانا وحدهما الآن تماما وسط تلك االظلمة و قد تركا المدينة وراءهما0 كان الطريق ضيقا كشريط ابيض منبسط أمامهما0 عن بعد كان ضوء القمر يلمع فوق مياه المحيط الداكنة 0 صاحت في اندفاع وقد نسيت تماما أنها في صحبة غافن0 - يا للروعة000 - نعم أنها حقا رائعة0 خفف من سرعة السيارة ثم توقف تماما00 لماذا فعل ذلك ؟ جاءته ضحكته المقتضبة لتؤكد لها إنه قرأ أفكارها وقال: - اعتقدت إنك قد تحبين أن تنزلي من السيارة لتلقي نظرة أكثر وضوحا0 - أشكرك0 فتحت جين باب السيارة وهبطت وكأنها تخشى إثارة غضبه ان هي رفضت0 وحاولت أن تقاوم ذلك الإحساس بالخوف الذي داهمها فجأة0 إنه لا ينوي الهجوم عليها فلماذا هذا الخوف؟ راحت تحملق بعيدا في ذلك المنظر الشامل الممتد أمامها 0إنه يقف قربها الآن ابتعدت قليلا00 وبلا أي تفسير تنازعتها رغبة قوية في العودة الى السيارة0 - لم أكن أنوي أن أمسك0 قالها بنبرة خشنة وكأنة قرأ أفكارها0 أحست جين وكأن شيئا ينهار في داخلها فقالت وهي تستشيط غضبا: - لم أكن أتصور أنك ستفعل0 - كلا؟ قفزت وكأنك ظننت إنني سأحاول الاعتداء عليك0 - هذا ما صوره لك خيالك00 استدارت عائدة إلى السيارة تاركة إياه في حالة غضب 0 لحق بها دون أن ينبس بكلمة واحدة 0وانطلقا بسرعة دون أن يتبادلا أية كلمة0 لاح المنزل من بعيد يشتعل ضياءا 0 تبخرت قوة التحدي التي كانت لدى جين 0 استقامت في مقعدها 0حلقت في السيارات الكثيرة المصطفه أمام المنزل0 ثم انفتح باب البيت لتجد على عتبته فتاة طويلة في هالة من الضوء الذهبي تصيح قائلة: - عزيزي غافن 0 الآن نستطيع أن نبدأ الحفلة0 أخذت جين ترقبها وقد وقفت مهملة في الخفية0 بينما ساره تشب على قدميها لتعانق غافن مرحبه رد عليها قائلا: - مرحبا يا ساره تبدين جميلة للغاية0 اطلقت ساره ضحكة رنانة ثم مدت يدها ناحية جين وكأنها قد تذكرت وجود شخص آخر معهما: - أهلا من المؤكد إنك جين0 لطيف جدا منك ان تحضري0 نظرت إليها جين إنها فتاة جميلة 0 كل شيء فيها كان يوحي بأنها تعرف كيف تعني بنفسها بدءأ بشعرها الحريري الأشقر حتى أصابع قدميها التي طلت من تحت ثوب أبيض بسيط يخطف البصر ثناياه الشفافه تطفو حولها مطوقة قدها النحيل0 كانت عيناها واسعتين داكنتين ترقبان جين في عملية تقييم صريحة ماهرة0 - كم تبدين رائعة0 تفضلي 0 أنا واثقة من أنك في حاجة إلى قدر من الانتعاش بعد رحلة الطريق0 أبحث عن مكان توقف فيه سيارتك ياحبيبي وسأعني انا بجين 0 قالت له يا حبيبي تساءلت جين عما إذا كانا كذلك بالفعل 0 أنها لن تدهش لذلك فقد حياها بحرارة لم تكن تتوقع أن تجدها فيه0 اصطحبت ساره جين إلى غرفة نوم ذات أثاث فخم وأشارت إلى منضدة الزينة قائلة: - تفضلي ياجين 0 أخدمي نفسك بنفسك0 ابتسمت ساره فجأة ثم رمقتها بنظرة أخيرة وخرجت0 تهاوت جين على أقرب مقعد وهي ترتعش 0 اغلقت عينيها لحظه وأحست بأنها تريد أن تهرب وتختبئ 0 كانا مسلك سارة وكلما يحيط بها محسوبا بدرجة جعلت جين تشعر أنها صغيرة تافهة 0 أحست وكأنها تشترك في مسابقة جمال تفحصتها عينا سارة الجميلتان القاسيتان وكأنهما عينا حكم في مسابقة يقيم ويضع الدرجات ثم يصرف النظر عنها 0 كانت جين ساذجة جدا عبثت أنها لم تدرك مهارة سارا في اخفاء مشاعرها الحقيقية وكيف إنها استشفت بذكاء حياء جين الفطري الدفين وعرفت كيف تستغله لمصلحتها0 بيدين مرتعشتين وضعت جين أحمر شفاه0 تنفست تنفسا عميقا ثم اتجهت نحو الباب واستمعت إلى أصوات الثرثرة المنبعثة من الطابق الأسفل 0 قاومت شعورها بالخوف تم نزلت درجات السلم في سكون وهي متشبثة بالدرابزين الحديدي املة في التسلل إلى الداخل وتبحث عن ميغان قبل أن يراها أحد0 جاء صوت سارا واضحا عاليا: - انظروا جميعا هاهي جين 0 كانت سارا في انتظارها وبمجرد أن اقتربت من الغرفة ساد صمت مفاجئ وتوقف الحديث والضحك تماما عندما أخذ الجميع يراقبونها وهي تسير مع سارة كانت جين ترتجف لكنها في تلك اللحظة رأت بين الحاضرين وجها متهكما تعلوه بسمة ساخرة كان هذا الوجه هو وجه غافن 0 تنفست في عمق 0 ثم أحست بإصرار ينمو في داخلها لمواجهة الموقف ابتسمت فجأة بينما كانت سارة تقول: - اعرفكم بجين ابنة جون اوغستاس ريتشي 0 وراحت جين تصافح رجالا ونساء يرتدون ثيابا أنيقة وجميعهم أيضا يقيمونها من وراء ابتساماتهم وتحياتهم التقليدية التي انهالت عليها0 اجتازت كل هذا بلا تردد بعد أن استعادت ثقتها بنفسها بسبب بسمة ساخرة على وجه رجل ونجحت في ألا تعطي أصدقاءه ذرة من الاهتمام0 بدأ الحديث يتصاعد من جديد تدريجيا وكان في وسع جين الآن أن تلتقط أنفاسها واسترخاء بحرية اذ أحست بالضغط ينحسر من حولها بعد أن تحول اهتمام الحشد إلى قادمين جدد0اما غافن فقد اختفى وسط الحشد0 في تلك اللحظة وجدت جين نفسها قرب والدة سارة التي قالت لها: - أنا واثقة من أنك في حاجة إلى هذا المرطب ياجين 0 اشربي ياعزيزتي0 - شكرا0 - هل جئت أنت وغافن وحدكما؟ أنا آسفة لأن والدك لم يحضر لكن من المؤكد أن غافن ظريف جدا أليس كذلك؟ إنه يشكل مع سارا ثنائيا رائعا أليس كذلك؟ - نعم بالتأكيد وأظن أنهم سيعلنان خطوبتهما قريبا0 - لا تقول شيئا من هذا فالأمر مازال سرا0 - لا لن أقول شيئا على الإطلاق0 قالت جين فتت ذلك ثم رشفت من مشروب ذهبي تناثرت فقاعاته من كأسها ليأخذ طريقه إلى جوفها في رذاذ مثلج مسموع0 استأذنت السيدة سمايث لتجد جين نفسها تقف وحيدة تماما وسط بحر من الوجوه الضاحكة 0 منعزلة وكأنها تقف في جزيرة مهجورة 0 ودون تفكير رفعت كأسها وابتلعت كل ما فيها دفعة واحدة0 ثم سمعت صوتا يقول: - إنك رائعة فعلا0 التفتت إلى الوراء لتجد وجها بشوشا لرجل متوسط العمر كان أصلع الرأس ذا انف مدبب وعينين ساحرتين وأهداب داكنة0 - أنت الدكتور ماكدونالد 0 - كيف عرفت ذلك ياجين 0؟ - قالت لي ميغان أنك ستكون في الحفلة كما إنه لم يكن ممكنا أن تفوتني تلك اللهجة المحببة ولكن كيف عرفتني أنت؟ - أنت أيضا تطابقين ما سمعته من أوصافك 0 وقد رأيت سارة وهي تخصك بتلك المعاملة وليوني أيضا كنت مندسا وراء تلك الزهرية عندما كانت تسرد عليك تلك القصة المعاده عن سارة وغافن0 - ماذا تعني بتلك المعاملة؟ رفع حاجبيه مندهشا: - ألم تفهمي ؟ قولي لي ماذا كان شعورك وهي تقودك صائحه أمام هذا الحشد بعد أن أدركت خجلك 0 دعينا نجلس بعيدا في ركن هادئ00 أريد أن أحدثك عن أبيك0 وجدت جين نفسها تجلس في جوار الرجل الودود, وهكذا أصبحت الحفلة أكثر بهجة0 ازدحمت الغرفه ومر الجرسون بالمشروبات التي كانت تختفي قبل أن يتقدموا بضع خطوات 0 ظهر غافن فجاءه وألقى نظرة عليهما ثم اختفى وقد ابتلعه الزحام 0 جلس ماك وجين يتحدثان غافلين عن كل هذا الى ان ظهرت ميغان 0حيتهما بسرور وجلست قربهما قائلة: - كنت أود إن اكون هنا ساعة وصولك يا جين 0 اين جون ؟ - لم يستطع المجيء0 - إذا جئت أنت وغافن وحدكما؟ - نعم0 نظرت ميغان الى جين وبدت وكأنها كانت على وشك أن تقول شيئا ثم عدلت0 تحدث ماك عن طريقة استقبال سارة لجين فقالت ميغان لجين : - لهذا كنت أود أن أكون هنا وقت وصولك لكنني واثقة أنك كنت رائعة كما ذكر لي ماك 0 وصل إلى أسماعهم صوت موسيقى منبعث من مكان آخر من المنزل ونغمات متنافرة واضحة في محاولة لضبط أوتار الآلات الموسيقية قالت ميغان : - سيبدأون الرقص الآن وبعد ذلك سيفتتحون مائدة الطعام0 تحولت الحفلة إلى ميدان صخبة0 كتلة دائرية من الألوان كالزجاج البراق كتلة من الضجيج والمتعة0 بعد ان احتست جين كأسها الثانية وتولى كولن الذي وصل متأخرا رعايتها0 اندفعا نحو فناء خلفي واسع حيث كانت الفرق الموسيقية تعزف 0 كان الغناء ممتدا نحو مروج خضراء حيث كان المدعوون يرقصون على النجيل المضاء بالأنوار وكذلك على أرضية الفناء الحجرية وقت تناثرت فيها أصص النخيل وتوسطت فيها نافورة صغيرة تتناثر منها المياه في شكل جميل0 قال كولن لجين وهو يراقصها : - إن تثيرين ضجة يا جين 0 - دعك من هذه الدعابات 0 أحمر جين خجلا وتعثرت خطواتها وقد ساءتها مداعبته الساخرة0 امسكها بقوة ليحول دون تعثرها من جديد وهمس قائلا: - أنا لا أمزح يا عزيزتي صدقيني تبدين رائعة الجمال0 كانت الموسيقى الصاخبة تشيع حيوية تعاقبت بعد ذلك عدة رقصات رأت في إحداها غافن وسارة يرقصان معا كانا يحتضنان بعضهما البعض بقوة وكأنهما لا يشعران بوجود أحد0 فجأة أحست جين بالدوار وقالت لكولن : - ايمكننا أن نتوقف عن الرقص قليلا 0لقد تعبت0 جذبها الى الخارج قائلا: - أنت في حاجة إلى هواء نقي ياعزيزتي0 في الهواء الطلق أحست جين برعشة البرد 0 أحاطها بذراعه قائلا بصوت عذب : - تحسنت حالتك أليس كذلك ؟ ادارت نحوه وجها ضاحكا وهي تقول: - نعم أعتقد ذلك 0 - سأمارس أساليبي الشريرة معك 0 ابتعدت وهي تقول : - شكرا على تحذيرك اياي والآن يجب أن نعود إلى الحفلة 0 عادت إلى الرقص بكل حماس وقد قررت أن تندمج في الجو0 لم يكن في وسعها أن تتصور كيف كانت تبدو فاتنة هيفاء نحيلة في ثوبها الجميل شعرها لامع بشرتها تشع بالصحة وهي تضحك و ترقص حتى انقضى المساء0 وفي إحدى الرقصات كانت مع جوني ميليا وهو شاب جذاب عرف إنه زير نساء فرأت غافن يقف وحيدا0 يدخن سيكارا كانت نظرته إليها قاسية قاتمة0 وتحديا لغافن ابتسمت لجوني0 وأحست بقدر من الرضا عندما رأت غافن يستدير في سرعة ويسير مبتعدا 0 ساعدها الطعام الذي تناولته على استعادة قدر من اتزانها 0 دخلت هي وكولن وماك وميغان وانظموا الى المتزاحمين حول ألعشاء المعد بأناقة 0 وبينما كانوا يسيرون ممسكين بأطباقهم ينتقون شرائح الدجاج واللحم وعشرات الأصناف من الأطعمة الغريبة والمبهجة سمعت صوتا يقول : - هل تستمتعون بوقتكم ؟ استدارت لترى غافن 0 حيته ميغان قائلة : - مرحبا أيها الغريب لم نرك كثير اليوم0 ابتسم ابتسامة مقتضبة وقال: - كنت أقوم بجولة بين المدعوين0 استدار نحو جين التي كانت تقف مع كولن وقال لها : - هل كانت الحفلة كما تتوقعين ؟ - نعم وهل هي كذلك بالنسبة إليك؟ - بالقدر الذي توفره اية حفلة 0 لاحظت أن صوته كأن فاترا ولم تعرف السبب الذي دفعها أن ترد عليه في فتور مماثل بقولها : - عندما تشعر بأنك لم تعد ترغب في السهر أرجوك ان تبلغني0 أدارت ظهرها له ثم ألتقطت قطعة كبيرة من الدجاج0 - سأفعل هل تأذنون لي ؟ وهنا قال كولن: - لماذا كل هذا؟ استدارت ناحيته وعيناها تلمعان في تحد: - هل كنت فظة ؟ - الناس لا يتحدثون هكذا مع غافن 0 - هذا يدعو أكثر للأسف0 ردت جين بهذه العبارة ثم أحست بالندم وسمعت ضحكة ميغان المقتضبة فاستدارت: - أحسنت صنعا ياجين0 تنهدت جين في عمق0 هناك شخصا واحدا على الأقل في جانبها0 لقد بدأت بالفعل تندم على تهورها في ردها على غافن 0 فهي لم تكن يوما فظة مع أحد لكن غافن لم يكن نمطا عاديا من البشر0 أحست جين بقدر من التحسن عقب العشاء 0 أقبلت سارة نحوهم مبتسمة وهي تطرف بأهدابها في حياء ناظرة الى الرجلين وقالت: - أرجو أن تكونوا جميعا مستمتعين بوقتكم 0 - سررت بمجيئك ياجين أرجو أن تأتي إلينا مرارا ولعلنا نقضي يوما معا في بورت باتريك0 انسلت مبتعدة فتنهد ماك: - يا للعجب أنت تحظين بالحفاوة والتكريم0 إن سارة لديها مبرراتها لذلك فهي تتودد إليك حتى تضمن الا تحاولي سرقة صديقها0 نظرت جين وميغان كل إلى ألأخرى وانفجرتا في الضحك دون أن تقدما لماك تبريرا لمسلكهما هذا0 بدأت جين في وقت متأخر من الحفلة تشعر بإلأجهاد بل ربما المرض أيضا 0 كانت تجلس هي ميغان وحدهما في ركن هادئ نسبيا وتلفتت جين حولها في يأس0 كانت تحس بحبات العرق تنتشر فوق جبينها 0 همست قائلة: - سأذهب إلى الحمام0 سألتها ميغان في قلق: - هل أنت بخير؟ - نعم لكني أحس بقدر من الاجهاد فأنا لست معتاده على السهر 0 لن اغيب00 - سأتي معك0 - كلا لا تزعجي نفسك0 لم يلاحظ أحد إنسلالها الى الطابق الأعلى 0 وفي الحمام غسلت وجهها ويديها جلست ساكنة للحظات ثم سارت عبر رواق غطته سجاجيد مترفة أخذت تتأرجح بشكل مخيف, كظهر مركب في عاصفة0 مرت جين بغرفة نوم مفتوحة لترى سريرا نظيفا ورضخت لإغراء قوي فدخلت بثبات خلعت صندلها ثم رقدت وهي تتنهد في راحة0 افاقت على يد تهزها وصوت آت من بعيد0 - جين هل أنت بخير؟ فتحت عينيها لترى خيالا مرتعشا لرجل وقد وقع عليه الضوء الآتي من ألباب المفتوح 0 أحست بالذعر حاولت جاهدة ان تجلس لكنها شعرت بدوار ثم استعادت اتزانها بالقدر الكافي فرأت كولن يقف في جوارها0 - كولن يبدو أنني استغرقت في النوم كم من الوقت مضى علي وأنا هنا؟ ضحك وهو يجلس قربها على السرير قائلا: - حوالي ربع ساعة فقط كانت أمي قادمة تبحث عنك لكني تطوعت للقيام بالمهمة اتشعرين بأنك مريضة؟ تململت جين محاولة ان تجد وضعا أكثر راحة فتطوع كولن لمساعدتها0 - كلا كنت متعبة فقط 0كانت رأسي تدور أنا آسفة0 - لا تقلقي إسمعي هل تودين أن أصحبك الى المنزل؟ قاربت الساعة الثانية0 اتسعت عينا جين وهي تقول: - هل يمكنك أن تفعل ذلك؟ من المفروض أن أذهب مع غافن لكني واثقة أنه يود أن يمكث حتى النهايه وأنا لست معتادة على الحفلات الصاخبة0 - اسمعي سأنزل لأبلغ غافن بأنك ستأتين معي0 توقف فجأة عن الكلام عندما سقط ظل شبح على أرض الغرفة المظلمة اعقبه دخول غافن نفسه 0 ساد الصمت هنيهة بينما كان الأخير ينظر إلى جين وكولن وقد خلا وجهه من أي تعبير0 ثم قال: - عفوا ما كنت أريد الدخول لكن خيل إلي أني سمعت شخصا يناديني0 أحست جين بوجهها يشتعل وسط الظلمة التي رحمتها من عينيه0 لم تنجح نبرته ألامبالية في إخفاء الاحتقار الحاد الذي ظهر في كلماته 0 ابعد كولن يده عن جين قائلا: - كنت على وشك أن أنزل لأراك يا غافن 0 قلت لجين أنني سأصحبها الى المنزل 0 - هل تودين أن تذهبي الآن يا جين؟ - نعم 0 - إذا سأصحبك 0 - لكن0 بادرته جين معترضة حتى لا تضطره إلى ترك الحفلة قبل نهايتها 0 غير أن كولن أسرع إلى القول: - حسنا اتفقنا0 كانت تعرف برغم الظلمة الجزئية التي كانت تحيط وجه غافن أن عينيه كانتا مركزتين عليها وهو يقول: - أن أحضرتك وانا وعدت والدك بأن أعيدك إلى المنزل0 كانت تنتظر أن يعالج كولن الأمر بطريقته0 أن يعيد كل شيء الى وضعه الطبيعي ولكنه لم يفعل بل هز كتفيه ونظر إلى جين وكأنه يود أن يقول لا فائدة من الجدل ثم قال: - اتفقنا ياغافن فأنت الرئيس0 ساد صمت مفاجئ ثم استدار غافن خارجا0 سمع وقع قدميه وهو يبتعد فأطلق كولن زفرة ارتياح عميقة: - إنه طيب ومجنون في آن0 جلست جين وتشبثت به كمن يتشبث بطوق نجاه وقالت: - لماذا لم تصر على اصطحابي ؟ - فلا مجال للنقاش مع غافن صدقيني فأنا أعرفه 0 التقطت جين حقيبتها وهبطت السلم مع كولن ثم سارت نحو الباب وهي تشعر وكأنها ذاهبة إلى الجحيم 0
5- المواجهة
لوحت جين لكولن 0 ثم استقلت السيارة فأحست وكأن الصلة الأخيرة بينها وبين المدينة أنقطعت لحظة سمعت صوت إنغلاق ألباب الخارجي للمنزل لم يكن في وسعها أن تعبر عن مدى تعاستها عندما لاحظت غضبه البارد مثل الصقيع جلست متصلبه في مقعدها لا تجسر على الاسترخاء خشية أن تستغرق في النوم كان تصورها بأنها ستقوم برحلة تستغرق ساعة كاملة مع ذلك الرجل المتجهم الوجه يخيفها 0 بدأ يقود سيارته بسرعة مبتعدا عن المنزل الذي أخذت جين ترقبه وهو يتقهقر كلما انطلقا بسرعة نحو الظلام 0 سألها وهو يشعل سيكارا : - هل يضايقك أن أدخن؟ - كلا0 وردت وهي تفكر كيف أنها لا تجرؤ على الاعتراض لا أحد يستطيع مناقشة غافن 0 ولا حتى كولن الذي نفذ ما أمره به غافن في غرفة النوم0 كم كانت تتمنى لو أنها لم تذهب إلى هناك 0 كانت تتمنى أيضا لو أنها لم تتحدث بمثل تلك الحدة في غرفة الطعام0 ملاءة رائحة التبغ المعطرة السيارة 0 فنظرت جين من النافذة وهي تتمنى ألا يدفعها ذلك إلى الشعور بالغثيان 0 كانت رأسها تؤلمها آلما أخذت شكل إلنبض البطيء الثابت الموجع0 وكانت تشعر وكأن عينيها مليئتان بالرمال0 لم تستطع أن تتحمل ذلك الصمت الثقيل أكثر من ذلك فأنفجرت قائلة: - آسفة لإنني اضطررتك إلى ترك الحفلة0 - احقا أنت آسفة0 توهج السيكار وهجا أحمر حين أدار رأسه لينظر إليها0 - نعم آسفة ولهذا السبب كنت أود أن أعود مع كولن 0 - هل كنت ستدعينه يصحبك الى المنزل؟ - نعم فأنا أعلم أنك كنت تود أن تبقى حتى نهاية الحفلة0 - قلت لك ان تبلغيني عندما تودين الرحيل0 فأنا عندما اتعهد بشيء أحرص على تنفيذه 0 قلت لوالدك أنني سأعيدك سالمة إلى المنزل , وسأفعل ذلك دون أي اعتبار للوقت0 - كان ابي سيتفهم الموقف0 - ليس هذا هو محور الجدل أليس كذلك؟ أحست لهجة احتقار حادة في نبرته 0أصرت على أسنانها بمرارة متسائلة في تهكم: - أظنه شيئا رائعا أن يبلغ المرء حد الكمال, أن يفعل دائما الصواب؟ نفض سيكاره بعناية وضحك قائلا: - لا تجعلينا ننحط إلى مستوى الإهانات الشخصية0 لم تكن في ضحكته اي نوع من الدعابة0 شبكت جين يديها بقوة وقد ملأها غضب جارف, نظر إليها فرأى قبضتها المتوترة كما لاحظ تنفسها السريع واستطرد: - لو كنت مكانك لحاولت أن استرخي أمامنا رحلة طويلة0 - كيف استرخي وأنا معك؟ إنك تظهر تماما كم أنت متضايق من مهمتك أنا أشعر بذلك0 وضعت يدها على جبهتها المتألمة ضاغطة بقوة0 ضغط بقدمه على الفرامل فوقفت السيارة بسلاسة0 استدار قائلا: - حسنا أفصحي عما في صدرك ماذا تعنين بالضبط؟ اشاحت جين بوجهها0 لم يكن هناك ضوء أو صوت 0 كانا وحدهما في صحراء شاسعة من الظلام , والآن أدركت لماذا استسلم كولن بتلك السرعة فالقوة التي يتمتع بها هذا الرجل خارقة كان ينتظرها تتكلم وكأنه نمر متأهب للانقضاض 0 لم يكن لديها أسلحة تحاربه بها ولأنها كانت تعرف إنه ليس في وسعها أن تفوز في حرب كهذه فقد تشجعت وقالت: - حسنا سأقول لك لقد أفصحت تماما عن مدى كراهيتك لي 0 أنا لا أعرف لماذا؟ لم أفعل لك شيئا ويجب أن تتعلم أن تحكم على الناس كما هم في الواقع لا كما تتخيلهم انت 0 اشتد صوتها وأصبح أقل ترددا فهي تعرف الآن إنه ليس لديها ما تخسره 0 إن أسوأ ما يستطيع أن يفعله هو أن يطلب إليها مغادرة السيارة لتعود إلى البيت سيرا على القدمين0 واستدارت بالفعل ومست مقبض ألباب وكأنها تدرس تلك الفكرة رأى غافن حركتها فقال بحدة: - أين أنت ذاهبة؟ - لست ذاهبة إلى أي مكان ومع ذلك فقد كنت أفكر أنه سيكون من الأفضل أن أعود إلى المنزل سيرا على القدمين0 - أترين ذلك؟ ستكتشفين خطأك بعد بضع خطوات إلا إذا كنت تحبين أن تخترق الخفافيش شعرك0 - أنا لا أخاف الخفافيش إنها مجرد فئران طائرة وهي تخشانا أكثر مما نخشاها0 - أنت تدهشينني فمعظم النساء يرتعبن من الخفافيش0 - أنا لست مثل معظم النساء0 ومع ذلك فأنا لا أعرف لماذا تعتقد أن الشجاعة تنقصنا بالمقارنة مع الرجال 0 فالنساء لم يعدن مخلوقات ضعيفة 0 صدق أو لا تصدق أن لديهن عقولا أيضا0 - حسنا لقد شرحت وجهة نظرك جيدا0 مد يده نحو ولاعة السكائر مرة أخرى فقالت جين: - هل أنت في حاجة إلى السيكار ليمدك بالشجاعة؟ أحست جين بأن هناك شيئا ما يستحثها على الاسترسال 0 قوة لم تكن تفهمها0 ولكنها كانت تود بشكل ما أن تخترق ذلك السطح الخارجي أن تثقب مناعته الحصينة هذه لترى ما وراءها0 رأت من خلال الضوء القاتم المنبعث من لوحة أجهزة القياس عضلات وجنتيه تنقبض وسمعت تردد أنفاسه فعرفت أنها سجلت هدفا ضده مهما كان حجمه تافها0 - كلا لست في حاجة إلى السيكار0 لكنه يساعد في معالجة التصرفات الصبيانيه 0 - إن سلوكي ليس صبيانيا 0 - انت تدهشينني 0 أعطيتني انطباعا قويا بذلك حتى الآن والآن هل انتهيت وهل يمكننا أن نواصل رحلتنا ؟ قالت وهي تلهث: - أنا لا أعرف لماذا توقفت اصلا 0 أنت انسان كريه0 - لا تتمادي في وقاحتك أكثر من هذا يا آنسة ريتشي فقد نفذ صبري 0 اشعل سيكارا آخر ببطء كانت الرائحة المعطرة للسيكار الذي أشعله أخيرا بمثابة الضربة الأخيرة0 فقد دفعت جين ألباب واندفعت خارجة تحتمي بالنخيل وهي تشعر بالإعياء0 كانت ترتجف وتهاوت قدماها 0 سمعت في شكل خافت مبهم صوت ارتطام باب سيارة فكرت إنه على وشك أن يقود سيارته مبتعدا 0 كانت تشعر بقدر هائل من الإعياء حال دون اهتمامها بما يحدث وتوقعت أن تسمع صوت المحرك يملأ المكان لكنها بدلا من ذلك سمعت وقع أقدام مسرعة ثم جاء صوته قائلا: - ماذا هناك هل أنت مريضة ؟ تعثرت ثم استدارت كانت تحس بقدميها تلتويان بينما كانت الأرض تتأرجح وترتعش وفي اللحظة التالية وكان غافن يحملها بين ذراعيه متجها إلى السيارة0 - أنزلني , دعني , أرجوك0 دفع بها إلى مقعدها وقال في حزم: - اجلسي مكانك0 في اللحظة التالية كان الى جوارها وقد غمرها النور الداخلي للسيارة أعطاها منديلا وقال: - امسكي هذا 0 مد يده إلى الدرج الأمامي للسيارة وأخرج زجاجة فتحها ونثر بعضا منها فوق المنديل فامتلأت السيارة برائحة منعشة نفاذة ثم قال : - والآن امسحي وجهك فهو سيفيدك كثيرا 0 امتثلت جين ومسحت وجهها بيدين مرتعشتين فصدمتها البرودة الحادة لتعيدها إلى حالتها الطبيعية 0 - شكرا لك 0 تبدلت لهجة غافن فصار موضوعيا واختفت النغمة الغاضبة من نبرته 0 سألها وهو يرقبها : - لماذا لم تقولي لي أنك تشعرين بالغثيان 0 نظرت إلى وجه وقد مال نحوها وقالت : - كنت اظن انك تعلم , فذلك كان سبب صعودي الى الطابق الأعلى للاستلقاء0 - ومن أين لي أن اعرف؟ لقد ظننت أنك صعدت لكي 000 وسكت مترددا وأحست جين بوجهها يلتهب فتساءلت: - ماذا كنت تظن ؟ - ظننت أنك ذهبت لموافاة كولن0 وأضاف عندما أطلقت شهقة لا ارادية : - إني أعتذر أدركت الآن مدى خطئي ولكن لماذا لم تقولي لي إنت او كولن 0 اشاحت جين برأسها وقد أفلتت منها شهقة باكية0 وأحست بضياع وحرج وأخيرا استطاعت أن تنطق بصوت مرتعش: - هذا ليس مهما أرجوك دعنا نواصل رحلتنا الآن فأنا أشعر بتحسن0 - لن نستأنف ألرحلة وأنت تبكين0 - أنا لا أبكي0 - بحق السماء حاولي أن تتوقفي عن البكاء لقد اعتذرت لك 0 مساحة وجهها بالمنديل وقالت بنبرة تكاد تكون طبيعية: - أرجوك أود لو نذهب الآن فأنا متعبه جدا0 في ذلك الضوء الخافت خيل إليها وكأنها رأت شيئا ما في وجهه احالت جسمهاالى شعلة ملتهبة 0 وكأنها واقعة تحت تأثير مغناطيسي نظرت إلى عينيه كانتا داكنتين فيهما ظلال أحدثها ذلك الضوء الذي بدأ كبحيرة صغيرة سمعت تردد أنفاسه ،وراءت صدره يعلو ويهبط وذلك التجويف الداكن الظلال في أسفل عنقه بينما كان وجهه المائل داكنا مكتمل الرجولة كانت لدى جين رغبة جارفة في أن تمد يدها وتمس شفتيه بأناملها0 بل إنها أحست بالفعل وخزا خفيفا وكأن الفكرة تحولت إلى واقع 0 ضغطت على يديها محاولة استعادة حالتها الطبيعية0 قال لها في رقة: - ارجعي رأسك إلى الخلف وحاولي أن تستريحي لن أسير مسرعا 0 امتثلت لما قاله 0 وأحست بهدؤ غريب تحركت السيارة في بطء تزيد من سرعتها كل لحظة وهو يقودها بعناية في طريق العودة0 اغلقت جين عينيها محاولة ان تخلد الى النوم 0 على الأقل لن يكون عليها أن تتكلم معه0 لكنها ستحاول التفكير رغم ان الأفكار تتصارع في رأسها مثيرة للقلق فقد ظل وجهه الساخر يتراءى لها0 وأدركت إنه لم يجبها عندما كانت تتحدث عن استياءه منها بل كان يحرص دائما على تغيير الموضوع أوقف غافن السيارة أمام البوابة الخارجية لمنزل والدها وقال: - سنقطع الممر سيرا على الأقدام أين مفتاحك؟ فتحت جين حقيبتها وبدأت تبحث عن المفتاح الذي دسته الن في يدها قبل أن تغادر المنزل 0 قطبت جبينها وبدأت تتحسس بدقة أكثر في كل ركن وبحركة يائسة سريعة أفرغت حقيبتها 0 وبدأت تقلب في محتوياتها فلم تجد أي أثر للمفتاح0 - اتسمحين لي 0 قال لها ذلك وهو يأخذ الحقيبة الفارغة ويدس يده فيها متحسسا البطانة ثم قال : - لا أثر للمفتاح اتظنين أنه سقط من الحقيبة؟ - نعم عندما صعدت إلى الطابق الأعلى للاستلقاء سقطت مني الحقيبة نسيت هذا تماما0 - هل فتحت الحقيبة اثناء سقوطها؟ - لا أدري كولن هو الذي التقطها0 نزل غافن من السيارة قائلا: - تعالي سنحاول أن ندخل في هدوء0 ركضت خلفه وهو يسير بخطوات واسعة في الممر المتعرج الموصل إلى المنزل0 وهي تتمنى أن يجدا نافذة مفتوحة في الطابق الأسفل0 لن تنسى هذه الأمسية الثقيلة كالكابوس 0 حدثت نفسها بذلك في تعاسة وهي تتعثر في صندلها ذو الكعب العالي محاولة اللحاق بغافن0 المنزل يلفه الظلام وسكانه نائمون 0 أشار لها غافن بأن تلتزم الصمت 0 حاول فتح ألباب الخارجي أولا ثم بدأ يجرب النوافذ واحدة تلو الأخرى 0 وعندما اختفى غافن في الفناء الخلفي للمنزل انتظرت جين وهي لا تجسر حتى على الحركة عاد بعد أقل من دقيقة 0 انبأـها وجهه بالنتيجة ولم تكن في حاجة لأن تسال0 دنا منها وقال: - ليس امامنا الآن إلا أن نحاول إيقاظ الن 0 ولكننا على وجه التأكيد سنوقظ والدك أيضا0 وهذا ما لا أود أن افعلة 0 بقي أمامنا اختيار واحد 0 - ما هو؟ - أن تنامي في منزلي0 وعندما نطق بهذه الكلمات بدأ يسير وقد تأبط ذراعها مبتعدا عن المنزل يجذبها بعيدا, حتى يستطيعا أن يتحدثا بحرية أكثر تصلبت ثم توقفت عن السير منتزعة يدها من يده وهي تصيح: - كلا00 كلا 0 - ماذا تقترحين؟ - ألا يمكننا أن نقذف بعض الحصى على نافذة الن ؟ - أين غرفة آلن ؟ - لا أعرف أظنها في الناحية الخلفية من البيت0 - اذا كنت تظنين أنني سأقف هنا لأقذف كل نافذة بالحجارة فأنت مخطئة 00 وحتى في هذه الحالة ليس هناك ما يضمن أنها ستستيقظ من نومها العميق لاتنسي أنها تذهب إلى فراشها في ساعة متأخرة وتستيقظ مبكرة, تعالي0 تأبطها مرة ثانية ولكن بقدر أقل من الرقة هذه المرة حتى وصلا إلى السيارة0 استدارت جين قائلة: - الكاراج ليس مغلقا ويمكنني النوم في السيارة0 - لاتكوني حمقاء اصعدي إلى السيارة0 قالت كلمته ألأخيرة بخشونة وهو يفتح لها باب السيارة وقد نفذ صبره0 بعد دقائق كانا أمام منزله حيث كان هناك ضوء متوهج في البهو يغمر الممر أرتقى غافن السلم راكضا ووضع المفتاح في قفل الباب مستديرا تجاه جين التي كانت لا تزال في السيارة 0 - تعالي0 امتثلت جين وهي تحس بالحيرة ثم تجمدت لدى رؤية ذلك الكلب الضخم 0 يهز ذيله القصير بعنف ويقفز عاليا على غافن الذي عرفت الابتسامة طريقها إلى وجهه الآن0 استدار قائلا: - لن يمسك بأذى فلا تخافي0 - آن لا أخاف الكلاب إلا إذا وثبوا علي في الظلام0 - من الأفضل أن تحييه0 مدت جين يدها ليتشممها فجلس أمامها مصدرا انينا خافتا وهي تربت على رأسه مبتسمة لعينيه الرقيقتين0 رفعت جين رأسها لتجد غافن واقفا يراقبها وقد علا وجهه تعبير غريب فأحست بالارتباك وقد بدأ قلبها يدق بشدة فهي لم ترى وجهه على تلك الصورة قبل اليوم0 استدار غافن فجأة قائلا: - سأعد فنجانين من القهوة لنتناولهما في المطبخ0 لحقت به جين بعد تردد 0 بدأ الموقف كله يأخذ طابع الحلم0 يسوده جو غير واقعي حتى وبدأت جين تتساءل عما يمكن أن يحدث بعد ذلك0 - اجلسي سأحضر لك قرصين من المسكن للصداع بعد دقائق0 لن تحسي بثقل في رأسك غدا إذا ما تناولتيهما مع القهوة هل انت جائعة؟ - كلا شكرا0 هل أن ما يحدث الآن حقيقي ؟ هل هي بالفعل في منزل ذلك الرجل00 على وشك أن تنام في إحدى غرفه 0 تساءلت وهي لا تقوى على النظر إليه0 - آمل ألا نوقظ مديرة منزلك0 - تحاولين أن تعرفي في ما إذا كان شخص آخر غيرنا في المنزل؟ - أعتقد أن هذا هو ما قصدت بالفعل0 - أنا آسف أن أقول لك إننا وحدنا تماما0 فمديرة منزلي وزوجها يسكنان بيتا صغيرا في الحديقة0 وضع أمامها قدحا من ألقهوة الداكنة ووضع جوارها اللبن والسكر قائلا: - لا تقلقي, فأنا لا أغازل الأطفال0 شهقت جين وقد اشتعل وجهها ثم تلعثمت قائلة: - أنا لم أقصد0 - نعم لقد قصدت ذلك0 أتى بزجاجة صغيرة وضعها أمامها ثم سحب مقعد وجلس وقال: - لا تستشيطي غضبا هكذا فمن الطبيعي تماما أن تسألي وتطمئني وقد أجبتك والآن أرجوك أن تنسي هذا الموضوع0 ربت على الزجاجة قائلا: - تناولي قرصين من هذا الدواء واشربي قهوتك 0لقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحا0 ولست أنت وحدك المتعبة0 كانت أفكار جين مشوشة وذهنها في حالة اضطراب وقد اختلطت فيها الانفعالات فتحت الزجاجة وتناولت قرصين وبيد مرتعشة احتست القهوة وهي تلهث قليلا 0 كيف يمكنه أن يكون قاسيا الى هذه الدرجة0 أدركت كم هي في الحقيقة مجهده ثم انحنت وربتت على ظهر الكلب الرابض في جوارها 0 - سأصحبك الى غرفتك 0 ابتلعت جين الجرعة الأخيرة من القهوة ثم نهضت واضطرت للإمساك بالمنضده بعدما شعرت بالغرفة تتأرجح 0 قطب غافن جبينه متسائلا: - الا زلت تشعرين بالإعياء؟ - كلا أنني مجهده فقط0 قادها إلى البهو ثم ارتقيا سلما كان كل شيء على كبيرة من الفخامة 0 كان الضوء ينعكس في توهج على اطارات المرايا المذهبه والنوافذ الواسعه العالية 0 وعندما وصلا إلى الطابق الأعلى مس ذراع جين بخفه قائلا: - من هنا0 قادها إلى غرفة صغيرة ذات اثاث جميل 0 كان غطاء السرير أبيض وقت تناثرت سجاجيد بيضاء على أرض الغرفة0 اضاء النور ثم أشار إلى باب في داخلها قائلا: - هناك تجدين حمام مستقلا فيه كل ماتحتاجين إليه00 وستجدين أيضا تشكيلة من ثياب النوم في الدرج الأول من منضدة الزينة سأذهب لأدخل كارلو وأغلق الأبواب اذا احتجت إلى شئ ما فما عليك إلا أن تطلبي 0 مشى عائدا إلى الباب ثم توقف قليلا ناظرا إلى جين التي كانت تقف قرب السرير: - ليس للباب قفل لكني أعدك أن أحدا لن يزعجك 0 - أشكرك0 خرج واغلق الباب خلفه في هدوء 0 أطلقت جين آهة مرتعشه0 جلست في فراشها محاولة ان تستجمع شتات أفكارها هل يمكن أن يكون هذا هو الرجل نفسه الذي رأته يفرض رأيه 0 متسببا في ذلك المشهد الكريه في المطار؟ وماذا سيكون رأي الخالة دوروثي في كل ما حدث ويحدث؟ لم تجسر على الاستمرار في التأمل 0 توجهت إلى الحمام0 كان مزخرفا في رقة وجمال وقد غطيت جدرانه بقرميد أزرق فاتح0 كما ثبت في الحائط حاملا للنباتات0 غسلت جين وجهها ويديها0 ونظفت أسنانها , وشعرت على الفور بتحسن كبير عادت مرة أخرى إلى غرفة النوم وأخرجت أقرب ثوب نوم ثم ارخت شعرها واطلقته من دبابيس الشعر الخانقة وهزته بحرية وهي تطلق زفرة ارتياح رفعت يديها إلى الخلف لتفتح سحاب ثوبها ثم جذبت لم يحدث شيء جذبت مرة ثانية بقوة أكثر جفلت جين بعد أن تشابكت خصلة من شعرها مع الأسنان الدقيقة للسحاب 0 دمدمت في تبرم بعد أن تعبت يداها من المحاولات المتكررة انتظرت لتلتقط أنفاسها تم بدأت محاولة جديدة دون جدوى وذعرت ماذا ستفعل الآن؟ حاولت جين أن تسحب الثوب الى اعلى , لكنه كان محكما عند الوسط وبعد بضع دقائق من الكفاح الصامت المتجهم الذي كانت تخشى أن تمزق بسببه خامة الثوب الرقيقة استسلمت جين 0 لم يكن أمامها سوى شيئا واحدا هو أن تطلب مساعدة غافن وبسرعة وقبل ان تخذلها عزيمتها فتحت الباب ونظرت نحو السلم قد يكون في المطبخ وهذا أفضل بدلا من أن تضطر إلى الذهاب إلى غرفة نومه 0 هبطت جين السلم في هدوء وسارت عبر البهو حتى وصلت إلى المطبخ 0 وبعد لحظة انتظار تستجمع فيها شجاعتها دفعت الباب 0 لم يكن أحد في المطبخ انتابها شعور مفاجئ بالذعر 0كانت كل شيء يسوده صمت وكأن غافن وكارلو اختفيا 0 توجهت صوت ألباب المفتوح ثم خطت إلى الخارج , لم تكن تجرؤ على مناداته ففضلت الانتظار وفي اللحظة التالية ظهر كارلو يركض بخفة وكإنه يعرب عن سعادته برؤياها 0 خطت جين خارجة عن دائرة النور المنبعثة من باب المطبخ وارهفت السمع 0 جاءها صوت البحر أشبه بهمس ناعم يصدر عن كائنات مجهولة تعيش في تلك الأعماق الخضراء الباردة ارتعشت وقد أحست فجأة بالبرد 0 ثم رأت من على بعد غافن يتقدم نحوها0 وبشكل غريزي تقدمت إلى ألأمام0 - جين ماذا هناك؟ - لا أستطيع فتح سحاب ثوبي 0 - تريديني ان افعل ذلك بدلا منك أليس في ذلك مخاطرة؟ - ابتعت هذا الثوب من محلك الخطأ ليس خطئ0 - تعالي إلى الضوء0 - آمل أن يتم الأمر هنا0 - يالك من طفلة حمقاء0 مد يده وأمسك بشعرها يدفعه إلى ألأمام, مست يده رقبتها فأحست برعشة كان ذلك بمثابة صدمة مفاجئة تنفست جين تنفسا عميقا ثم ابتعدت قليلا أحست بأنامل غافن الطويلة عند رقبة ثوبها ثم عند الظهر ثم بدء قلبها يدق بعنف فخشيت أن يسمعه وقفت ساكنة تماما غير قادرة على الحركة سمعت همهمته المتعجبة وهو يقول: - كيف تنتظرين مني أن أصلح لك السحاب في الظلام ؟ كانت أصابعه دافئة تمس عنقها وشعرت بشيء من الطمأنينة وهو يقول في رقة: - أعتقد أنني نجحت لقد كانت هناك بعض000 توقف فجأة فقد حدث شيء غريب 0 سمعا ضربات أجنحة خشنة صاحبها صرخة حادة , في حين مر أمامهما شبح أسود , استدارت جين وتشبثت بغافن وقد أحست بذعر مفاجئ0 - إنه مجرد خفاش وسبقلك وقلت أنك لا تخافين الخفافيش0 ولم ترد في جين وخيم الصمت على المكان واستمر قلب جين في الخفقان بصورة زادت من إحساسها بالدوار0 وغمر كيانها كله إحساس غريب لم تكن تتخيله وذلك عندما ضمها غافن إليه0 وفجاءه وبفظاظة قاسية أبتعد عنها وبصوت مرتعش قال: - يا إلهي أنت لا تعرفين ماذا تفعلين0 وبينما كانت جين تقف مرتعشه من جراء ما يصطرع داخلها من رد فعل غير قادرة بعد على الحركة استعادت فجأة ذكرى مؤلمة مازالت تحتفظ بقسوتها 0 ذكرى عن خالتها عن شيء يماثل هذا الموقف بشكل ما فقد عادت يوما من المدرسة وقد ملاءتها السعادة تواقة لأن تبلغ الخالة دوروثي أنها فازت بجائزة في الرسم 0 القت بذراعيها حول خالتها تحتضنها0 لكن الخالة دفعتها بعيدا وهي تصيح في دهشة وقد زمت شفتيها: - ماذا تفعلين بحق السماء؟ خرجت جين من الغرفة حينذاك وحيدة وقد أحست كم هي مرفوضة بشكل تعجز عن وصفه 0 هاهو التاريخ يعيد نفسه0 إنها تشعر بالإحساس نفسه الآن0 ملأ صدرها ذلك الألم المألوف يتصاعد ليصل إلى حنجرتها وقد أوشك أن يخنقها استدارت صارخة وركضت نحو المنزل0 تسمع وقع خطواته وهو ويتبعها: - جين انتظري0 - دعني ابتعد عني0 انكمش جسدها خوف من التعرض لمزيد من الإذلال بينما كانت تسير متعثرة في المطبخ0 - انتظري0 اطبقت على ذراعها يد قوية 0 ليسقط شعرها على وجهها في فوضى جامحة وهي تتلوى يائسة تحاول تخليص نفسها من تلك القبضة الصلبة0 - لا تلمسني00 هل كانت مجنونة عندما سمحت لنفسها بأن تستجيب بهذا الشكل إلى لمسة ذلك الرجل0 ظلت مشيحه بوجهها بعيدا حتى تتهرب من تلك السخرية التي تعلم تماما أنها ستراها في عينيه 0 كان يجب أن تعرف ذلك أليس هو وخالتها على شاكلة واحدة0 لم يكن هناك جدوى0 فقد كان أقوى منها كثيرا0 تنهدت ثم ارتخت غير قادرة على الاستمرار في مقاومته : - انظري الي يا جين0 رفعت رأسها وكأن قوى عظمى لا تستطيع مقاومتها دفعتها إلى ذلك 0 كانت عيناها مليئتين بالدموع وقد ابتلت أهدابها الطويلة الحريرية فأصبح لونها داكنا 0 انتظرت كلماته 0 أصبحت عيناه داكنتين جدا0 لم يكن فيهما أية أثر للسخرية التي كانت تخشاها لكن كانا فيهما شيء آخر قال : - أنا آسف يا جين 0 انتزعت ذراعها من قبضته وتراجعت وهي تصرخ: - آسف00 انا واثقة أنك آسف حقا- لماذا لا تنفجر ضاحكا؟ تقدم نحوها فصاحت: - ابتعد عني إني أكرهك أتسمعني ؟ اكرهك 0 رفعت يدها الى فمها وكأنها تحاول أن تمنع نفسها من الاسترسال ثم هرعت خارجة من المطبخ0
6- المشروع
تقلبت جين في الفراش أرقة بلا جدوى ان تجد في النوم ملاذا فبرغم انها كانت منهكة القوى فانها ظلت يقظة متنبهة وهي مستلقية وسط الظلمة تسمع دقات ساعة حائط البهو أطل الفجر , حين خلدت الى النوم اخيرا 0 استيقظت على صوت نقرة خفيفة على الباب وصوت يقول : - اتسمحين لي بالدخول؟ ظلت مستلقية في فراشها في صراع بين النوم واليقظة حتى استيقظت تماما , ووعت اين هي وكيف وماذا حدث فهبت جالسة تحرك مقبض الباب بلطف 0 - جين هل استيقظت ؟ - كلا –اذهب عني 0 كان صوتها خفيضا لايمكن لأحد ان يسمعه , وعندما فتح الباب استلقت بسرعة على الوسادة وجذبت الغطاء عليها لم تكن تريده ان يراها 0 ولم تكن تود ان تنظر اليه وتساءلت عما اذا كانت ستتمكن من النظر اليه مرة ثانية 0 - احضرت لك القهوة 0 لزمت مكانها , متصلبة تمسك بالأغطيه بقوة حول وجهها الذي أشاحت به بعيدا عن الباب 0 - شكرا لك 0 كان صوتها مكتوما لكنه مسموع 0 - انها الحادية عشرة 0هل تودين ان تأكلي شيئا ؟ - كلا , اشكرك اذهب واتركني وحدي 0 سمعته يضع فنجان القهوة وبعد لحظة سمعت صوت انغلاق الباب 0 نهضت جين وقد عزمت الا تبقى اكثر مما ينبغي في منزل غافن فبعد دقائق ستخرج من منزله بلا رجعة وهكذا صار 0 عندما وصلت إلى المنزل وذهبت لتلقى والدها تمكنت من أن تتظاهر بأنها طبيعية00 حياها بولع ناظرا إلى وجهها المتعب في فضول قلق ثم قال: - ترك لي غافن مذكرة تحت الباب الليلة الماضية آسف لأنك لم تستطيعين دخول المنزل ولكني واثق برغم ذلك أنك شعرت بالراحة في منزل غافن فهو مضيف ممتاز 0 - نعم إلا إنني لم أستطع النوم جيدا0 كان الوقت متأخرا كما أنني لا أستطيع أن أنام في فراش غريب0 فكرت في فراشها آلامن ثم قالت: - أعتقد أنني سأستحم ثم احاول النوم0 - استريحي كما يحلو لك 0 سيحضر ماك لتناول الغداء معنا 0هل التقيت به أمس؟ - نعم إنه رجل ظريف جدا 0 لم تكن تريد أن تفكر في تلك الحفلة المشوؤمة 0 وسيكون ذلك بالقطع مستحيلا مع مجيء ماك فأن والدها يريد طبعا أن يسمع كل ما دار في الحفلة0 كانت تعرف أنها ستشعر بتحسن بعد النوم0 كما أنها في حاجة إلى وقت تفكر فيه على انفراد0 بعد مرور ساعتين أحسدت جين بالراحة والانتعاش0 وبأنها استعادت حالتها الطبيعية0 نزلت وقد ارتدت أحد اثوابها القطنية الجديدة كان لونه أخضر صارخا مبرزا لون عينيها 00 كان شعرها ممشط إلى الوراء في استرسال0 كانا ماك يجلس مع أبيها في فناء ظليل خلف المنزل 0 نهض حييها قائلا: - كنت اقص على أبيك كيف كنت نجمة الحفلة0 قالت جين ضاحكة : - لاتصدقه يا أبي فقد كان هناك عدد من الحسنوات 0 - نعم بالفعل لكن لم تكن من بينهن مثيلة لك0 إستاءت الحسناء سارة جدا لرحيل مع غافن 0 هل كان سبب إعياءك هو تلك الوجبة الدسمة ؟ - نعم 0 نظر إليها قائلا وقد تذكر شيئا : - عثر كولن على مفتاحك ومعه دثار بني0 لا شك إنه سيحضر هما0 - اوه 0 نعم 0 تناول الجميع طعامهم في الفناء0جلس جون وماك يتحدثان في ود0 وقد أعطاها ذلك وقتا للتفكير عادت بأفكارها إلى غافن 0 لم يكن في المنزل عندما نزلت إلى الطابق الأسفل 0 كان ألباب الخلفي مفتوحا ولم يكن هناك أثرا لكارلو أيضا0 تركت له مذكرة شكرت له ضيافته وانسلت خارجة من المنزل0 ترى هل سيحضر غافن الآن إلى منزل والدها؟ ان حضر فلعله نسى بالفعل ذلك الحادثة التافه0فغافن من ذلك الطراز0 كان يعتبرها طفلة0 أنانية تسعي وراء المال0 لكنها في النهاية مجرد طفلة0 كم كان سلوكه مختلفا مع سارة0 لا تزال نظرته هو يحيي سارة قبل الحفلة تتراءى لجين 0 كان فيها شيئا من العاطفة 0 حتى أنها بمجرد التفكير فيه الآن أحست بانفعال عاطفي لا تعرف كنهه0 تراءى لها من جديد وجه سارة مرفوعا وهي تتلقى تحية غافن 0 سارة بملامحها الجميلة 0واثقة مطمئنة0 كم هو رائع أن يكون المرء هكذا 0 أن يكون ممتلئا ثقة بالنفس0 أن يعرف أنه محبوب0 أنزلت الملعقة من فمها وقد أحست أن حلوى القشدة المخلوطة بالخوخ ذات النكهة اللذيذة تحولت في فمها إلى شيء جاف كريه المذاق0 رمقها ماك قائلا: - آمل ألا تكوني ملتزمة بنظام غذائي معين؟ تمكنت جين من افتعال ضحكة وقالت: - كلا لكني لست جائعة0 - ربما كان ذلك بسبب الطعام الكثير الليلة الماضية0 - أتأذنان لي ؟ دفعت مقعدها الى الوراء وتوجهت إلى غرفتها 0 توقفت في طريقها كالعادة لتنظر إلى لوحات والدها 0 تحسست برفق لوحتها المختارة ومست بأطراف أصابعها ثنايا الألوان الزيتية السميكة لمشهد طفل وكلبه يحدقان باشتياق في زورق صغير وسط بحر هادئ0 صعدت السلم وهي تتنهد 0 مطرقة ألباب ترتفع وتطرق مرتين بقوة0 تحركت جين في هدوء أعلى الدرج0 ووقفت بعيدة عن الأنظار 0 وقد سمعت مديرة المنزل تطقطق بخفيها قادمة من المطبخ 0 خفق قلبها وجف حلقها 0 فقد كانت تعلم من الطارق قبل أن تسمع صوته قائلا: - مرحبا ألن 0 هل جون في المنزل؟ - مرحبا يا سيد غافن 0 كان عليك أن توقظني عندما جئت إلى المنزل مع الآنسة جين 0 تشبثت أصابع جين بشكل لاإرادي بدرابزين الدرج0 سمعت غافن يضحك 0 بدأ قلبها يخفق بعنف , تلاشى صوتاهما تدريجيا وابتعدا باتجاه البهو فتنفست جين الصعداء0 إنه هنا اذا 0 سيكون عليها أن تنزل وتواجهه 0 عليها أن تفعل ذلك في وقت من الأوقات0 وربما يكون الضغط أخف في حالة وجود ماك ايضا 0 ذهبت إلى غرفة نومها , مشطت شعرها0 ووضعت من جديد أحمر الشفاه0 لم يكن في وسعها ان تفعل شيئا لإزالة ذلك اللون الداكن تحت عينيها0 ووقفت جين في غرفة الجلوس بضع دقائق محاولة استعادة قدر من الإصرار الذي أحست به منذ قليل في الطابق الأعلى 0 كان يمكنها أن ترى الرجال الثلاثة في الفناء عن بعد0 وقت حجبه بشكل جزئي حائط يستظلون به 0 كان في وسعها أن تسمع أصواتهم أن تسمع ضحكة غافن فأوشكت أن تدور على عقبيها عائدة0 خرجت جين إلى الفناء وقد بدت في الظاهر هادئة ساكنة وإن كانت ترتجف من الداخل قالت وكأنها فوجئت بوجوده: - مرحبا يا غافن , أشكرك مرة ثانية على ضيافتك0 نهض غافن وقال: - أهلا بك يا جين 0 لاحظت ارتعاشة ما في وجهه ونظرة حائرة0 وكأنه كان يتوقع أن يراها بصورة مختلفة000 زاد ذلك من ثقة جين 0 توجهت نحو مقعدها وجلست0 نجحت اجتياز أولى العقبات واصعبها 0 والآن يمكنها أن تواصل مسيرتها دون تردد0 دخلت آلن لترفع بقايا المائدة 0 وجلست جين في صمت تتمنى أن يذهب غافن 0 ظل يرمقها بين ألحين والآخر0 لكنها مع مرور الوقت اكتسبت مزيدا من الثقة في النفس0 وأصبحت قادرة على مبادلة النظر في هدوء 0 هدأ الحوار برهة لتسمع صوت غافن يقول: - كيف تسير مشروعك يامات ؟ كانت جين ترقب وجه ماك بينما كان غافن يوجه إليه الحديث 0 أحست بالحيرة إزاء التعبير الذي على وجهه 0 أجابه أماك وقد رفع أحد حاجبيه في اهتمام واضح: - اتعني مدرسة الحضانة؟ على خير0 - هل عثرت على واحدة تحل محل شيرلي ؟ كانت جين ترقبهما وهي تسائل نفسها0 لقد كان ماك على وشك أن يقول شيئا فلماذا قاطعه غافن 0 استطرد ماك قائلا: - لم اعثر على أية متطوعة إذ ليس من السهل أن تعثر على متطوعة 0 ابتسم فجأة لجين وهي ترقبهما قائلا: - لو لم تكن جين آتية إلى هنا في عطلة لسألتها0 نجح في إثارة حب الاستطلاع لدى جين فردت على بسمته ببسمة أعرض منها متسائلة: - ماذا كنت ستسألني ؟ - كنت أمزح فقط فأنا لا أحلم0 قطع حديثه ونظر إلى غافن بسرعة 0 فاستحثته جين متوسلة : - أرجوك استمر0 - حسنا بدأت إعداد دار صغيرة للحضانة خارج بورت بارتريك لأطفال عاملات مصنع التعليب وهذا يعني أننا سنحتاج إلى مزيد من الأيدي العاملة من أمهات أطفال تتراوح أعمارهم ما بين ثلاث وست سنوات 0 إنه مشروع مازال في مرحلة التجريبية 0 ميغان تحضر يومين في الأسبوع0 كما أن هناك أخريات0 شيرلي موراي كانت تساعدنا أيضا لكنها ستتزوج الأسبوع القادم وهكذا فالمشروع مهدد بالتوقف0 هزة كتفيه معتذرا عن الاستطراد في الحديث قائلا: - أنا أكثر الكلام في هذا الموضوع فأرجو المعذرة0 - ماذا يتطلب هذا العمل بالضبط؟ - الأشياء المعتادة تعليم أولي جدا0 ومراقبة الأطفال اثناء لعبهم 0 أصبحوا الآن يتوقون إلى المجيء بدلا من أن يلعبوا في الشوارع كما اعتادوا 0 فكل أسبوع يتقدم لنا أطفال جدد, إن هذا الوضع يذكرني بكرة الجليد التي تتكاثر كلما استمرت في التدحرج0 - هذا يبدو رائعا0 استرخت جين وقد إنحنت الى الأمام 0 وشبكت يديها وسقط شعرها الناعم الى الأمام0 حاجبا وجهها0 نظرت إلى والدها الذي لم يكن يفوته شيء وهو يراقب في صمت0 - انا أرغب في المساعدة0 تلعثمت قليلا وقد رأت تعبير وجه والدها لكنه قال برفق: - ليس لدي أية نية لمنعك إذا كنت ترغبين في الذهاب0 لدي إحساس أنك ستجدين هذا المشروع ممتعا0 ساد الصمت هنيهة 0 وأدركت جين أن غافن لم ينطق بكلمة أثناء هذا الحوار0 جعلها هذا أكثر تصميما فقالت: - ماك أنا أود المساعدة قبل أن أحضر الى هنا اجتزت امتحان القبول في كلية تدريب المعلمات وهذا سيكون تدريبا جيدا لي 0 القى ماك رأسه إلى الوراء ضاحكا وقال: - اتنوين ذلك حقا؟ أنت فتاة رائعة ياجين متى ستأتين غدا؟ - نعم اذا اردت هل يوافقك هذا يا ابي ؟ اومأ وقد على وجهه بعض الانفعال ثم مد يده رابتا على يدها وقال: - بالطبع يا جين أنا سعيد بك 0 ملاءتها كلماته بوهج دافئ لكنه خبا حين تساءل ماك : - ولكن كيف ستصلين إلى هناك؟ - لم أفكر في هذا الأمر0 تحدث غافن قائلا: - يمكنني إن أمر عليك في الثامنة وأنا في طريقي إلى المدينة لو كان هذا مناسبا؟ نظرت إلى ماك آملة أن يقترح بديلا آخر لكنه هز رأس بانشراح قائلا: - أشكرك ياغافن, وفي هذه الحالة سأقلك أنا في طريق العودة ومعي جين0 لم تكن هناك وسيلة للتراجع ليتها كانت تعرف قيادة السيارة0 - شكرا لك0 لم تستطع أن تتمالك نفسها فجاءت نبرتها مفتقرة الى الرقة 0 ثم أضافت: - سأتعلم القيادة حتى أتمكن من أن أذهب بمفردي 0 قال غافن : - ليس الأمر بهذه السهولة ياجين0 نظرت إليه فرأت تلك بسمة المتعالية قالت وعيناها تشعان بالتحدي : - لا أستطيع أن أعرف ذلك قبل أن أجرب , أليس كذلك؟ هز كتفيه قائلا: - أنتي محقه إن سيارتي على بعد أمتار 0 هل تودين أن تتلقي درسا الآن؟ سمعت جين ضحكات والدها وماك الاهية كما راءت تلك البسمة الخاطفة التي مست شفتي غافن 0 إنه يتوقع أن ترفض نظرت إليه بعينين واسعتين قائلة : - ألا تخشى أن أقود بك السيارة واصدمها في أقرب شجرة؟ - لا00 - أنت حر وعليك تحمل النتائج0 لم تعرف لماذا قالت هذا0 وكأن الكلمات خرجت من تلقاء نفسها- أحست بالبرودة تسري في مفاصلها عندما نهض من مكانه قائلا : - اسمحو لي00 سأعود بعد دقائق0 دخل إلى المنزل دون أن ينظر وراءه0 نظر ماك إلى جون الذي كان يراقب جين وقال له : - اتعرف ياجون إن ابنتك فتاة شجاعه0 - بدأت أعتقد ذلك0 - انا اسفه يأبي لا أحب أن أكون فظة مع ضيوفك لكن00 - لا تقول شيئا ياجين 0 فغافن يستمتع بمثل هذه المشاحنات0 أليس كذلك ياماك 0 - نعم اعتاد أن يطيعه الجميع ولأ اشك إنه سيثيره أن يلتقي شخصا لايخاف أن يفصح عن رأيه بصراحة0 منعها صوت وقع أقدام قادمه من أن تجيب عليه0 رفعت رأسها لترى غافن قادما0 نظر غافن إليها قائلا: - هل أنت مستعدة؟ نهضت جين متجه إلى الخارج وهي آسفة على قبولها تحدي هذا الرجل0 إي جنون هذا الذي تملكها0 أبعد كل الذي حدث, ترضى بالعدو إليه؟ - هل تشعرين بالتوتر؟ سألها فيرقة وهويفتح لها الباب الخارجي مشيرا لها بالخروج قبله0 - كلا 0 هل يجب إن اكون متوترة؟ كانت في الحقيقة متوترة 0ترددت وهي تهبط الدرج 0 بل أنها أوشكت على التعثر 0 قال وكأنه أحس بهذا التردد0 - لست مضطره إلى الخروج معي0 - ألا يروقك أن أنسحب؟ نطقت جملتها هذه وهي تصر على أسنانها واتجهت رأسا إلى مقعد القيادة0 - انتظري لحظة0 ستجلسين الى جواري أولا0 لاحظيني وأنا اقود ثم يأتي دورك0 أراها كيف تدير المحرك وأنطلقت السيارة 0 بدلا من أن يتجها الى اليسار صوب بورت باتريك0 اتجها ناحية اليمين فتساءلت جين: - إلى أين نحن ذاهبان ؟ - إلى المطار فليست هناك حركة يوم الأحد ستجدين مساحة كافية لتعلم القيادة0 - مساحة بلا أشجار0 أهذا ما تعنيه؟ ضحك قائلا وهو يرمقها بنظرة ساخرة: - يمكنك أن تقولي ذلك ألا يعوزك الرد أبدا0 - معك كلا0 إنها لم تتعامل بمثل هذه الطريقة مع أحد غيره 0 كان فيه شيء ما يثير فيها غريزة فطرية لانتقام 0 لن تنتصر عليه أبدا0 كانت تعرف ذلك حتى قبل أن يجيب 0 خفض عينيه إلى يديها وقد شبكتهما بتوتر على حضنها0 وسألها ببرود : - هل أنت دائما متوترة هكذا 0 ام ان هذا يحصل معي أنا فقط؟ حاولت أن تستعيد هدؤها ثم قالت : - لست متوتره أنا أحاول أن أركز تفكيري على ما تفعل لقد طلبت مني أن أراقبك0 - اقدم لك اعتذاري 0 كانت تكمن في صوته نغمة ضاحكة0 تلك العجرفة اللاهية تثير جنونها00 إنه شخص لا يحتمل مثل الخالة دوروثي إنه دائما على حق0 - بعد بضعة أميال سأترك لك عجلة القيادة اتفقنا0 خفض من سرعة السيارة0 لقد وصلا الآن إلى الحدود الخارجية لأرض المطار العتيق, الذي كان هادئا ومهجورا 0 أوقف غافن محرك السيارة وقال وهو يهبط من السيارة: - الآن لنتبادل أماكننا 0 زحفت جين إلى مقعد القيادة وأمسكت بعجلة القيادة التي كان فيها شيء من دفء يديه 0 قالت جين محدثة نفسها أن هذا الأمر مضحك فها انا على وشك أن أتعلم القيادة على يدي الرجل الذي قررت ان اتحاشاه تماما 0 وهو سيراقب الآن كل حركاتي - وعلي ان اتحمل ذلك طوال ساعة او اكثر 0 جلس الى جوارها وقد مد ذراعه على ظهر المقعد قائلا : - هل كل شئ على ما يرام ؟ تحركت السيارة بارتجاج في بادئ الأمر ثم بسلاسة أكثر عندما تلمست طريقها الى محرك السرعة 0 - حسنا 00 كان صوته هادئا0 واحست جين بجسدها المتوتر يسترخي بينما كانت تذعن لتعليماته امتدت يده مرة وحركت يديها على عجلة القيادة 0 كانت لمسة سريعة خفيفة لم تدم سوى لحظات0 كانت تمتثل له طواعية دون آي ارتباك أو تردد0 وأدركت فجأة أيضا أنها تشعر بالمتعة0 طلب منها أن تتوقف قائلا: - أحسنت حتى الآن0 أحست جين فجأة وكأن قلبها يترنح واعقب ذلك وهج دافئ 0 كم هو أمر مضحك هذا التناقض في مشاعرها نحوه 0 بعد مضي ساعة توقفا0 كانت تتصبب عرقا وقد أحست بآلام في جسدها كله بفعل التركيز الذي بذلته طوال الساعة الماضية 0 جلست ساكنة تنتظر تعليماته0 - سنستريح الآن0 انزلي ومدي رجليك0 فأنت في حاجة إلى فترة راحة0 نزلت وقد أحست بمفاصلها متخشبة مرتعشة 0 كانا يرقبها بنظرة لاهية ثم سألها بتحفظ: - اتحتاجين إلى مساعدة في السير؟ نصبت ظهرها المتألم وأخذت تضم أصابعها0وتبسطها 0 ثم قالت وهي تتلفت حولها: - كلا شكرا 0 إلى أين نحن ذاهبون؟ - سترين تفضلي من هنا0 تبعته وقد اختفى وراء كوخ من الأكواخ الجاهزة البناء0 برميلي الشكل ذلك الكوخ الذي كان أول شيء تراه عندما وصلت إلى سارامنكا 0 دخلا إلى الكوخ المهجور كان وقع أقدامهم على أرض الكوخ الأسمنتية يتردد في صوت مكتوم 0 بينما كان يقودها صوب باب في مؤخرة الكوخ0 وجدت نفسها تتساءل: - ما من أحد هنا! هل من المسموح لنا أن ندخل؟ - نعم 0 أجابها بنبرة هامسه تردد صدى نبرتها 0 ثم أبطأ خطواته وأمسك بذراعها بطريقة غريبة أحست فيها بالحماية وقال : - هناك مطبخ في المؤخرة فيه ثلاجات ملأى بالمشروبات والثلج تريدين مشروبا بالتأكيد اليس كذلك؟ أحست بأصابعه على ذراعها وكأنها كتلة نار 0 وأحست بالارتياح عندما سحب يده ليفتح لها الباب وقد تراجع خطوة ليفسح لها الطريق 0 كانت الحجرة الصغيرة شديدة الحرارة فسال العرق من جديد على جبهة جين 0 أشار لها أن تجلس في أحد المقاعد فأرتمت فيه0 وضع كوبين على المنضدة و أخرج علبتين مرطبات من الثلاجة ثم ألقى عددا من مكعبات الثلج في الأكواب وفتح العلبتين ثم قال : - ليس في الثلاجة غير هذا النوع من المرطبات0 هزت رأسها قائلة : - لا بأس0 أخذ السائل الذهبي ذو الرغاوي يتساقط كالشلال على الثلج بينما كانت جين تراقبه بنهم 0 أحست وكأنه الذ مشروب تذوقته في حياتها 0 أخذ مقعدا لنفسه وجلس فيه0 وكأنه يمتطي سرجا مسندا ذراعيه على ظهر المقعد 0 أخذ يرقب جين بنظرة تائهة ثم قال: - أحسنت القيادة هل اكتفيت بهذا القدر اليوم؟ - سأترك ذلك لك0 أجابته وهي تزحلق اصبعها على الكوب المثلج 0 اكتشفت أنها لا تستطيع مبادلته النظر في ثبات0 الأمر الذي كان مثار قلقها0 - اعتقدت أنك أخذت كفايتك ؟يبدو عليك الأجهاد 0 صمت برهة ثم أضاف: - هل لي أن أطرح عليك سؤالا؟ أجفلها السؤال لكنه بادر مستطردا : - اريد ان اسألك شيئا يتعلق بماك0 قالت وقد هدأت: - ماذا؟ - لماذا عرضت أن تساعديه في مدرسته ؟ - لإني أردت ذلك0 هذا العمل يبدو ممتعا ولماذا تسأل؟ - أنت الآن في عطلة 0 وما من أحد كان يتوقع أن تتطوعي لهذا العمل 0 عادت إلى ذهنها تلك الصورة 0 وهم جالسون في الفناء في منزل والدها 0 كيف إن غافن هو الذي أثار الموضوع أولا 0 وكيف كانت النظرة التي علت وجه ماك وتعمد غافن مقاطعته عندما كأن ماك على وشك أن يقول شيئا 0 أحست جين أنها على أهبة اكتشاف شيء ما0 اطلقت زفرة عميقة ثم نظرت اليه متسائلة0 فقد كانت في حاجة لأن تعرف0 - قل لي كنت أنت أول من أثار الموضوع 0 لقد فعلت ذلك بغرض ما, ماهو ؟ ابتسم ورفع يده اليمنى في حركة استسلام قائلا: - أنت ذكية جدا يا جين0 قالت بعناد وقد شددت قبضتها على الكوب : - وجهت إليك سؤالا؟ جاء صوته رقيقا: - نعم كان لي هدف كنت أود أن أعرف إذا كنت ستتطوعين او لا 0 - لماذا؟ - أرجعي هذا الى حب الأستطلاع 0 قال جملته الأخيرة محدقا فيها وكأنه يتحداها ان تسأله المزيد 0 - ظننت أنني لن أتطوع أليس كذلك ؟ - تصورت ذلك بالفعل 0 نهضت وجذبت حقيبتها بشدة من المنضدة اجتاحها غضب مفاجئ0 أحست إنها ستختنق إذا لم تقل فقالت : - أن آسفه لأني خيبت ظنك , والآن أريد أن أعود الى المنزل0 - هل اغضبتك ؟ قاومت بشدة حتى استطاعت أن تتمالك نفسها ثم قالت : - نعم اغضبتني 0 من تظن نفسك؟ - قلت لك الحقيقة أنا لا اكذب , هل كنت تحبين أن انفي ذلك؟ - بأي حق تخضع الناس لمثل هذه الاختبارات؟ أنت متعجرف بشكل لايطاق0 لقد توقعت أن أفشل في محاوله القيادة اليس كذلك ؟ - كلا لم أفكر في الحقيقة في هذا الموضوع0 وأنت لن تصلي الى شئ اذا فقدت اعصابك معي 0 اطلقت ضحكة وهي تقول: - كلا- انت تتصور أنك تملك الجميع ان بوسعك إن تفعل ما تشاء0 حسنا ليس الأمر كذلك معي يا سيد غرانت 0 فأنا لست امرأة صينية مسنة يمكنك أن تطردها أؤكد لك ذلك 0 كانت ترتجف وقد ملأتها الرغبة الجارفة في أن تضربه اتجه نحوها ثم وقف أمامها مباشرة قائلا : - سيدة صينية ؟ ماذا تقصدين؟ - أخالك نسيت 00؟ ان هذا لايدهشني 0 استدارت لتفتح ألباب وتخرج من الغرفة الخانقة بعيدا عنه0 فمد يده وأغلق ألباب من جديد قائلا: - لم ننته بعد0 استدارت نحوه ثم قالت في حدة: - افتح الباب لن امكث معك دقيقه واحدة بعد الآن 0 - بل ستمكثين إلى أن تفصحي عما تعنيه 0 - رأيتك في مطار جافر تعرض اراءك على مجموعة من الموظفين وتمنع تلك المرأة المسكينة من أن تستقل الطائرة0 إلى أين اقتادوها ؟ إلى غرفة التعذيب! في تلك اللحظة انفجر ضاحكا ثم تمالك نفسه قائلا: - يا إلهي هل بدأ الأمر كذلك ! هل أنت جادة حقا ؟ اكتفت بتحريك مقبض ألباب محاولة فتحه كرد على تساؤله 0 جذبها وأدارها لتواجهه وقد اطبقت اصابعه على ذراعيها قائلا برقة: - اجيبي 0 - أنا لا أود أن أتحدث معك0 أرفع يديك عني في الحال0 - سأصحبك الى المدرسة غدا 0 ذكريني ونحن هناك أن أريك شيئا0 ومضت عيناه وأصبحت أكثر سوادا وقدرة على التغلغل فيها واستطرد: - وبعد هذا أنا متأكد من أنك ستتراجعين عن كلامك !0 [COLO7- مفاجأة في المدرسة عندما ذهبت جين الى فراشها حال أجهادها المفرط دون استرسالها بالتفكير 0 فبعد الشجار الذي وقع بينها وبين غافن اوصلها ورحل الى منزله بعد ان قطعا الطريق في صمت مشحون بالتوتر 0 جاء كولن في تلك الأمسية ,وحاول كولن ان يطوقها بذراعيه لكن جين صدته 0 لم تكن تعرف لماذا بالتحديد0 لكن ربما كان ذلك ردة فعل لما حدث مع غافن 0 كان ماك موجودا اثناء زيارة كولن وقبل ان يرحل طلب من جين ان توصله الى السيارة تاركين جون في حجرة الجلوس سعيدا وقد استنفد قواه في لعب الشطرنج مع ماك وبدا في تحسن واضح 0 بادرها قائلا : - ابلغتك ميغان انني اريد من جون ان يعرض نفسه على اخصائي لأجراء الفحوص والأختبارت الازمة 0 انه يصاب بنوبات شبيهة بشلل مؤقت وقد جربت معه أدوية عدة 0 لكني لست متخصصا في هذا النوع من الأمراض , ربما تنجحين في اقناعه 0 - - اعدك بذلك يا ماك 0 ان ابذل قصاري جهدي 0 - ربت على كتفيها وقال : - - انا متأكد من ذلك يا فتاتي 0 كم من الوقت ستقضين هنا ؟ - ربما شهر , لكني اعتقد انني قد ابقى لفترة أطول 0 فأنا ارغب في ذلك وهو طلب مني ان ابقى 0 - - انا آمل ان تفعلي ذلك يا جين فقد تغير بالفعل 0 رأيت ذلك بنفسي اليوم 0 انه رجل وحيد برغم اصدقائه الكثيرين 0 قبل مجيئك كان يعيش في فراغ حتى لوحاته أصبحت ضعيفة 0 وتلك مأساة لمن له موهبته 0 لكنه الآن يبدأ من جديد 0 عثر على ابنته واصبح لديه من يعيش من اجله 0 وكلما اسرعت بتعلم القيادة كان ذلك افضل 0 لأنك عندئذ ستتمكنين من ان تأخذيه في نزهات وبالمناسبة كيف سار درس القيادة مع غافن لم اشأ ان اسألك فور عودتك 0 فقد بديت شاردة الذهن قليلا 0 - غافن يقول انني اتقدم على نحو طيب ولكن 00 امسكت عن الحديث فبادرها قائلا : - لكنه متعجرف ودكتاتور 0 - لم اقل ذل 00 - ليس هناك حاجة لأن تقولي فبوسعي ان ارى ذلك بنفسي 0 اعرفه أكثر من أي شخص آخر عرفت والده ايضا لسنوات طويلة 0 نحن نتوافق جيدا وانا احبه واحترمه فهو مستقيم صادق بمعنى الكلمة 0 وهو رجل عظيم تجدينه الى جوارك اذا احتميت اليه 0 لكني استطيع ان ارى اخطأءة ايضا 0 اعتاد منذ صغره ان يكون مطاعا 0 ربما لم يكن هذا خطأه هو فذلك تأثير المال – ليس على من يملكه بل على من حوله 0 فهم يرتعدون خوفا من اغضابه 0 لكن كوني كما انت يا جين ولاتدعيه يستأسد عليك0 - لن ادعه يفعل ذلك 0 وان كان هذا من الصعب 0 أحست انها تحب ذلك الا اسكتلندي الصريح وتثق فيه فاستطردت قائلة : - عشت مع خالتي منذ وفاة أمي 0 وهي تشبه غافن لقد عشت تحت سطوتها , ولكن منذ مجيئ الى هنا أدركت كم كانت على خطأ 0 اعتقد انني اشمئز منه بسببها 0 أتعرف ما اعني ؟ - لست طبيبا نفسيا 0 لكني اعرف ماتقصدين 0 ستكونين يا جين ذات منفعة كبيرة لوالدك وربما لغافن ايضا 0 بتلك الكلمات ودعها ماك ضاحكا : في صباح اليوم التالي كانت جين على أهبة الاستعداد 0 طلب منها ماك ان ترتدي شيئا يسهل غسله فارتدت شورتا قصيرا لونه ازرق ونزلت تنتظر غافن 0 قدمت لها الن فطورا دسما وهي تقول : - ستكونين مشغولة طوال الوقت يا طفلتي 0 كلي جيدا فستكونين في حاجة الى كل قوتك 0 سمعت جين طرقا على الباب 0 فنهضت مسرعة محاولة الانتهاء من فطورها على عجل 0 - لاتضطربي 0ففي وسع السيد غافن ان ينتظر لحظة0 قالت مديرة المنزل هذه الكلمات وهي تنطلق نحو الباب مدمدمه في استياء0 كان غافن يقف قرب السيارة مع الن 0نظر اليها مليا قبل ان يحييها بفتور 0 قاد السيارة عبر الممر بينما كانت الن ترقبهما ولوحت لهما ثم استدارت داخلة المنزل 0 سألته جين وهي ترتعش : -الى اين نحن ذاهبان ؟ - سترين بنفسك 0 جاء رده مقتضبا 0 واحست جين وكأنها قد وضعت كيانها كله في حال تأهب 0فمن الأفضل ان تتم هذه المواجهه بسرعة 0 قطع عليها افكارها قائلا : - قد تخيب المدرسة آمالك 0 فلن تجدي هناك سوى نساء واطفال0 قال ذلك ثم راح ينظر اليها في امعان فأحست بالغضب يجتاحها لكنها تمالكت اعصابها وقالت : - انا لا افهمك 0 - اعتقد انك تفهمينني 0 لن تجدي هناك رجالا لتؤثري عليهم , ثم ان هذا الشورت الذي ترتدينه لن يكون له أي مفعول 0 صرت على اسنانها قائلة : - هل تعتمد ان تكون فظا ؟ اذا كان الأمركذلك 0 فقد نجحت 0 لقد ارتديت هكذا لأن ماك طلب مني ان البس شيئا يسهل غسله 00في كل حال 0انا لست سوى طفلة وانا واثقة ان هذه هي نظريتك نحوي فلا يهم اذا ما ارتديه 0 لم تكن متأهبة لرد فعله هذا 0فقد تقلصت فجأة عضلات وجهه وضغط بيديه على عجلة القيادة حتى بدت مفاصلهما بيضاء من شدة التوتر 0 ماذا قالت حتى اثارت غضبه على هذا الشكل ؟ قال : - لست في حاجة لأن تذكريني بسنك0 ثم ساد الصمت 0صمت محير مثير للقلق 0 لقد نجح ردها العفوي في ان يسكته 0 اخترقت السيارة ميناء بورت باتريك , كانت الشوارع ملأى بصخب الحياة وتموج الألوان 0 بينما سيطر على السيارة جو من التوتر جعل جين تتمنى ان تكون خارجها وسط هؤلا المارة0 تغير طابع الجزيرة بعد ان خلفا وراءهما المدينة 0 فقد أصبح أكثر غرابة , بعد ان دنت الجبال من مرأى البصر , وظهرت الحدود والنباتات الأستوائيه المورقة بكثرة حتى قاربت ان تتعدى الطريق نفسه 0 حبست جين أنفاسها أمام هذا الجمال البرئ ففي بعض الأوقات قاربت الأشجار من الألتقاء عبر الطريق فبدا وكأنهما يسيران خلال نفق أخضر عال , بينما كانت الشمس تخترق بين حين وآخر فروع الشجر الكثيفة بوهج أصفر لامع كالماس 0 ابطأ غافن من سرعة السيارة فرأت من خلال الأشجار عددا من الأبنية المنخفضة المستطيلة –سقفها من الحديد المضلع , وقد طلي باللون الأبيض ليعكس الحرارة 0 كانت سيارة ماك تقف في ظل شجرة فأوقف غافن سيارته وراءها قائلا : - هاقد وصلنا . كانت جين تتساءل ماذا يمكن ان يريها هنا في المدرسه? بادرها قائلا وكأنه قرأ افكارها: - أريد أولا أن أريك شيئا. سار مبتعدا تاركا جين تتبعه وسط شجيرات كثيفه تعلوها ورود ناعمه ناصعة البياض ذات رائحة قويه, سارت جين خلفه وقد زمت شفتيها في تحد فجأه اقتربا من أرض خاليه فوصل الى سمعها صوت خرير المياه الذي أكسب تلك البيوت الصغيرة المتراصة في شكل شبه دائري جوا من السحر, اصطفت بطول الجدران شجيرات أزهار زاهية ألألوان ومروج صغيرة رويت بعنايه للمحافظة على خضرتها الناضرة بينما طلي كل منزل بلون زاه وفتحت النوافذ على مصراعيها لادخال أكبر قدر من الهواء0 توقف غافن واستدار ناحيتها متساءلا دون أن ينم تعبير وجهه عن شئ : - هل أنت مستعدة؟ - مستعدة لماذا؟ رفع حاجبيه في سخرية قائلا : - هل انت مستعدة لتعرفي ما أسفرت عنه زيارة المرأة الصينيه لغرفة التعذيب! ودون أن ينظر وراءه مرة ثانية توجه نحو أقرب باب وطرقه0 خفق قلب جين بقوة عندما انفتح الباب0 فقد تقدمت مجموعة من الأطفال وأثنين وثلاثه من الشباب الصينيين نحو غافن وأحاطوا به بينما رأت وجها مألوفا يقف في مدخل الباب وقد تصاعدت جلبة من الأصوات جميعها تحيي غافن0 رفعت المرأة العجوز يدها بحركة تحية وقد علت وجهها ابتسامة عريضة. تقدمت المرأة الى الأمام ببطء ثم انحنت وصافحته 0 استدار غافن نحو جين كانت نظرته ملأى بالتحدي 0 تم بدأ يتحدث في رقة إلى المرأة التي اومأت ثم ادارت عيني براقتين نحو جين وقت اتسعت ابتسامتها هذه لتكشف عن أسنانها الذهبية0 لم تكن تتحدث الإنجليزية فتولت حفيدتها ترجمة ردها على تساؤلات غافن قائلة : - إن جدتي ترغب في أن تشكر لك اهتمامك فلولا وجود السيد غلرانت في المطار لم استطاعت المجيء إلى هنا0 بلعت جين ريقها محاوله الابتسام وهي متنبهة تماما إلى نظرة غافن الساخرة المثبته عليها حين مضت الفتاة تقول : - نعم جاءت جدتي وحدها من سايغون 0 وفقدت نقودها وجواز سفرها0 كان موظفو المطار على وشك استدعاء البوليس , لكن غرانت طلب منهم العناية بها, وضمن لهم أن يقوم هو بالتحقيق من صدق روايتها عندما يصل هو الى سارامنكا ثم يعود إلى الاتصال بهم تليفونيا, على أن يقوموا في هذه الأثناء بتقديم الطعام لها على نفقته 0 إذ إنها كانت تشعر بجوع شديد بعد أن أمضت ساعات انتظار طويلة في المطار0 تصاعدت الأصوات من جديد0 وبدى غافن وكأنه يرفض دعوتهم له بالدخول , كانت يداه ترتفع في حركة معبرة عن الاعتذار وهويقهقر الى الوراء 0 تصحبه عاصفة من كلمات الوداع0 تأبط غافن ذراع جين ليعودا أدراجهما وسط الشجيرات الكثيفة0 وفي منتصف الطريق توقف قائلا: - هل أنت مقتنعه الآن بأنني لست كريها0 - لقد لهوت بما فيه الكفاية , نعم , ماذا تريد مني, هل تريد أن أركع أمامك الم يكن في وسعك أن تكتفي بأن تقول الحقيقة؟ قال لها بلطف : - هل كنت ستصدقينني ؟ كنت أريد أن ترى بنفسك حتى تعرفي الحقيقة وتدركي أن الأشياء ليست بالضرورة كما تبدو0 - ربما كان عليك أيضا أن تحاول تذكر ذلك0 - لقد قلت شيئا كهذا من قبل ماذا تعنين؟ ردت في غضب قائلة: - إذا عليك أن تنتظر حتى أكون مستعدة لذلك, جئت لأعمل وأنا واثقة من أن ماك ينتظرني0 راح غافن يحدق في وجهها 0 شعرت فجأة بأنها لم تعد تخافه كانا إحساسا غاية في الغرابة 0 أحست وكأنها تعيش تجربة جديدة مع هذا الرجل المتسلط وعرفت إنه هو أيضا أحس بالشيء نفسه ذلك الشيء الذي لا يمكن وصفة0 استدارت جين وواصلت المسير , كانت تعرف أن شيئا قد تغير في تلك اللحظة0 رأت جين المدرسة كان الأطفال قد وصلوا بالفعل فصحبها ماك إليهم, بناء المدرسة مماثل للأبنية الأخرى التي رأتها منذ قليل0 منخفضة, مستطيلة, خشبية , ذات سقف حديدي مضلع ,قابلت سيدة لطيفة وقد تبعها أطفال يرتدون زيا موحدا0 كانت بشرتهم بلون العسل, عيونهم سوداء وقد بدأو جميعا ممتليين سعادة0 بادرت السيدة قائلة قبل أن يكون لدى مات فرصة لتقديمها: - اسمي آن موراي 0 سعدت بلقائك0 صافحتها جين ضاحكة وهي تقول: - آسفه أنني لا أعرف شيئا عن مدارس الحضانة0 - لكنك ستتعلمين أنا واثقة من ذلك0 نظرت السيدة موراي إلى ما ترديه جين بنظرة استحسان قائلة وهي تتنهد: - كنت أود أن يكون في وسعي ارتداء الشورت لكن زوجي يقول إنه ليس مناسبا لسني0 قال ماك مداعبا : - إنه يخشى أن يلتف الرجال حولك0 اسمحا لي بالرحيل فلدي عملية جراحية في المدينة سأعود في وقت آخر0 تلفتت السيده حولها قائلة: - تعالي معي يا انسه , نتجول في أرجاء المدرسة0 تضاحك الأطفال في مرح وركض بعضهم إلى الأراجيح بينما وقف البعض الآخر يراقب في صمت0 تقدمت نحو جين طفلة صغيرة وقد وضعت اصبعها بثبات في فمها0 ثم اخرجت اصبعها من فمها رافعة ذراعيها إلى أعلى نحو جين وهي تقول: - من فضلك احمليني 0 انحنت جين ورفعت الطفلة الصغيرة بين ذراعيها فابتسمت السيدة موراي قائلة: - هذه هي ميلاني ستطلب منك أن تحمليها طوال اليوم0 فإذا لم تكوني حازمة معها فإن ذراعيك ستتعبان 0 طوقت ميلاني عنق جين ضاحكة بيد متسخة قليلا0 فعرفت جين ماذا كان يعني ماك عندما طلب منها ارتداء ملابس يسهل غسلها 0وقالت الطفلة: - أنا أحبك0 أنت صديقتي0 في فترة الظهر أحضر رجلان أوعية طعام ضخمة من مقصف العمال0 وجلس الأطفال إلى الموائد يأكلون وتناولت آن وجين وجبتهما مع الأطفال0 وبعد ذلك خلد الأطفال إلى الراحة واطلقت آن زفرة ارتياح بعد أن وضعت آخر طفل في سريره 0 ونظرت إلى الأسره الصغيرة المصطفه وقد رقد في كل منها وجه صغير, نظرت إلى جين قائلة: - أمامنا ساعة للراحة تعال لنتناول قهوة مثلجة وندخن سيجارة تحت تلك الشجرة فنحن في حاجة إلى قيلولة قصيرة0 جلست آن وجين تثرثران في تراخ تحت ظل شجرة ملتوية ضخمة كانت أوراقها تصدر حفيفا وسط نسمة خفيفة 0 سمعت جين صوت سيارة تتوقف بعيده وتساءلت إذا كان ماك قد عاد ثم نسيت الأمر عندما بادرتها أن قائلة: - يجب أن تحضري حفلة الزفاف يوم السبت0 - هذا كرم منك0 أشكرك0 هل سيحضر والدي الحفلة؟ هزت ’أن كتفيها قائلة : - لا نعرف بعد ماك سيخبرنا بذلك ولكن حتى لو لم يحضر يجب أن تأتي انت 0 غافن يمكن أن يحضرك أنا واثقة من ذلك0 - شكر لك سأحدث ميغان بذلك حين اراها 0 مر الوقت بسرعة وبدأ الأطفال يستيقظون بادرتها جين متسائله: - هل يعمل آباء الأطفال جميعا في مصنع التعليب؟ - نعم او في مجمعات تخزين لباب جوزالهند0 فنحن لدينا مشروع تصدير لباب جوزالهند وليفه المستخرج من القشرة خارجية وهو يستخدم في صناعة الحصير وأشياء أخرى0 وعندما يتسع المشروع سنعمد إلى تزويد المدرسة بهيئة من المدرسين المتمرسين 0 فالمدرسة مازالت في مرحلة تجريبية ولذلك فغافن لا يملك ألا أن يقبل مساعدة عدد منا كلما امكننا ذلك - ونحن نسعد بأن نخدمة فهو بذل الكثير من آجل سارمنكا و كل فرد فيها0 - تقصدين ماك انه000 قاطعتها أن وهي تضحك في دهشة : - كلا لا أقصد ماك بل غافن فكل هذا ملك له وحده0 لم تستطع جين أن تستوعب ما قالته آن بعدة دقائق حيث وقفت محملقة في ذهول ثم قالت في بطء: - لست أفهم تصورت أن هذه المدرسة ملك لماك 0 - نعم يمكنك أن تقولي ذلك فهما فكرا في المشروع معا الم يخبرك أحد بذلك؟ إن المصنع ملك لغافن 0 كما كان ملكا لوالده من قبله 0 وماك يقدم له النصح فيما يتعلق بالشئون الصحية والتأمينات وشروط العمل0 تمكنا من رفع مستوى المعيشة في الجزيرة بشكل ملحوظ مما مكن الأمهات أن يعملن هنا وهن واثقات من إن أطفالهن في أمان0 لم تكن جين تصغي إليها تماما فقد عادت إلى ذلك الحوار الذي دار في بيت والدها وعرفت الآن لماذا قاطع غافن ماك في تلك اللحظة وفيما بعد عندما كانا في المطار كان في وسعه أن يقول لها الحقيقة لكنه لم يفعل0 دخلت إلى المدرسة وبدأتا توقظان من بقيا نائما من الأطفال قفزت ميلاني متجهة نحو جين ثم دست يدها صغيرة في يد جين 0 ابتسمت آن قائلة: - أصبحتما صديقتين0 - إنها فتاة طيبة0 سأدعك تكتشفين ذلك بنفسك0 جلست جين تلعب مع الأطفال في ملعبهم ثم تذكرت كلمات آن تلك فتلفت حولها لتتأكد من إن كل شيء على ما يرام 0 نهضت مسرعة وقد استدارت صوب المدرسة منادية0 : - ميلاني هل هي عندك؟ ظهرت آن في مدخل الباب قائلة: - كلا هل حدث هذا مرة ثانية ؟ متى رأيتها لآخر مرة؟ - منذ دقيقه واحدة كانت تلعب في حفرة الرمال0 - جربي هذا طريق بينما ابحث عنها وراء المدرسة0 ركضت جين مسرعة نحو الطريق وسط شجيرات متشابكة وقد غمرها ذعر مفاجئ اكتسى المكان بالعشب - فكان يمكن للفتاة الصغيرة أن تكون في أي اتجاه دارت حول نفسها ثم هوت وقد أحست بالدوار بعد أن تعثرت قدمها في نبات متسلق0 نهضت متجاهلة الآلام في كاحلها وركضت وهي تنادي صارخة: - ميلاني , ميلاني اين انت ؟ توقفت فجأة بعد ان اقتربت من الساحة الأخرى المؤدية إلى المصنع التي كانت تقف فيها سيارة ماك 0 بل كانت سيارة غافن وقربها رأت وجهين مألوفين 0 استوعبت جين ذلك المنظر في ارتياح مفاجئ 0 لم تعرف في تلك اللحظة أن منظر هذين الوجهين سينطبع في ذاكرتها إلى الأبد0 كان غافن منحنيا ليحمل ميلاني 0 رأت ذلك الرجل الطويل القامة وهو يؤرجح الطفلة الصغيرة الممتلئة 0 كانت تسمع صرخاتها الضاحكة كما سمعته يقول: - أين أنت ذاهبة ياميلاني؟ رأى جين فجأة فتوقف0 تقدمت نحوهما وهي تجفل من الألم كلما وضعت قدمها اليسرى على الأرض 0 تقلص وجه غافن عندما خفض نظر إلى قدمها فبادرها متسائلا: - هل كنت تركضين؟ - نعم أشكرك لأنك اوقفت ميلاني دعني اعيدها إلى المدرسة0 - من الأفضل أن أفعل أنا ذلك 0 فأنت لا تبدين على ما يرام0 هل تؤلمك قدمك؟ - كلا 0 كانت تكذب واستدارت عائدة 0 كل خطوة كانت عذابا لكنها كانت عازمة على الا تجعله يرى ذلك0 ظهرت آن ورأت جين فحملقت قائلة: - ماذا جرى لك ؟ قال غافن : - أعتقد أنها في حاجة إلى بعض الإسعافات الأولية0 انزل ميلاني من بين ذراعيه قائلا: - اذهبي أيتها الفتاة الشقية ,لاتهربي مرة ثانية وإلا ضربتك 0 أخذت ميلاني تقفز بعيدا وهي تقهقه , ثم ركضت لتنضم إلى رفاقها0 تقدمت آن نحو جين آخذة بذراعها وهي تقول: - اجلس في الداخل سأذهب لأحضر ماء مثلجا لونك شاحب0 امتثلت جين في صمت فلم يكن أمامها خيار برغم إحساسها بوجود غافن فهي تعرف إنه ليس في وسعها أن تظل واقفة كي لا تتعرض مرة اخرى للغثيان0 سمعت آن تقول شيئا لغافن بصوت مرتفع , لكنها لم تعي الكلمات ثم وجدت نفسها جالسه في أحد مقاعد الأطفال الصغيرة 0 قالت آن : - تورم كاحلك كا البالون 0 يجب أن نحضر ماك ليرى قدميك 0 ألا تظن ذلك يا غافن 0؟ ركع أمام جين ثم رفع رأسه مؤيدا كلام آن: - نعم لكن أمامنا بعض الوقت قبل أن يحضر سأضمد الجرح أولا0 أين صندوق الإسعافات الأولية يا آن ؟ اختفت آن في حجرة مخزن صغيرة فقال غافن برقة: - لماذا أنكرت أن كاحلك تؤلمك عندما سألتك ؟ - أنا لا أحب استثارة شفقة أحد 0 ضغط على شفتيه قائلا : - لم أقل أنك كذلك ولكن كم أتمنى لو لم تكوني00 لم تعرف قط في ماذا كان ينوي ان يقول في تلك اللحظة دخلت آن حاملة الإسعافات الأولية0 كانت يدا غافن رشيقتين سريعتين وهو يضمد كاحل جين بمهارة0 اختلطت مشاعر جين بين احساس بالراحة بعدما خفف الضماد البارد الآمها وبين الخوف من ذلك الإحساس بالاضطراب الذي أحدثته لمسة يده 0 قالت بعد إن انتهى من تضميد قدمها: - شكرا0 - هذا من دواعي سروري من الأفضل أن اصحبك الى المنزل أليس كذلك؟ - كلا شكرا أفضل أن أبقى مع الأطفال أقص عليهم حكاية 0 - كما تشائين يا جين لم تبقى سوى ساعة واحدة فقط على موعد انصراف الأطفال0 رفعت آن يدها إلى فمها قائلة: - يا إلهي يجب أن أعطي الأطفال الحليب 0 - سأتولى الأمر عنك0 عاد غافنلا وآن بإبريق من القهوة المثلجة ووعاء كبير من الحليب , وبعد أن قدما الحليب للأطفال الذين اصطفوا استجابة لتعليمات غافن , جلست جين وآن وتناولتا مشروبهما المثلج 0 اما غافن فقد ظل في الخارج0 همست آن قائلة: - إنه رائع مع الأطفال أتعرفين ذلك 0 إنهم يفعلون أي شيء من اجله 0 لم يكن في وسع جين إلا أن توافق على ذلك وهي ترقب ألأطفال يناولون غافن أكوابهم الفارغة0: - إنهم يطيعونه لأنه يرعبهم0 ندمت على ما تفوهت به في الحال 0 وضحكت آن قائلة: - لا أعتقد ذلك فهو عندما يأتي إلى هنا يختلف تماما عن ما هو عليه في عمله 0 هنا يصبح على سجيته اعتقد انه واحد من هؤلا الرجال الذين لا يخشون أن يظهروا بعض الرقة من حين إلى آخر فمعظم الرجال يعتقدون أن هذا يتنافى مع رجولتهم 0 أما غافن فلا يهتم برأي الناس فيه0 رشفت جين قهوتها ببطء لم تكن تريد أن تعرف شيئا عن وجه الآخر0 لكنها برغم ذلك وجدت نفسها تراقبه وقد انحنى يحدث أحد الأطفال0 منكب على ما يقوله الآخر دون أثر لتلك العجرفة المعتادة في وجهه0 لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تساءلت فيها جين عما إذا كانت سارة تأتي الى المدرسة0 لم تجد الوقت مناسبا لتسأل 0 فقد كانا غافن آتيا يحمل مجموعة من الأكواب الفارغة إلى حوض الغسيل 0 بادر آن قائلا: - سأقيم سورا حول تلك المساحة من الأرض حتى لا يتكرر حادث ميلاني0 - إنها فكرة جيدة وستسهل مهمتنا 0 - سأعمل على تنفيذها غدا0 نظر إلى ساعته وقال: - أنا ذاهب الآن لأرتب بعض الأمور المتعلقة بهذا الموضوع0 قالت آن وهي تهز رأسها: - هذا هو غافن , لا يكاد يقول شيئا إلا ويفعله من المؤسف إنني لن اكون هنا غدا لأراقبه وهو ينفذه0 عاد غافن بعد قليل ومعه اثنان من سكان الجزيرة يحملان مجارف ومطارق 0 رأته جين وآن في يشير إلى عدد من المواقع ويخطط بالعصا في الأرض الرملية وسطا انبهار ألأطفال 0 ثم تقدم نحوهما قائلا : - اتصلت تليفونيا بالمدينة من مكتب المصنع ستحضر سيارة نقل بعد نصف ساعة وفيها كل ما نحتاجه 0 وفي هذه الأثناء سنبدأ حفر الأساس0 فإذا سمحتما ابعدا ألأطفال عن طريقنا0 وبحركة رشيقة خلع قميصه وألقى بها على أحد المقاعد كانت بنيته قوية فكتفاه كبيرتان بعضلات قويه , وصدره عريض مغطى بشعر اسود كثيف 0 برقت القلادة الفضية المدلاة من عنقه وهو يتحرك متجها نحو الخارج 0 غضت جين بصرها وثبتته بسرعة بين يديها 0 ثم شعرت بارتياح عندما قالت آن: - ياله من رجل قوي البنية0 لا غرابة في إن كل نساء الجزيرة يتمنين صداقته 0
________________________________________
قالت جين وهي تحاول الضحك: - حقا لكنه مرتبط, اليس كذلك؟ - تقصدين سارا؟ أعتقد أنها تأتي في المقدمة إنها تسعي إلى ذلك بلا شك لكن صديقنا غافن طائر مراوغ0 الم تلتقي كاي بعد؟ - كلا هل كانت في حفلة ساره الأسبوع الماضي؟ - كلا , فهما لا تتبادلان الحديث لأسباب واضحة بالطبع كاي ستحضر حفلة زفاف شيرلي ويمكنك أن تلتقيها هناك0 نظرت جين إلى حيث بدأ غافن عملية الحفر فقد كان ذلك أمرا مسليا بالفعل0 كان يعمل بحركة قليلة سريعة تكشف عن تمرسه0 تساءلت جين قائلة: - لماذا يفعل هذا بنفسه؟ - أتصور أنه يستمتع بمثل هذه التمرينات 0 فقد كان رياضيا قديما قبل أن يموت والده ويتولى هو كل مسئولياته 0أعتقد إنه يريد أن يحتفظ بمظهره كما أن العمال يتفانون في عملهم متى رأو رئيسهم يشاركهم فيه 0 - قال لي ماك إن غافن يعرف كيف يقاتل 0 ولكن لم يقل لي كيف كان ذلك ؟ - تلك القصة انتشرة في الجزيرة كلها في ذلك الحين 0 بعدما تولى إدارة المصنع أثر وفاة والده مباشرة كانت هناك بعض المشاكل بين العمال ثم تطورت إلى عراك 0 ووصل ماك وغافن عندما كانت المعركة في أوجها 0 القى غافن نظرة خاطفة ثم وقع اختياره على زعيمي المجموعتين المتصارعتين خاض في الكتل وسط اللكمات وفي لحظات افقدهما الوعي فتفرق الجمع تلقائيا0 كانت عينا جين مثبتتين الآن على غافن الذي لم يكن يدري طبعا أن الحديث يتناوله0 أحس جين أنها بدأت تعجب بالفعل بشخصية غافن كل يوم تسمع شيئا جديدا عنه يجعلها تكتشف مزاياه ومدى ما يتمتع به من نفوذ في الجزيرة نهضت جين وقد أحست بالقلق فجأة 0 خطت ببطء وحرصصوب الباب 0توقفت خجلة على وشك ان تعود أدراجها بعد أن أحست بعيني غافن مثبتتين عليها 0 في تلك الللحظة سمعت رنين الجرس يدعو ألأمهات الى تسلم اولادهن 0 كان غافن يغرز الجاروف في الأرض الصلبة ويتقدم نحوها قائلا: - انتهى يوم عملك هل أنت سعيدة؟ نظرت إليه جين بحدة قائله: - لقد استمتعت به 0 - هل ستأتين مرة ثانية ؟ - نعم لماذا لم تقل لي ان هذا المشروع ملكك؟ - هل عرفت ؟ - نعم0 حاولت الوقوف فأمتدت يده فجأة تمسك بذراعها أحست بالأضطراب فابتعدت قليلا وهي ما زالت تنظر اليه 0 - تصورت انك لن تقدمي مساعدتك اذا عرفت ذلك 0 ثم اضاف في رقة : - هل كنت ستقدمين مساعدتك ؟ - لا اعرف 0 تمنت لو لم تكن أجابت بهذه السرعة 0 - الم اقل لك اذا 00 وفجأة توقف عن الكلام ثم قال : - سمعت شيئا 0 اما انه الأتوبيس او ان الأشياء التي طلبتها للسور وصلت , اسمحي لي 0 سار بخطوات واسعة نحو الطريق ثم جاءت آن وقالت : - الى اين ذهب ؟ - ليرى من الذي وصل 0 ظهر ماك وسط حشد من النساء بثياب زاهية الألوان يثرثرن ويلوحن لأطفالهن 0 ثم ذهب الجميع ليسود الصمت 0 تلفتت آن حولها قائلة : - انقضي يوم آخر يا ماك0ادت جين دورها جيدا 0 - كنت اعرف انها ستفعل ذلك0 نظر ماك الى قدم جين وقال : - ماذا كنت تفعلين يا سيدتي الصغيرة ؟ - كنت اطارد ميلاني ثم زلت قدمي 0 - يبدو انها صمدت جيدا 0 سأراها عندما نصل الى المنزل 0 هل انت مستعدة للذهاب يا جين ؟ ابتعدت جين وماك عن المدرسة رويدا 0 لم يكن هناك أثر لغافن 0 وعندما اقتربا من سيارة ماك 0 كان يقف يتحدث مع سائق عربة نقل وعندما رآهما تقدم نحوهما 0نظر الى جين قائلا في هدوء: - شكرا على مجيئك , انا اقدر مساعدتك 0 كانت كلماته هذه المرة لها وحدها 0 وكأن ماك غير موجود 0 لمحت جين شيئا في عينيه 0 شعرت بالدفء والأطمئنان 0تبادلوا كلمات الوداع ثم استقلت جين سيارة ماك 0 امسك غافن بباب السيارة كي تجلس ثم اخذ يتحدث مع ماك في الجانب الآخر من السيارة 0 كانت تسمع صوتهما لكنها لم تفهم شيئا 0سيطرت على مخيلتها النظرة الحانية في عيني غافن 0تشبثت جين بحقيبة يدها وأحست برغبة في البكاء من دون ان تعرف لماذا 0
8 – التحول
مر اليومان التاليان بطيئين , فقدت جين شهيتها للأكل فأرجعت ذلك الى حرارة الجو والألم الذي تحسه في كاحلها . اقترب موعد حفلة الزفاف , وفي امسية يوم الأربعاء كانت تجلس مع ابيها في طرف الحديقة , على مرأى من البحر بعدما صبّ نسيم منعش رطب الجو , كانا ينتظران ميغان وكولن على العشاء , قررت جين أن تكون بالغة الرقة مع كولن , فهي تجده لطيفاً كما انها تعرف انه متعلق بها , هذا الشعور كان كافيا لاسعادها لو ان عاطفتها لم تتبدل . اما الآن و لسبب لا تعرفه تماما فهي تتمنى لو لم يكن متعلقاً بها . لم يكن في وسعها أن تفهم مشاعرها أو تحللها . تسائلت لماذا لم يأتِ غافن لرؤية والدها منذ الأحد الماضي . هي ل تبالي بالامر , لكن كان عليه ان يحضر ليرى ماذا جرى لكاحلها غير انه لم يحضر و قد لّ هذا الخاطر عالقاً بذهنها . بادرت أباها قائلة : " هل سنذهب الى حفلة زفاف شيرلي يا أبي "؟. " نعم ,الآن وانتِ معي , أعتقد اني سأذهب , سنسأل ميغان اذا كان ممكناً ان نذهب معها , أعتقد انها وصلت مع كولن . أقبلت ميغان ومعها كولن وتبادل الجميع تحية ودية . جلس كولن القرفصاء قرب مقعد جين وبادرها قائلاً : " كيف حال كاحلك . هل تحسن الآن "؟. " تحسنت كثيراً , كنا نتحدث الآن عن حفلة زفاف شيرلي ". " هل ستذهبان ؟". تدخلّ والدها قائلاً : " نحن نأمل أن نذهب , كما نأمل ايضاً أن يتطوع أصدقاء طيبون بنقلنا الى هناك ". ردت ميغان بسرور : " سنكون سعيدين بذلك . ماذا سترتدين يا جين ؟". " لم أفكر بعد ". قاطعها أبوها : " هذه ليست مشكلة , يمكنكِ ان تشتري ثوباً ". بادرته جين قائلة : " لكني لا استطيع ". قاطعتها ميغان : " اعرف ذلك , لنعدّ لكِ ثوباً بالشرائط الحريرية المعروفة في سارامنكا ". احتجت جين قائلة : " لا يمكنكِ ذلك , فهذا يستغرق وقتاً طويلاً ". " اليوم الاربعاء . سنشتري غداً كل ما يلزمنا وسيكون الثوب جاهزاً يوم الجمعه ". نظر اليها والد جين بودٍ قائلاً : " إن حياكة ميغان معروفة للجميع , أنا أضمن ذلك ". " هذا كرم منكِ يا ميغان لكن هل انتِ واثفة ؟". " كل الثقة . صباح غد سأصحبكِ لنشتري كل ما يلزمنا من محل غافن ". " من يتحدث عني ؟". التفت الجميع ليجدوا غافن ومعه كلبه . فجأة شعرت جين بانها تريد الفرار الى مكان ما , الى اي مكان بعيد عنه . بدأت ميغان تعيد سرد ما كانوا يتحدثون عنه . وأحسّت جين بانسحاب كولن الصامت من جوارها بينما ارتمى كارلو باسترخاء مكانه دافعاً أنفها الرطب في يد جين . ربتت على رأسه بينما كانت تصغي الى غافن : " جئت اطلب خدمة من جين . ولكني لا استطيع ان اطلب ذلك الآن ..." " ماذا تريد ؟". جاء صوتها عادياً , أو هكذا بدا , في حين كانت ترتعد من الداخل . " إن آن تعمل بمفردها غداً في المدرسة و هي تسأل ما اذا كنتِ قادرة على مساعدتها ". إذاً هذا هو سبب مجيئه , كان يجب ان تعرف , نظرت الى ميغان في حيرة فبادرتها الأخرى قائلة وهي تضحك : " الأمر متروك لكِ يا عزيزتي , يمكنني ان اشتري أنا كل ما نحتاج اليه اذا رغبتِ في ذلك ". تدخل غافن قائلاً : " استطيع ان اصحب جين الى المحل في الثامنة صباحاً لتختار ما تريده . هذا إذا كنتِ ستذهبين الى المدرسة يا جين ". " انا مستعدة للمساعده ". فكرت جين وهي في فراشها بان غافن يصل دائماً الى اغراضه . حدث الامر بشكل طبيبعي لكنها ادركت كيف انه يحقق اهدافه بسهولة . فالجميع يوافقون بحماسة على مخططاته . اخذت تتقلب في فراشها بقلق وقد سيطرت عليها فكرة واحده وهي انه سيصحبها الى محله ثم الى المدرسة . وقد وافقت على ذلك صاغرة , كيف حدث هذا وهي التي قررت ان تجنبه . وقبل ان تستسلم للنوم , كان وجه غافن آخر رؤية تفرض نفسها عليها . وجه غافن بالصورة التي بدا عليها عندما كان منحنياً على وشك التقاط ميلاني بين ذراعيه , فقد بدا مختلفاً تماماً . في الصباح , عندما كانت ترتدي ثيابها وتمشط شعرها أدركت ان مقامها في سارامنكا لم يدم اكثر من اسبوع , لقد بدا ذلك مستحيلاً , فهي تحس انها عاشت هنا منذ زمن بعيد وكأن الجزيرة باتت جزءاً لا يتجزأ منها . قريباً سيكون عليها أن تختار , وهي ليست واثقة بعد , ماذا سيكون اختيارها . فهي تود البقاء مع والدها , لكنها لا تزال مترددة , فهناك احساس غريزي دفين بحب البقاء يؤكد لها ضرورة الرحيل ,قبل ان يفوت الاوان , لكن اوان ماذا ؟ انها لا تدري ولا يمكنها ان تتكهن به ؟ استيقظ والدها مبكرا وقد بدا وجهه مسترخياً مليئاً بحيوية لم تشهدها من قبل . حيّاها ثم بادرها قائلاً : " اعتقد اني ساخرج لأتريض قليلاً اليوم , فأنا اشعر بتحسن ملموس ". " هل أذهب للترض معك ؟". " كلا , فهم يحتاجون اليكِ في المدرسة _ أنا سعيد لأنكِ ستذهبين ". لم تعرف جين ماذا تقول , كلماته الصادقة الهادئة تجعلها عاجزة عن الرد . حبها يتعاظم يوماً بعد يوم لوالدها , إنها تشعر بالندم على السنين التي قضتها بعيدة عنه . ربما كان القدر هو الذي أخّر اجتماع الشمل , ربما كان الآن هو الوقت المناسب لذلك , قالت : "أرى انكَ تبدو احسن حالاً الآن , إني سعيدة بذلك ". " هذا بفضل تأثيرك يا جين , فأنا الآن أعيش من أجله , لدىّ من اقول انه ملكي . وانتِ كما تمنيت ان تكوني تماماً ". " شكراً " لم تزذ على ذلك بعد ان خنقتها مشاعرها ثم قالت : " علىّ أن أستعد , فغافن آتٍ بعد قليل ". ذهبت الى غرفتها محاولة بلا جدوى لجم دموعها , لا تريد ان يراها غافن على تلك الصورة . وبالفعل عندما سمعت صراخاً على الباب كانت قد تمكنت من تمالك نفسها . كانا يسيران الآن صوب بورت باتريك . نظر اليها نظرة فضولية وقال : " هل تشعرين بتحسن في قدمك ؟". " نعم , شكراً ". تبدد الآن ذلك الشعور الغريب الذي أحسته نحوه يوم الاثنين الماضي , وعاودها التوتر , ويبدو انه احس بذلك ايضاً , فبدأ الحديث عن المدرسة بنبرة موضوعيه وكأنه يتحدث مع شخصِ غريب , كان يبدو جذاباً وقد ارتدى قميصاً من الحرير عقده بشرائط حريرية مطرزة بدلاً من الازرار , تذكرت جين كلمات آن , أنّ نصف فتيات الجزيرة يسعين ورائه , أحسّت بالسعادة لاها لم تكن واحدة منهن . خطر لها خاطر مفاجئ , ترى لماذا طلب منها والدها الذهاب الى المدرسة , ربما هو يأمل ان ....... تصلّبت جين في مقعدها بعد أن داهمتها فكرة مخيفة , فهي لا تنخدع بالرجال , خاصة المجربون امثال غافن . كانت الخالة دورثي تشعر بمتعة دائمة في تحذيرها من ان جميعهم سواسية , يسعون وراء ما يريدون ان يحصلوا عليه . وغافن لا يختلف عن باقي الرجال , بل قد يكون أسوأ منهم . فقد اعتاد طوال حياته أن يأخذ ما يريد . وهو يعلم انه جذاب . وهو يكرهني و رغم ذلك ينظر اليّ أحياناً بطريقة ما , كما أنّ لمسة يده على ذراعي , ,,,,,,, اندفعت الى ذاكرتها الآن كل الأشياء الصغيرة التي لم تكن تعني لها شيئاً . " هل هناك ما يزعجكِ "؟. التفتت نحوه قائلةً : " لا ......لا .". لم تقوَ عيناها على مواجهة عينيه خوفاً من أن يقرأ أفكارها . كم كانت حمقاء . تململت في مقعدها وتمنت لو لم تحضر معه . كان عليها ان ترفض . " صرتِ هادئةً جداً " " كنت أفكر ". هدأت الآن خفقات قلبها السريعه , يجب ان تتمالك نفسها وإلا فماذا يبقى لها ؟ بعد لحظات وصلا الى المحل . كان كل شئ هادئاً وكأن المحل مهجور . تمكنت اخيراً من أن تتسائل بنبرة عادية وهما في المصعد : " في أي ساعة يفتح المحل أبوابه ". " يفتح أبوابه اليوم الساعه التاسعه والنصف , في وسعكِ أن تلقي نظرة حولكِ ". احسّت بالراحة عندما توقف المصعد وقادها عبر قسم ثياب السيدات الذي كان يسوده هدوء شامل وقد تمت تغطية الأزياء الخشبية المنتصبة كالأشباح سجينة تنتظر الحرية . اخترق غافن الصمت قائلاً : " سأحضر أولاً الشرائط المطرزة الحريرية ". أخذت جين تتجول وسط الرفوف المليئة بالبضائع ثم قالت : " من الصعب اختيار المطلوب وسط هذه المجموعه الكبيرة ". " دعيني اساعدك . فانا اعرف ما تريدين تماما ". قدّم لها بعض الشرائط المطرزة الحريرية قائلاً : " والآن ماذا تريدين تحتها ؟ الون الوردي ام الازرق ام الاصفر ؟". " ارني هذا اللون الاصفر . هل يمكنني ان اراه جنباً الى جنب م عالشرائط , كانت الشرائط رقيقى , شفافة , تكاد تكون عاجية اللون وقد اكتمل منظرها عندما وضع تحتها الاصفر اللامع . تنفست جين الصداء وقالت : " نعم , اعتقد ان هذا هو ما اريد ". " جربيه عليكِ امام المرآة ". كانت جين تراقبه وهو يلتقط ثنايا القماش الحريري والاشرطة . جذب القماش الحريري قائلاً : " امسكي هذا وضعيه على جسمكِ ". كانت جين تشعر باحساس غريب وقد شعرت بانها تكاد تترنح . امتثلت لكلماته دون ان تنبس ببنت شفة . احست وكان طوقاً محكماً يشدد عليها الخناق . انحنى والتقط الشرائط الرقيقة : " احترسي يجب الاّ ......." " انا اعرف ماذا افعل". جا ء صوته هادئاً . كانت خفقات قلب جين عاليه . كانت تشعر بقلبها وهو يخفق مرتطماً بضلوعها عندما استقام غافن ورفع الشرائط المطرزة بعناية فائقة ووضعها عليها . كانت يداه الآن تمسان عنقها وخصوصاً وهو يحاول ان يريح الشرائط الحريرية حول جسدها . كان هناك قدر من الحذر في لمسته , وبرغم ذلك احست وكانها في حاجه الى الفرار , أخذت تتحرك في قلق فبادرها قائلا : " إهدئي , لماذا كل هذ التوتر ؟". رأت صورتها المنعكسة في المرآة . كان غافن واقفاً زرائها وقد وضع يديه على كتفيها بينما تدلى القماش الحريري والشرائط فوق جسدها في رشاقة وجمال . اكتشفت انها لم تنظر الى صورتها في المرآة , بل الى صورته هو . كان قريبً منها الى حد انها احست بحرارته وتنشقت العطر الخفيف الخاص بالرجال المنبعث من كريم ما بعد الحلاقة , فتقلص حلقها حتى جاء صوتها اجش وهي تقول : " هذا رائع الجمال . اعتقد انني ......" " نعم , انه رائع الجمال ". كان هناك شئ في صوته جعلها ترتعش وتمنت ان يبتعد عنها . استدارت نصف استدارة فتراجع للخلف وانزلقت الشرائط قليلاً .. أمسك بها قائلاً : " سأحجزها لكِ واسلمها لميغان ". " شكراً ". لم تقو جين على النظر اليه , كانت تشعر وكأن راسها سينفجر من التوتر الذي عاد يسيطر على المكان . " هل انتِ مستعدة للذهاب ؟". " نعم ". كان هناك قدر من الغرابة في سلوكه أثار قلقها , كان يبدو وكأنه غاضب . ماذا فعلت ؟. في طريقها الى المدرسة احست جين بألم في رأسها و لم يكن هناك ما تستطيع عمله , يبدو ان غافن سارح في عالمه الخاص . كان يقود السيارة بسرعه . و لم ينظر اليها ولو نظرة عابرة . قبضت بأصابعها على حقيبتها في تعاسة , كان يجب ألا توافق ان تحضر معه . رفعت يدها الى جبهتها المشتعلة محاولة وقف ذلك الألم النابض . نظر اليها وقال بلا مبالاة : " ماذا هناك ؟". " عندي صداع قاتل . لكن لا تدع الامر يشغلك ". " هناك اقراص مسكنة في المدرسة ذكريني ان اطلبها لكِ ". " انزلني اما م المدرسة وانا اطلبها ". " كنت اود ان ادخل معكِ , اكن لديّ كثيراً من العمل اليوم , سأمر بالطبع لآخذكِ في الساعة الرابعة ". " ماك يمكنه ان يمر عليّ ". " كلا , فلديه حالة ولادة في وسط المدينة ". زمتّ جين شفتيها . انه يبدو وكأنه نادم على احضارها : "آسفة لانني لا اعرف ان اقود السيارة , انك تضطر لتغيير برامجك بسببي ". " انا سعيد بمساعدتك لنا , واؤكد لك ان نقلكِ بالسيارة لا يمثل اية مشكلة بالنسبة إليّ ". " أحقاً ؟". أشاحت بوجهها بعيداً ونظرت الىالمروج الخضراء , كانت تحسّ بوخزة ألم في صدرها . دفعت باب السيارة قبل أن يتوقف تماماً أمام المدرسة ثم هبطت وقالت دون ان تنظر ورائها : " الى اللقاء ". سمعت صوت المحرك و قد انبعثت فيه الحياة من جديد كما سمعت صوت نفير السيارة . لكنها لم تقو على النظر الى الوراء , تلاشى الصوت متباعداً فتوقفت جين لتلتقط انفاسها . لم تكن تعرف لماذا ينتابها هذا الشعور الآن , لكن لسبب ما كانت تحس برغبة في البكاء , اخذت نفساً عميقاً وعاودت السير من جديد لتسمع اصوات الاطفال . هنا العودة الى الطبيعه ... هنا يمكنها ان تجد نفسها على سجيتها . فهي متأكدة من شئ واحد .. ... انها لا تستطيع البقاء مع غافن . مرّ الوقت سريعاً وجلست آن وجين أثناء فترة الراحة تتحدثان عن حفلة الزفاف . قالت آن أنّ شيرلي ستتزوج مواطناً استرالياً وستعيش في بيرث . وقالت : " أنا واثقة من أنكما ستنسجمان معاً يا جين , للأسف انها سترحل يوم السبت , ليتكِ حضرتِ قبل الآن . روت جين أسباب مجيئها متأخرة بينما جلست آن تصغي في صمت و قد علا وجهها تعبير غاضب ثم صاحت : " ياللهول ! إنه لأمر رائع أن تكتشفي وجود والدك بهذه الطريقة , إن اباكِ أصبح شخصاً مختلفاً منذ مجيئك ". مرة أخرى وجدت جين نفسها تفكر في ابيها . ادركت مع كل يوم يمر انها تنتمي اليه ,, اما بالنسبة الى الخالة دورثي فهي ستبحث عن وسيلة لتعوضها ما بذلت حتى لو كان ذلك يعني البحث عن عمل , فهذا الامر يجب ان تتحمله وحدها دون مساعدة من ابيها . حينئذ فقط تتخلص من ذلك الشعور بالذنب الذي ينتابها من حين الى آخر لتركها خالتها وحيدة . سألت آن عن امكان العثور على فرصة للعمل في الجزيرة و شرحت لها الاسباب و اصرارها على عدم اللجوء الى مساعدة والدها , فبادرتها آن قائلة وهي تربت على ذراعها : " أنا أحترم حبك للاعتماد على النفس ,و لكن ألم يكن في نيتك الالتحاق بكلية المعلمات ". " نعم , لكن تخرجي سيستغرق ثلاث سنوات , انا ارغب في العمل في أحد المكاتب او في اي مكان ". " في وسعك ان تعملي هنا في المدرسة . فلماذا لا تسألين غافن اذا كان ذلك ممكناً ؟". " لا اعلم , سأفكر في الأمر ". قرب يوم الزفاف , نهضت جين مبكرة و ذهبت الى منزل ميغان لوضع اللمسات الاخيرة لثوبها . منزل ميغان يشبه كثيراً منزل جون . كان فسيحاً وأبيض وأثاثه هادئ وقد تناثرت السجاجيد على ارضيته والأزهار في كل غرفة . كل ما في المنزل يدل على ان ساكنته امرأة , قادتها ميغان الى غرفة الحياكة , فشهقت جين لرؤية الثوب ثم صاحت قائلة : " انه رااائع يا ميغان !". " تعالي جربيه , وبعدئذ سأريكِ ما لديّ من قبعات ". " كيف يمكنني ان اردّ لكِ هذا الجميل ؟". إعتبريني فقط أمكِ الروحية !". تضاحكت الاثنتان ثم بدأتا التجربة الأخيرة للثوب . لم تكن جين قد رأت كنيسة الجزيرة , لكنها تخيلتها ذات طابع انجليزي بحت . لذلك كانت مفاجأة لها عندما رأت ذلك المبنى الابيض البسيط وسقفه القرميدي الاخضر يلمع تحت اشعة الشمس و ينبعث منه رنين الاجراس القوي . غمر جين احساس بالخجل لحظة وصولها هي ووالدها و ميغان وكولن .. فشتان بين أن تنظر الى نفسك في المرآة وتشعر بأنك في مظهر لائق و بين مواجهة عشرات الاشخاص الغرباء , جميعهم يتسمون بالاناقة و الثقة بالنفس . أحسّت فجأة وكأن ادراكها متيقظ لكل شئ وكأن حواسها قد شحذت بلا استيعاب كل ما يدور حولها , اخذت تتحدث و تبتسم بخجل لأصدقاء أسرة موراي . ثم انسحبت ميغان الى ركن هادئ و سألتها جين بفضول : " من تكون الفتاة هناك ؟". أشارت جين الى فتاة ذات شعر داكن رائعة الجمال . " هذه هي كاي والاس , انها على علاقة متينة مع غافن . إذاً هذه هي الفتاة الت تحدثت عنها آن !! أحسّت جين بألم حاد ولكنها لم تدرك سببه . تفرق الحشد اذ بدأ الجميع يدخلون الكنيسة , خفتت حدة الثرثرة لينبعث صوت الأرغن الرخيم . لم تكن جين قد رأت غافن بعد , بدأت تنظر حولها , كانت الجدران ذات لون اصفر شاحب والسقف ذا عوارض خشبية داكنة , في المقدمة جلس رجلان , احدهما كان شخصاً غريباً , أما الثاني فكان ظهره مألوفاً بشكل محير . حدّثت جين نفسها قائلةً : بالقطع كان يجب ان اعرف – غافن هو شاهد العريس . استدار قليلاً ليتحدث الى زميله وقد تباين بحدّة الشكل الجانبي لقسمات وجهه مع الحائط الاصفر الشاحب . كان وسيماً للغاية , فأحست جين وكأن قلبها يترنح , فأشاحت ببصرها بعيداً خشية ان يراها أحد تحملّق فيه , خاصةً كولن الذي كان يجلس يجوارها . في اللحظة التالية بدأ الارغن لحن مجئ العروس المعروف , تحولت الانظار صوب العروس . إنّ هناك شيئاً مثيراً للعواطف في طقوس الزواج تلك .. حدّثت جين نفسها لكنها وجدت عينيها مثبتتين لا على العروس والعريس , بل على غافن , لم ينظر وراءه ولا مرة واحدة , لم يرها , لكن جين ادركت تماما انه يعي انها تنظراليه . وبعد مضي دقائق , جائت تلك اللحظة المصيرية . حدث ذلك مع انتهاء طقوس الزواج , فقد استدار غافن للحظات , والتقت عيناه عيني جين . كانت عيناه داكنتين , لاحت فيهما ظلال المسافة الفاصلة بينهما , لكن نظرات الاثنين في تلك اللحظة كانت وكأنهما كانا وحدهما في الكنيسة , أشاحت جين بوجهها بعيداً مرتعشة , بل انها احست بالدوار وغير قادرة على تحمل المزيد . عرفت الآن انها تحب غافن غرانت . توجه المدعوون الى الحفلة التي اقامتها أسرة موراي في منزلها , أخذت جين تثرثر مع كولن وميغان ووالدها , آملةً الا تفضحها حركاتها , تقدّم غافن نحوهم محدّثاً ومعه كاي فشعرت جين بالألم بينما كانت كاي تتأبط ذراع غافن , مجرد لمسة خفيفة كلمسة الفراشة , وهي تبتسم لجين معربة لها عن اعجابها بثوبها , استجمعت جين شجاعتها من مكان دفين فبادلتها الابتسام وتحدّثت بطريقة طبيعية , بينما كان كولن يحيطها بذراعه في خفه , لم تقوَ جين على مبادلة غافن النظر , وبدلاً من ذلك أخذت تراقب باعجاب جمال وجه كاي الهادئ بتعبيره الصافي وعينيها ذا ت الاهداب الكثيفة وهما ترمقانها بطريقة صادقة ودودة . لم يكن فيها ما ينم عن الخداع مثل سارة , كانت هناك ثقة كاملة بالذات جعلت جين تحس وكأنها صبية في طور الدراسة الثانوية . غير أن جين لم تكن تدرك كم كانت بدورها تبدو نضرة فاتنة في ثوبها وكم اضفى عليها الحياء مسحة من البراءة . كانت تجيب في هدوء على اسئلة كاي حول انطباعاتها عن الجزيرة , وعندما تدّخل غافن في الحديث وذكر لها خدماتها للمدرسة , تبادلا النظرات . ليتها تستطيعا ان تتصرف تصرفاً طبيعياً , بادرها قائلاً : " أريد أن أتحدث معكِ في شأن المدرسة , قد لا يكون هنا المكان المناسب , تحدّثت طويلاً مع آن موراي ". فقدت دقات قلب جين انتظامها , ترى ماذا قالت له آن ؟ يا لي من حمقاء ! كان يجب ان انبهها الاّ تقول شيئاً . ابتسمت أخيراً قائلةً : " في وقتٍ أخر , اسمحوا لي الآن , يجب أن اذهب لأرى ما اذا كان ابي يريد شيئاً ". توارت جين ومعها كولن الذي أمسك بذراها هامساً بحدّة : " قولي لي , ماذا بينكِ و بين غافن "؟. " ماذا تقصد ؟" "انا لا اعرف ! انه مجرد شعور , عندما تجتمعان كأن هناك شرارات خفية تتطاير في كل اتجاه , لا اعني اليوم فقط , فقد لاحظت ذلك من قبل ". " خيالك خصب " ردت عليه جين بسرعه وهي تلوح من بعد الى ابيها الذي كان يجلس مع ميغان وماك تحت جرة ظليلة في الحديقة . يجب ان تكون اكثر حرصاً ولا تدع مشاعرها تنكشف وإلا كانت النتيجة مروعة , لا يمكن تكهنها . وفي محاولة يائسة تمكنت من ان تقول : " في الواقع ان هناك نوعاً من عدم الاستلطاف بيننا , هذا هو كل ما في الأمر . ان هذا يحدث احياناً . مجرد تعارض في الشخصيات ". " ليس الامر بهذه الاهمية " تأبط ذراعها وانضما الى المدعويين . بدأ الرقص فوق المروج الخضراء . عقدت جين مقارنة بين هذه الامسية و حفلة سارة , فالجو كان مختلفاً تماماً . كانت سارة هذه الليلة في الحفلة و قد نجح غافن في تقسيم وقته ببراعة بين سارة و كاي . انه يملك كل شئ , المظهر الحسن و الثراء و فتاتين جذابتين , انه بارع حقاً – وهي بكل غبائها وقعت في شراكه . أحست بالم حاد كالسكين لرؤيته يرقص مع كاي , وحاولت في ياس ان تسترخي بين ذراعي كولن , يا ليتها كانت تحس ولو بذرة عاطفة تجاه كولن , يا ليتها كانت , ولكن ما من فائدة . رقصت جين مع ماك الذي قال : "وافق ابوكِ على السفر الى سيلان لعرض نفسه على طبيب اختصاصي . كل هذا كان بتأثيرك . فقد اقنعتهِ بأن يفعل ذلك من أجلك ". " ماك , أنا سعيدة للغاية , متى سيذهب ؟". " يوم الثلاثاء وسأذهب معه ". " هل أذهب معكما ايضاً ؟". خفّت الموسيقى وقد وقفا في رقعة ظليلة بعيداً عن الفوانيس التي علّقت عبر الحديقة . حكّ ذقنه مفكراً ثم قال : " لا أعرف يا جين , فغافن هو الذي سيأخذنا بطائرته ". وقبل أن ينهي جملته , رأت الرجل الذي ليس في وسعها ان تتحاشاه قادماً وحده نحوهما فبادره ماك : " هل يمكن ان تأتي جين معنا إلى سيلان ؟". نظر اليها غافن في صمت وأحسّت إنها ترتعش كمن ارتكب خطأ . ثم قال : " سبقكم شخص آخر وطلب مني الطلب نفسه ". تردد قليلاً ثم قال : " ماك , هل يمكنني أن أتحدث مع جين على انفراد ؟". " بالتأكيد , إلى اللقاء " . تأبط غافن ذراع جين وقادها الى رقعة داكنه من ظلال الأشجار وقال في رقة : " أريد فقط أن أتحدث معكِ , دعينا نجلس هنا ". أشار الى مقعد تحت شجرة اتجهت اليه جين و هي سعيدة بفرصة الجلوس قبل ان تخونها قدماها . " ابلغتني آن بأنكِ تريدين عملاً ". رفع يده طالباً منها الهدوء أمام شهقتها , ثن قال : " أنا آسف , دعيني استخدم عبارة اخرى , هل تقبلين بالعمل في المدرسة بشكل منتظم في مقابل راتب مناسب ؟ أنتِ تنوين البقاء هنا أليس كذلك "؟. ثبتت جين نظرها على يديها و قد شبكتهما في توتر , كيف يمكنها ان تفعل ذلك الآن ؟ كانت لديها مخاوف من العمل في مدرسة غافن , والآن زادت تلك المخاوف بعدما أدركت انها تحبه : " لا أعرف ". " لا تعرفين ماذا ؟ لا تعرفين ما اذا كنتِ ستبقين في سارامنكا أم لا تعرفين ما اذا كنتش تودين العمل في المدرسة "؟. أسرعت ضربات قلب جين , فقد غمرها احساس بالطمأنينة وهي قريبة منه . ما هذا التبدل المفاجئ في نظرتها اليه ؟. قالت : " كانت مجرد فكرة , فأنا لا اريد أن ......". كانت على وشك ان تقول لا اريد ان اعمل لديك ,, ولكن الكلمات توقفت . اطلق ضحكة صغيرة وقال : " لا تودين ان تعملي في مشروع يخصني , أليس كذلك "؟. ابتلعت ريقها في صعوبة قائلةً : " هذه هي الحقيقة ما دمت قلتها بنفسك ". كانت تعرف انه غضب .. نظر اليها بعينين قاتمتين قائلاً : " شكراً لصراحتكِ . هل لي أن أسأل لماذا ؟". " لا أعرف ". لم تقوَ على الاشاحة بعينيها بعيداً . فقد كانت عيناه مركزتين عليهما ,, " نعم , تعرفين , ماذا هناك ؟ أنتِ خائفة من أن تقدمي على أي عمل يؤذيني . اليس كذلك ؟". شئ ما في صوته فجّر كل توترها العصبي . لماذا اخضع لهذا الارهاب ؟ لماذا أصبح كالآخرين ؟ ليس لديّ ما اخسره . انه يعتبرني طفلة .... فما من شئ على الاطلاق يقدر ان يجعله ينظر اليّ كما ينظر الى سارة . " أنا لا أود ان أعمل معك لانك تتصور إن في امكانك ان تصدر الاوامر للجميع, لكنّي لن أسمح لك بذلك ". " إما انكِ تمزحين وإما أنكِ جننتِ , أنا أصدر الاوامر للجميع .. متى حصل ذلك ؟". أضفت نبرته الساخرة برودة على كلماته . همّت جين بالوقوف . لكنه بحركة عنيفة أجلسها في مكانها قائلاً : " اجلسي , انا فعلاً أحب ان اراكِ احياناً ! اللعنة على هذا التفكير .. لماذا تدخلين دائماً في صراعٍ معي ؟". " أنا ؟؟ كيف كان ذلك ؟". " بالطريقة الانثوية الماكرة ,. و اضافة الى ذلك ....." " انا لن ابقى هنا لأسمع اهاناتك ". نهضت و ضربت الارض بقدمها بشدة وقالت : " كيف تجرؤ على ان تتحدث معي بهذا الشكل , عد الى صديقاتك ,, وانا ...." " وانتِ تعودين الى صديقكِ كولن ". وبعدما نهض اضاف : " انتِ لا تقبلين الاهانه , بينما تسمحين بتوزيعها على الآخرين , لماذا لا تقدمين على صفعي ؟". " لا تستفزني ". تطلعت بعينين قلقتين نحو المنزل فبادرها قائلاً : " لم يلاحظ أحد شيئاً , لكن استمري , فأنتِ تحققين تقدماً ". " أنا أكرهك ! هل تسمعني ؟ أكرهك ! ". " تكرهينني ؟ اذن دعينا نرى ما اذا كنتِ تكرهين هذا أيضاً " جذبها بقوة نحوة وقد أحاطتها ذراعاه بقبضةٍ قوية ساحقة جعلتها لا تقوى على الحركة . حاولت ان تقاوم لكن فشلت , أبعدها عنه وقال في حدة : " لن أعتذر وحتى لو اعتذرت فان موقفي لن يكون حقيقياً ". صاحت وهي ترتعش من هول الصدمة : " أهكذا تحارب النساء ؟". " نعم . اذا اردتِ هذا التفسير ". " انت حقير كريه !". " انا اعرف ذلك , و لذلك فلن تستغربي اذا كان سلوكي سيئاً ". مع هذه الكلمات استدار عائداً الى المنزل بينما وقفت جين وحدها . ثم سمعت حركة مجاورة فاستدارت لترى كولن أمامها . كان في حالة هياج . احست بانها على وشك البكاء , ومدّت يدها لتلمس ذراعه فأقصاها عنه و استدار بدوره عائداً الى المنزل . أغلقت جين عينيها , اما لهذا الكابوس من نهاية ؟
9- العاصفــة!
استعادت جين وهي في فراشها احداث ليلة امس وتراءى لها ما شاهدته عند عودتها الى منزل اسرة موراي. كان غافن يراقص سارة وقد تقاربا بينما كان كولن يمسك بكاي بين ذراعيه. قثزت جين جالسة في فراشها: لا فائدة من الاسترسال في التأمل. عليها الان ان تنهض وتمضي اليوم مع ابيها في هدوء.بادرها قائلا وهما جالسان في الفناء: "هل استمتعت امس؟ " " انا سعيدة بك يا ابي. علمت انك ستعرض نفسك على صديق ماك هذا الاسبوع. " " نعم، اجبرني ماك على ذلك. "" انا سعيدة بذلك يا ابي. انت تبدو افضل مما كنت يوم وصولي الى سارامنكا. "مدت يدها وامسكت بيده قائلة: " هل يمكنني ان اعيش معك هنا؟ "لم تكن تقصد ان تقول ذلك. لكن شيئاً ما دفع تلك الكلمات الى فمها ." جين، ابنتي العزيزة اتريدين البقاء حقاً. لم اعد في حاجة الى طبيب ما دمت ستكونين الى جانبي. "صاحت جين وهي تضحك وتبكي في آن واحد:" بل يجب ان تذهب يا ابي. " " لا تقلقي كنت امزح فقط والآن سأذهب لأرى الن. "انفدرت جين بنفسها وراحت تفكر: الزمت نفسي بالبقاء وعلي ان اتعلم كيف اواجه الامور. علي ان اتعلم كيف اضع على جلدي طبقة ثانية تحميني من سخرية غافن. انا اعرف اني اخترت القرار الصواب فأبي وليس غافن هو من يهمني.حضر غافن وماك صباح الثلاثاء ليصحبا والدها الى المطار. كانت سارة ايضا في السياره. حاولت جين الا تنظر الى غافن الذي حياها عن بعد وكأنه يأبى الكلام.وهكذا رحلوا وتركوها وقفة هي والن على السلم. داخلها فور اختفائهم شعور بالفراغ. لم يمر على وجودها في في سرامنكا سوى اسبوعين وهي تشعر الآن بأنها ستفقد الرجل الحنون، والدها.بقي في خاطرها وجه غافن عندما كان ينظر اليها كان ينظر اليها منذ لحظات ليعتصر قلبها. كانت نظرته رافضة حادة. حاولت الا تذكر تلك البسمه الخفيفة المنتصرة التي علت شفتي سارة وهي تلوح من السيارة. صحبتها ميغان في الثامنة صباحا الى المدرسة ونجحت جين بعد جهد في تنحية غافن وسارة عن خاطرها كما تجنبت ميغان بمهارة الحديث عن غافن او كولن. في ذلك المساء اتصل بها ابوها تلفونياً، كان صوته مليئاً بالحيوية وابلغها ان الطبيب الاختصاصي طلب منه البقاء ليلة اخرى واكد لها انه سيتصل بها مرة اخرى مساء الغد للاطمئنان عليها.امضت جين اليوم التالي مع ميغان في شراء بعض الحاجيات من بورت باتريك ثم تناولتا القهوة المثلجة في منزل ميغان. غادرت جين منزل ميغان في الخامسة تقريبا واصرت على ان تعود سيرا على القدمين. للمرة الاولى احست بوحدة شديدة. فور عودتها الى المنزل صاحت منادية:" الن، لقد عدت. "لا جواب. الصمت مخيم على المنزل. احست جين بالحيرة دخلت الى المطبخ وهي ترجح ان تجد مديرة المنزل هناك. بدلا من ذلك وجدت مذكرة من الن تخبرها فيها بأن اختها مريضة وقد ذهبت لترعى اولادها وانها ستعود الليلة.لم يكن امامها الا ان تحاول الاستفادة من وحدتها وتلهي نفسها بأي عمل منتظرة اتصال والدها وعودة الن. صعدت الى الطابق الاعلى لتستحم. لبست الشورت و ارخت شعرها وجلست في فناء المنزل تتصفح بعض كتب والدها. كان الجو هادئاً لا يزعج سكونه سوى رفرفة جناح طائر يلمع تحت اشعة الشمس. اخترق صوت آخر ذلك السكون، صوت طائرة، وعندما توقف ساد الهدوء من جديد. انغمست جين في القراءة لتفيق فجأة على صوت الامطار تهطل. اخذت ترقب قطرات المطر الكبيرة تتناثر امامها بينما تبدل الجو وزداد برودة وقفت الآن وسط الحديقة وقد رفعت وجهها لتحس قطرات الماء الكبيرة على وجنتيها. المطر يختلف هنا تماما عن المطر في انجلترا. كانت القطرات كبيرة، ناعمة، ومهدئة بشكل غريب. بعد لحطات ادركت انها ستبتل فاحتمت مرة اخرى بالمظلة ترقب المطر. سمعت رنين التليفون فدخلت مسرعة. كان الخظ يطقطق من على بعد وجاء صوت ابيها ضعيفاً:" جين هل تسمعيني؟ ذهبت الى الطبيب وهو يعتقد ان مرضي عصبي في الاصل. واختفى صوته تماماً فقالت جين:" اكاد لا اسمعك. لكني سعيدة بهذه الانباء. "تعالت الطقطقه في الخط التليفوني فاضطرت جين ان تبعد السماعة ثم صاحت:" لا استطيع ان اسمعك. "" ساحاول ان اتصل بك ثانية، الى اللقاء يا جين "" الى اللقاء يا ابي. "ماذا اراد ان يقول. لا يهم. الامر الاساسي هو ان الطبيب يرى ان مرض ابيها ليس خطيراً. وشعرت بالراحة. اشعلت النور الذي اضاف بعداً جديداً الى الامطار المتساقطة فقد عكستها وبدت كجدار فضي لامع يتوهج ويتحرك.تغيرت طبيعة المطر بعد نصف ساعة. فقد هدأت قليلا. رفعت جين رأسها وقد ظنت ان المطر اوشك على التوقف لتسمع فجأة صوتا مدوياً. اضاء البرق السماء كلها وفي الوقت نفسه جاء صوت الرعد يفوق كل ما سبقه من اصوات، كان صوتاً عنيفاً يتردد صداه في كل مكان. احست بضربات قلبها تسرع، تخاف من العواصف منذ ان رأت في طفولتها شجرة تنقسم الى نصفين بقوة البرق. هرعت الى الداخل وانزلت الستائر، لكنها وجدت نفسها ترتعش في انتظار عودة البرق. احست جين بالوحدة والخوف كما لم تحس بهما من قبل وبعد لحظات سمعت نباح كلب وكأنه نواح، انه كارلو! وسط مخاوفها تولد لديها نوع من الشجاعة. تخيلت وجه كارلو وهو ينظر اليها وقدرت ان تفعل شيئاً من اجله. ركضت جين نحو الباب الخلفي وقد تضاءل خوفها خوفها بعد ان اشتد قلقها على كارلو.زلت قدم جين وانزلقت مراراً عبر الممر الموصل بين الباب الخلفي والاشجار الكثيفة التي تفصل بين منزل ابيها ومنزل غافن. بدت تلك المنطقة كمكان مهجور وقفت تحتمي بالاشجار ثم ما لبثت ان رأت شبحاً اسود يتحرك نحوها فصرخت في نوبة ذعر وتلاحقت ومضات البرق لترى جين من خلالها رجلاً يتقدم نحوها رافعاً يديه. سمعت من يناديها: جين اختلط عليها كل شيء: العالم والمطر والظلمة فسقطت مغشياً عليها بين ذراعيه.فتحت جين عينيها لتجد غافن قربها فاجتاحها شعور بالذعر لا غلاقة له بالعاصفة. قفزت جالسة، تلفتت حولها وهي تتحسس ثيابها المبلله وقد التصقت بجسدها:" نحن في منزلي يا جين. "رأت كارلو جالساً في جوارها وقد علا وجهه تعبير قلق وكأنه فهم كل شيء كما رأت غافن بوضوح الآن. كان شعره لامعاً وقد بلله المطر والتصقت ثيابه المبتلة بجسده. قفزت من مكانها وقد رأت البرق يتوهج قرب النافذة لتسمع صوت انفجار صغير اعقبه انقطاع التيار الكهربائي. سمعت زمجرة الرعد وكأنه آت من السقف فقفزت." كل شيء على ما يرام سأحضر مشعلاً. "حاولت التخلص من قبضته قائلة:" لن ابقى هنا معك. " " لا تكوني حمقاء، ستمكثين هنا على الاقل حتى تنتهي هذه العاصفة. "كانت الغرفة حالكت الظلام، استدارت وهي لا ترى شيئاً فتعثرت باحدى قطع الاثاث، مد ذراعه وامسك بها بقوة وهي تحاول دفعه بعيداً:" لا تحاولي الفرار ولا تقاومي. اطردي الخوف ولو للحظة واصغي الي. "وبحركة مفاجئة جذبها الى الاريكة." لماذا جئت الى هنا. " " لأرى ما اذا كان كارلو في مأمن. لم اعرف انك هنا. "" هل جئت وحدك في مثل هذا الجو، من اجل كلب. "" سمعته ينبح، وخيل الي انه خائف. لم اتوقع ان اراك. "" كنت في طريقي لأتفقدك انت والن. "" الن ذهبت تزور اختها وكنت وحدي. "بدأت ترتعش وكأن احساسها بالصدمة جاء متأخراً." يالك من طفلة مسكينة "لم يكن هناك اثر للسخرية في صوته، لم تجد سوى الشفقة وهي لا تحتاج اليها، تململت وقد ادركت فجأة ان ذراعيه تضغطان عليها بشدة:" ليس هناك داع لتشعر بالشفقة علي. "ارتجت الغرفة بصوت الرعد، فسقط شيء من قطع الزينة قربها فارتعدت.في لحظة الصمت التي اعقبت العاصفةسمعت تردد انفاسه واحست بيده تقترب من وجهها فهمست قائلة:" ارجوك ان تبتعد عني." " جين،آه لو تعلمين..."جاء صوته عذباً مرتعشاً. توقف ليطوقها بذراعيه ووجدت نفسها تتجاوب مع ذلك الدفء. تعلقت به لكنه ابعدها قائلاً:" ما من فائدة يا جين. لم يعد ممكنا استمرار الصراع بيننا. قولي انك لا تكرهينني. "تحسس ذقنهاثم ربت على وجنتيها قائلاً" " احبك ،ايتها الصغيرة. " كاد قلبها ينفطر فصاحت وهي لا تصدق:" قل هذا مرة ثانية. " " احبك، لم اقل هذه الكلمة لأية امرأة مثلك، لم لا تضحكين، الا تجدين هذا مضحكاً للغاية؟ "" لكني لا اصدق. هل هذه دعابة؟ "صدرت منهاشهقة باكية." جين حبيبتي لا تبكي ارجوك. لا احتمل رؤيتك وانت تبكين."نسيت العاصفة، لم تعد تزعجها الآن. مدت يدها وتحسست وجهه قائلة: " قلها مرة ثانية. " " احبك. " " وانا احبك ايضاً، لكني كنت اعتقد انك تكرهني. " " كنت اريد ان اكرهك. اتذكرين عندما دخلت بيت ابيك وكنت تعزفين على القيثارة. رأيتك فأحسست للمرة الاولى في حياتي بالخوف. فأنت صغيرة جداً وانا اكبرك بثلاثة عشرة سنة." وضع اصبعه على شفتيها ليحبس شهقة الم واضاف:" اسمعيني حتى النهاية يا حبيبتي. تلك الليلة في حفلة سارة كنت اخطط للوصول اليك لكني تراجعت لأنني ايقنت بانني احبك في صدق. ومع ذلك كنت اقاوم فكرة الاعتراف بذلك. ولهذا بدوت لك قاسياً متعجرفاً. "قالت وهي ترمقه بحنان:" ادركت اني احبك في الكنيسة يوم الزفاف. كنت اقاوم هذا الحب بدوري انا لأنني. اعتقدت بانك تحب سارةكما يردد الجميع. "" اعرف ما يقوله الناس. لكن لحقيقة هي انني لم احب اية امرأة في حياتي، الى ان جئت انت. واعرف انني انسان اناني الى ان تعلمت منك ان المال والعمل ليسا كل شيء في الحياة. لقد غيرت حياتي كما غيرت حياة والدك. "توقف برهة ثم اضاف:" هل تبقين في سرامنكا وتتزوجيني؟ " " نعم ... نعم يا غافن. " خمدت العاصفة واختنق وميض البرق ودوي الرعد وبدأت مرحلة جديدة في حياة جين وغافن.
تمت بحمدالله

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا