مصارع الثيران

الفصل الأول
بوابة الثلج
من بلدة مانيسالاس المتربعة علىقمة التل ، كانت الطريق الى مركز السومبريرو للتزلج ، تمر عبر مزارع بن تغطيمنحدرات الجبال المنخفضة . وفي ظلال أشجار الموز العالية كانت أوراق شجيرات البن ،المعتنى بها بمحبة ، تلتمع تحت أشعة الصباح ، فيما قاطفو الحبوب ذوو القمصان الحمروقبعات القش يلتقطون الحبوب الناضجة ويضعونها في السلال الكبيرة التي يحملونهابواسطة احزمة تلف خصورهم . سرحت سوريل برستون بصرها خلف الشجيرات المتنوعة الخضرة ،وصعب عليها التصديق بأنها سترى ثلجاً بعد ساعة من الزمن . لقد مضت ستة أسابيع علىوجودها في كولومبيا ومع ذلك ما تزال مندهشة من تفاوت المناخات والارتفاعات في هذاالبلد الاميركي الجنوبي . ففي نهاية الأسبوع الماضي كانت على سطح البحر تستمتع بحمام شمس استوائية على شاطئ متوهج قرب البحر الكاريبي التوركوازي المعمم بالأبيضفي الساحل الشمالي ، وفي نهاية الأسبوع هذه ، هي في طريقها للتزلج على جبال الأنديزالعالية . جاءت اليوم صباحاً من مدينة ميدلين في سيارة الكاديلاك الفارهة التييقودها مخدومها رامون انهل ، وعلى الطريق الدولية الامريكية العريضة انقضوا جنوباًوكأنهم يقفزون من بلدة جبلية الى اخرى . لكن هذه الطريق الى مركز التزلج مختلفةتماماً ، فهي ضيقة وتتلوى كما الأفعى ، وكلما ازداد الارتفاع كلما تلوت ودارت علىنفسها اكثر ، وتبدو احياناً معلقة في الفضاء فوق ممرات مظلمة ضيقة تشق جانب الجبل ،وذات جدران مشجرة تنحدر بقوة لتصل في النهاية الى القاع وحيث تبدو الأنهار كخيوطفضية رفيعة . قالت سوريل للورا التي تشاركها الجلوس على المقعد الخلفي : -لنأحبذ فكرة السواقة على هذه الطريق في الظلام . فأجابتها الفتاة : -اعتادت أميان تقود السيارة بنفسها صعوداً ونزولا كل أسبوع ، إلا انها كانت سائقة ماهرة آنذاك . ولورا ، اكبر الأختين ، في الخامسة عشرة من عمرها ، طويلة رشيقة القوام ،بيضاء البشرة زرقاء العينين ، وقد ورثت كل هذا عن امها الانكليزية ، اضافة الىتكلمها وفهمها الممتازين للغتين ، الاسبانية و الانكليزية معاً . اما اختهاغابرييلا الجالسة الى جوار ابيها في السيارة ، فكانت في الثانية عشرة ، ذات حجمصغير مكتنز وعينين براقتي السواد وبشرة زيتونية ناعمة ، تتكلم الانكليزية بلهجةتسحر السامعين اذ تلفظ الحروف الساكنة بفوضوية وتستعمل التعابير الامريكية بكثرة . قالت تعترض على تعليق اختها : -اذا كانت ماما سائقة ماهرة حقاً ، فأنا لا أفهمكيف تحطمت بها السيارة . أعقب سؤالها صمت ثقيل ، فحادث تحطم السيارة الذي حوّلمونيكا انهل من امرأة رياضية نشيطة الى اخرى مقعدة تجد صعوبة في تعلم المشي من جديد، لم يكن يذكر مطلقاً في الأحاديث . هذا ما لاحظته سوريل وكأن العائلة لا تريد انتواجه ذلك الواقع . وأجاب رامون مؤنباً غابرييلا بحدة : -لقد ارتكبت أمك غلطة . كم مرة يجب ان أفهمك ذلك . كان الوالد صارماً ، ومن حين جاءت سوريل لتقيم فيبيته ، بدأت تعي بالتدريج ان مونيكا وابنتيها يخشين اثارة غضبه . كذلك بدأت تشعر انالعلاقة بين الزوجين مهتزة جداً ، ليس فقط لأن مونيكا أصيبت بشلل ، بل كانت سوريلمتأكدة من ان شيئاً قد حصل قبل الحادثة وأدى الى لغم الزواج. تلوت الطريق صعوداًبين جذوع صنوبريات رفيعة قاتمة وسألها رامون : -هل يضايقك الارتفاع يا سوريل ؟أتشعرين بشيء من الغثيان أو الدوار لكوننا بلغنا هذا الحد من الارتفاع بوقت قصيرجداً ؟ -احس صداعاً بسيطاً ، ليس الا . ثم سدت أذنيها بيديها وأضافت ضاحكة : -اوه ، لقد فرقعت أذناي ! هل من المفروض ان احس غثياناً ؟ -قد يحدث لكنكستشعرين حتماً بصعوبة التنفس عندما تغادرين السيارة . لن نقوم برياضة عنيفة هذاالصباح . سنكتفي ببعض التمارين على المنحدرات التدريبية ونؤجل التزلج الجدي الى مابعد الظهر حيث تكونين قد اعتدت قليلا على المناخ . قاد السيارة حول المنعطفالأخير بين ضفتين من الثلج تكوّم بفعل جرّافة ، ثم اطلّوا على الفندق القائم علىهضبة فسيحة والمشيد من خمس طبقات في شكل نصف دائري . كان الفندق مؤثثاً بترفوبألوان زاهية صافية . جدرانه مكسوة بالخشب وكل ارضيته مغطاة بسجاد سميك . حملهمالمصعد الى الطابق الثالث حيث تشاركت الاختان غرفة ذات سريرين فيما انفرد كال منرامون وسوريل في غرفة خاصة به . وكما اقترح رامون ، قضوا بقية الصباحعلى المنحدرات السهلة وصعدوا القمة بواسطة التلفريك . وسرعان ما اكتشفت سوريل انرامون ولا ابنتيه يفوقونها خبرة في التزلج ، وشعرت نحوهم بالامتنان لكونهم صبرواعليها وبقوا معها حتى استطاعت تليين عضلات ساقيها الى حد ما واعتادت تنفس الهواءالجاف الخفيف . تناولوا الغداء في مقهى الفندق ، وراحت لورا و غابرييلا تراقبانباهتمام شديد دخول وخروج المتزلجين الآخرين وتثرثران معاً بالاسبانية وتقهقهان حتىتضايق رامون من تصرفهما وطلب اليهما ان تتحدثا بصوت مرتفع كي يتمكن هو وسوريل منسماعهما . ولدى توجههم الى بهو الفندق لأخذ أدوات التزلج ، اعترفت لورا بسوريلبقولها : -كنا نتعرف على بعض الصبيان الذين رأيناهم من قبل . ان بابا لا يسمحلنا مطلقاً بالتعاطي مع الشبان ، ولو استطاع ان يرسل معنا امرأة ترافقنا الى كلمكان لما توانى عن ذلك ، لكن عهد المرافقات ولّى ، وصار موضة عتيقة . وأضافتغابرييلا بلكنتها الجذابة وابتسامتها الساحرة : -ولهذا أنت معنا بدلا من الحارسةيا سوريل ، وهذا الوضع افضل بكثير ... اوه ، انظري لورا الى الرجل الواقف هناك . ثم همست شيئاً في اذن اختها التي اجابتها بسرعة : -لا تدعي بابا يسمعكتذكرين اسمه . فهتفت غابرييلا الرافضة لأي كبح : -لماذا ؟ اوه ، أتذكرين يالورا حين جئنا للتزلج مع ماما واضطررنا الى قضاء الليل في الملجأ ؟ -اصمتي ! لكزتها لورا بكوعها محذرة ، وهنا انتبهت سوريل الى نظرة الشك المفاجئة التيألقاها رامون على ابنته فسألته لتحاول إشغاله بشيء آخر: -ماهو الملجأ؟ أجابها : - انه كوخ يمكنك الاحتماء به اذا واجهتك عاصفة ثلجية . هناك عدد من الملاجئموزع على المنحدرات لصالح المتزلجين الذين يحبون التزلج في اماكن غير مطروقه. تعاليهنا. هذه خريطة للمنطقه تبين اماكن هذه الاكواخ. اشار الى رسم بياني معلق علىجدار البهو وتابع: -انها خشنة المظهر لكنها مزودة بأسرة نقالة وحرمات ومدفأةوقود واطعمة معلبة. وخارج الفندق، انتعلوا الزحاليق مجددا وانزلقوا الى حيثالمصعد الكهربائي كي يحملهم الى منحدرات اعلى... وفكرت سوريل وهي تطل من المصعدوتراقب المتزلجين وهم يحفرون طريقهم نزولا على الجبل، ومن محطة المصعد الاخيرة،ارتــقوا منحدرا اخر، وكانت زحاليقهم تحدث رسومات كقطب التطريز على الثلج الطليقالهش. ولما وصلوا القمة، ارتكزت سوريل على عمودي التزلج وهي تشهق طلبا للتنفس، ثمحدقت برهبة الى مشهد الجبال . كانت قممها المشققه، المشحوذة بالريح والمظللة بغيوممتهادية، تتوهج كمنحوتات فضية في الأفق الرمادي الباهت.بدت نائية مهيبة، تمثل تحديامستمرا للجنس البشري. قالت لورا بحزن: -هذا المنحدر التزلجي كان المفضل لدىامي. فعلقت سوريل: -استطيع رؤية السبب. فالمشهد رائع الى حدالخيال. وهنا قال رامون بجدية: -الغيوم تبدو لي مليئة بالثلج. من الأفضل اننبدأ الهبوط فورا. غابرييلا ، اهبطي أولا وقودي الطريق. سوريل، اتبعيها وظليقريبة منها قدر المستطاع. لورا ستحلق بك وانا ساكون الأخير، اذا في حال وقعت احداكنسأتمكن من رؤيتها وبالتالي سأتوقف وأعود الى مساعدتها. فقالت غابرييلا الساذجةوالجريئة في الوقت نفسه: -لكن اذا وقعت انت يا بابا فلن نعرف ذلك. -لن اقعبالطبع. رد رامون بتلك الثقه الهادئة التي اكتشفت سوريل بانها جزء من طبيعه كلالرجال الكولومبيين الذين تعرفت اليهم لغاية الان. اضاف رامون: -حاذرنالصخور البارزة على الطريق. هل انتن مستعدات للانطلاق؟هيا انطلقن. وهتفت غابرييلابمرح: -اتبعيني على مقربة ياسوريل، فلا نريدك ان تضيعي. راقبت سوريل جسمغابرييلا الصغير المدثر ببزة برتقالية وغرزت عمودي التزلج في الثلج وانطلقتنزولا. همس الثلج تحت زحافتيها،تعرجت يمنة ويسرة على المنحدر، وسرها ان غابرييلا ترتدي لوناً زاهياً يمكنها ان تراه بسهولة عبر المسافة التي اتسعت بينهما لأن الفتاة زادت سرعة هبوطها . لم تر السن الصخرية الصخرية الحادة تبرز كما الرمح أمامها لتستدير وتتحاشاها . بسطت ساقيها في انفراج شديد كي يلتقي طرفا زحافتيها مع بعضهما وذلك في محاولة أخيرة يائسة لإيقاف اندفاعها المتهور فسقطت على الثلج الذي تناثر حولها وانزلقت على جنبها عند قاعدة الصخرة تقريباً . السقوط أفضل من التحطم ، فكرت في نفسها وهي تحدّق الى الصوان القاسي . لو انها اصطدمت به لأصيبت بضرر فادح . وفجأة رأت جسماً أحمر ينطلق أمامها ويغطيها برذاذ من الثلج . لم تدر ان لورا كانت تهبط خلفها بكل هذا الالتصاق ، ومن الواضح ان الفتاة لم ترها وهي تسقط لأنها لم تحاول التوقف بل تابعت هبوطها المتعرج على المنحدر . وقفت سوريل باحتراس وأزاحت نظارتيها الى جبينها . لقد توارت الشمس وراء غيمة رمادية كثيفة ولم يعد هناك أي وهج على الثلج . سارعت الى فحص أحزمة زحافتيها لتتأكد من ربطها المحكم وما كادت تستقيم في وقفتها حتى انطلق امامها جسم آخر ببزة تزلج بلون القرفة . -انتظرني يا سنيور ! صرخت بأعلى صوتها وهي تضغط بقوة على عمودي التزلج وتنطلق خلفه. رأت رامون يسبقها وينزلق بسرعة على مرتفع ثلجي كانت الفتاتان قد قطعتاه منذ فترة فلم ترى لهما أثراً . وبقي لها أمل وحيد ، هو ان تستطيع رؤية رامون عندما تصل المرتفع لكن ذلك استغرقها وقتاً اطول مما توقعت ، وحين بلغته اخيراً لم تر امامها سوى منحدر حاد آخر ، وفي نهايته وشاح من ندف ثلج دوار . لم يشاهدها أحد تسقط وبالتالي لم يتوقف احد لينتظر وصولها ... في أي اتجاه ذهبوا ؟ من المفروض ان تقتفي آثارهم ، لكن الثلج كان يندف بغزارة شديدة ماحياً كل آثار التزلج. ليس امامها الا متابعة الهبوط ، ومتى اخترقت وشاح الثلج فقد تستطيع رؤية أبراج وأسلاك المصعد الكهربائي ، وعندها ستعرف الاتجاه الصحيح ، المؤدي الى الفندق . أخذت تتعرج على المنحدر الذي بدا بلا نهاية وحاداً جداً ، بل أشد انحداراً من أي مكان تزلجت عليه من قبل . هل هو المكان نفسه الذي ارتقوه باكراً ذلك العصر ام انها سلكت اتجاهاً معاكساً ؟ لو ان الشمس تظهر قليلا لتأكدت من ذلك لكن ليس هناك أي بصيص في السماء الملبده التي ازدادت تمازجا مع الوشاح الثلجي مما اشعر سوريل بأنها مغمورة بغطاء رمادي كثيف. ومن خلال هذا الغطاء برزت صخرة اخرى ناتئة فسقطت من جديد وهي تحاول تحاشيها. غطاها الثلج وتقطعت انفاسها، وما ان نهضت بصعوبة حتى كادت تطرح ارضا عندما انقض فجأة متزلج اخر مخترقا وشاح الثلج. لمحت شريطين ابيضين يموجان على ذراع جاكيت التزلج السوداء حين مر بها المتزلج وتابع انزلاقه السريع مبتعدا عنها وهو يشق منعطفاته بيسؤ ودقه كأنه في سباق تزلج. ارتفعت معنوياتها لوجود شخص معها، فلحقت به تحاول الانعطاف بالسرعة ذاتها،ولكن ما ان ارتفعت مرتفعا ثلجيا اخر حتى وجدته قد اختفى وهو الاخر ولم تر امامها سوى مساحات قاحلة مكسوة بالثلج، تمتد نزولا الى صف من الاشجار المتوقفه عن النمو. ارهقتها محاولاتها المتكررة فوقفت مستندة على عموديها تسترد انفاسها وقد اجتاحها ذعر لكونها فشلت في ايجاد برج المصعد الكهربائي. وفجأة لمحت بصيص نور من خلال الاشجار المنتشرة في قاع المنحدر فبدأت فورا تتزلج صوبه. كان المنحدر مايزال حادا واضطرت الى قطعه عدة مرات وهي تشعر طوال الوقت بأن الريح تشتد تدريجيا وتحول تساقط الثلج اللطيف الى عاصفة هوجاء. لكن بصيص الضوء استمر يشع كمنارة من خلال الضباب. وأخيرا استطاعت رؤية مصدره. ارتفعت معنوياتها فورا، فلابد انه احد الملاجئ التي أراها رامون اياها على الخريطة. ستجد في داخله متزلجين آخرين يحتمون به وستجد دفئا وطعاما، وقد تلتقي حتى برامون وابنتيه. وبشعور ارتياح جارف اخذت تزيد سرعتها على درب يتعرج عبر غابة صغيرة من الصنوبريات وهكذا لم تر رقعه الجليد الا حين اصبحت فوقها وراحت تنزلق هنا وهناك حتى فقدت توازنها وسقطت على ظهرها فيما اخذت ساقاها وقدماها اللمتصقه بالزحافتين تتطوح معهما في الهواء، كذلك ارتطم رأسها بشيء صلب جدا. انتابها ذهول فاستلقت بضع لحظات على الارض وأحست ندف الثلج يستقر بنعومة على وجهها... يجب ان تنهض بسرعة قبل ان يطمرها هذا الندف الرطب اللاصق. رفعت رأسها لكنه دار بها وآلمها،وبالفعل رأت نجوما تتراقص امام بصرها قبل ان تفقد وعيها. عادت الى رشدها وأحست من خلال الغمام انهافي وضع مقلوب وان رأسها النابض يتأرجح يمنه ويسرة. كان هناك قضيب حديدي يضغط علىساقيها، وتحت معدتها شعرت بشيء قاس ومشدود يتحرك قليلا. وبعد شيء من الحيرة ادركت انها محمولةعلى كتف شخص ما بالطريقه التي يحمل بها رجل الاطفاء انسانا مصابا. تأرجح رأسها بعنفوسمعت خبط قدمين على درج خشبي ثم صوت باب يفتح . كان هناك شعور بالدفء ورائحة كازوصوت باب يغلق. استمر رأسها يتأرجح ثم أحست بجسمها ينزل بلطف عن الكتف ويمدد علىشيء يصر تحت ثقلها. شخص ما كان يرفع قدمها اليمنى فانهضت رأسها ورأت يدين تفكانرباط جزمتها . ثم رأت شريطين ابيضين على كم جاكيت سوداء لماعه. رفعت بصرها قليلافرأت جانب وجه فوق ظهر مدار، ياقه مفتوحه السحاب، ذقنا بارزة، ثنايا حول زاوية فم،منخرا متسعا لأنف مستقيم دقيق، عظمة خد بارزة تحت حدقة سوداء وجبهة عريضة يعلوهاشعر فاحم السواد ويميل الى الطول. سألته بالانكليزية وقد نسيت اللحظة في اي بلدهي: -ماذا حدث؟ ادار الرجل رأسه بقوة فرأت عينين فاتحتين تومضانباستغراب. تذكرت اين هي وكررت السؤال بالاسبانية، فأجابها بالانكليزية وبلهجةاميركية متشدقه: -لقد سقطت وارتطم قفا راسك بجذع شجرة مما افقدك وعيك . اذاتلمست رأسك ستجدين نتوءا بحجم البيضة. من حسن حظك انني كنت خلفك. -خلفي؟ حسبتانني كنت الحق بك! الست انت الذي كان يتزلج على المنحدرات؟ اخرج الجزمة ووضعهاعلى الارض ، واجابها وهو يفك رباط الفردة الثانية: -اجل ،انا. لماذا كنتتلاحقينني؟ -لأني املت ان تقودني الى طريق الفندق. لقد فقدت الاتصال مع من اتزلجثم اختلطت على الاتجاهات بسبب العاصفة الثلجية. الا يوجد احدهنا؟ -كلا، لا يوجدهنا سوانا. ازاح الجزمة الثانية ووضعها على الارض ثم وقف فبدا يعلوها كمارداسود. رفعت سوريل راسها قليلا واخذت تجبس قفاه باصابعها وهتفت: -آخ! انه فعلابحجم بيضة، اليس كذلك؟ اتساءل ان كنت لاتمانع في القاء نظرة للتأكد من سلامةالجلد؟ -كما تشائين.سآتي بالقنديل. آلمها رأسها فاستلقت مجددا، لكن حين سمعتهيعود، ادارته على الوسادة الخشنة لتراقب اقترابه مع المصباح وهي تأمل ان تتمكن منرؤية وجهه بوضوح اكثر. لكن وهج القناديل الخفيف ابرز فجوات وجهه وزواياه واضفى علىالجلد وجنتيه المشدود لمعه ذهبية جامدة وضع القنديل على كرسي منخفض قربه منالسرير المنتقل الذي تستلقي عليه ثم ركع على الارض وسألها: -هل يمكنكالجلوس؟ ضغطت بيديها على جانبي السرير الضيق ودفعت نفسها الى اعلى وللمرةالثانية تراقصت المشاهد امامها وكادت تتهاوى الى الوراء لو لم يسارع الى اسنادكتفيها بذراعه. وغمغمت: -ارجو ان لا يكون لدي ارتجاج دماغي. -هذا ما ارجوه اناايضا. هل لك ان تقدمي راسك قليلا، من فضلك؟امتثلت لطلبه واحسته يفرق شعرها. كانتلمسته خفيفه لكن ثابتة قال: -من الصعب ان ارى جيدا بسبب شعرك الكثيف، لكن لايبدوهناك اي اثر للدم. فأحست بقشعريرة حين لفحت انفاسه اسفل عنقها وسألها: -هليؤلمك رأسك؟ -نعم ،يؤلمني كثيراً. -اذن استلقي واستريحي . لقد تذكرت الآن انالراحة والامتناع عن الحركات العنيفة هما أفضل علاج لضربة الرأس. انصاعت لنصيحتهولاحقته ببصرها وهو يحمل القنديل ويضعه على طاولة مستديرة . -هل هذاملجأ؟ فاستدار لينظر اليها عبر الغرفة واستند الى حافة الطاولة . كان المصباحخلف ظهره فاستحال عليها ان ترى وجهه جيداً . اجابها : -انه ملجأ. -أهو بعيدعن الفندق ؟ -حوالي عشرة كيلومترات. -اوه ، لم يخطر لي أبداً انني ابتعدت الىهذا الحد . كنت آمل ان اجد المصعد الكهربائي . -انه الى الشمال من هنا . قطّبت وهي تحاول ان تتذكر خريطةالمنطقة التي بين لها رامون مواقع الملاجئ عليها ، لكن ألم رأسها كان يجهد ذهنهافعجزت عن تصور الخريطة بشكل واضح . -تبدين قلقة يا سنيورتا . صوت الرجلالعميق قطع عليها سيل أفكارها فالتفتت صوبه بسرعة . كان ما يزال يستند الى الطاولةويراقبها . اجابته : -لست قلقة على نفسي ، بل على الآخرين . سينتابهم الذعرلاعتقادهم بأنني ضعت وسط الثلوج . لا اظن ان هناك طريقة ما تمكنني الليلة منالاتصال بالفندق لأعلمهم بمكان وجودي ؟ فردّبصوت فاتر : -لا يوجد هاتف ولاكهرباء كما ترين . عليك ان تتذرعي بالصبر وتنتظري طلوع الصباح وحيث من المفروض انتنتهي العاصفة الثلجية .نامي الليلة جيداً لتشعري غداً بالتحسن . سأدلك على الطريقفي ضوء النهار . ان قلقك على أصدقائك لن يجديك نفعاً ، لذا من الأفضل ان تسترخيوتشكري الله على انك سالمة . فأجابته بسرعة خشية ان يتبادر الى ذهنه بأنها وقحة : -اني احمد الله جداً . كذلك اشكرك كثيراً على انقاذك لي . ثم أضافت وهيتبتسم له عبر الغرفة : -لقد تأخرت بشكرك . أليس كذلك ؟ اخشى ان ضربة رأسي قد شتتذهني ، فأنا لا افهم لغاية الآن كيف جئت خلفي في حين كنت انا وراءك. -رأيتكتسقطين على المنحدر وكدت القيك على الأرض مرة أخرى . يجب ان تكوني اكثر احتراساًوتنظري حولك لتتأكدي من خلو دربك من متزلج آخر قبل ان تتابعي الهبوط ، فلو أنناارتطمنا ببعضنا لأصيب كلانا بألم وأضرار على الأرجح ، ولو انك لم تعاودي التزلجفوراً ، لكنت توقفت ورجعت لأساعدك . لكن سقطتك بدت لي سليمة فجئت هنا لأحتمي منالعاصفة . دخلت وأشعلت النار والمصباح ثم نظرت الى الخارج ورأيتك تهبطين في اتجاهالاشجار . توقف قليلا وحكّ جانب وجهه بيده ثم تابع : -كان فيك شيء مألوف لدي . حسبتك امرأة أخرى أعرفها ولذا خرجت لملاقاتك . مررنا ببعضنا بين الأشجار حيثرأيتك لكنك لم تريني . وهنا أدركت انك لست المرأة التي ظننت انك هي ، واستدرت لألحقبك ، ثم شاهدتك تسقطين مجدداً. رفع كتفيه وأنهى كلامه بقوله : -لو لم يحثنيالفضول على الخروج لبقيت حيث سقطت. ارتجفت سوريل قليلا ومحت من ذهنها صورة تخيلتفيها نفسها تستلقي غائبة عن الوعي والثلج المتساقط يغمرها بالتدريج . ثم قالت بشيءمن المرح : -أرجو ألا تكون أصبت بخيبة حين وجدت انني غير المرأة التيتعرفها. لم يجبها فوراً بل استمر يحدق اليها بطريقة حذرة غريبة كما يفعل صياديراقب حيواناً يطارده وينتظر الرد على اية حركة تصدر منه ، مما جعل سوريل تحسبقشعريرة ارتهاب . وقال اخيراً بلطف : -كلا ، لم أصب بخيبة ، بل العكس هو الصحيح . وفكرت سوريل مقطبة ، العكس قد يعني انه مسرور لأنها لم تكن المرأة التي يعرفها. لكن التفكير ومحاولة تفسير ما لمح اليه سرعان ما أرهقا رأسها المصدوع فأطلقتتنهيدة صغيرة واستلقت على الوسادة من جديد. وهنا نزع الرجل عنه جاكيت التزلج وقذفبها على كرسي خشبي قريب ثم سألها فجأة : -ألست جائعة ؟ -ليس كثيراً . -أيمكنك ان تتناولي بعض الحساء ؟ -ألديك حساء ؟ -هناك نوع معلب فيالخزانة ووعاء لتسخينه على الموقد . ليس عليك فعل شيء فأنا قادر تماماً على تحضيره . التقت نظرتاهما ثانية في ضوء الموقد وراحا يقيسان بعضهما بعضاً. لم تستطعسوريل ان تعلم شيئاً من وجهه المظلل انما بدا لها انه يراقبها بجسمه كله وليس فقطبعينيه ، وان كل عضلاته كانت مفصلة ومستعدة للانقضاض في حال صدرت عنها مطلق حركة ... قالت بوهن : -ارحب بشيء من الحساء ، مع الشكر . ثم احست فجأة بحاجة أخرىملحة فسألته : -هل يوجد حمام ؟ -نعم . حمام صغير تصلينه عبر الباب في مؤخرةالغرفة . همت بالجلوس فتحرك كما توقعت ان يفعل وقال : -انتظري ، سأساعدك . قدتشعرين بالدوار عندما تقفين ولا أريدك ان تقعي ثانية . لقد سقطت هذا العصر بما فيهالكفاية . -لابد انك تحسبني متزلجة فاشلة ، وأنا فاشلة فعلا بالمقارنة معك فأنتمتزلج ممتاز . أجابها باستغراب جذل : -شكراً لك ،سنيوريتا . أنا أحاول اقصى جهدي . والآن ، هاتي يدك . ترددت وحدقت الى اليدالممدودة نحوها . كانت واسعة الكف ، مربعة الشكل وتبدو صلبة وعضلية كسائر جسمه . لكنها كانت تخاف أي احتكاك حسي ومصممة على الوقوف بلا مساعدة . تمسكت بالسرير جيداًونهضت واقفة الا ان الدوار عصف برأسها وهوت بين ذراعيه مباشرة . فقال هازئاً : -اذن انت واحدة من النساء المتحررات اللواتي يسخرن من يد الرجل الممدودةللمساعدة . وهذه المرة حركت انفاسه شعر صدغيها وبعواقب مهلكة ، اذ اجتاحتاعصابها مشاعر غريبة ، وأحرقت كيانها رغبة فجائية في الالتصاق به. وقالت مؤكدة : -انني الآن على ما يرام . استدارت بدون ان تنظر اليه وأرغمت نفسها على السيربثبات في اتجاه الباب المذكور . وعندما رجعت الى الغرفة شعرت ان الاغتسال خففصداعها الى حد ما. وجدت الرجل واقفاً امام الموقد يحرك محتويات وعاء أسود يرتفع منهبخار شهي الرائحة . سارت حول الطاولة المستديرة الموضوع عليها القنديل وجلست علىاحد الكراسي تقول بتهذيب : -رائحة الحساء شهية . -انه حساء لحم يحتوي على قمحمجروش ، مغذ جداً ومناسب تماماً في طقس كهذا . سار الى الطاولة حاملا الوعاءوراح يغرف الحساء ويسكبه . سقط شعاع من ضوء المصباح على خده الأيمن فكشف عن ندبةبيضاء بشعة ، تمتد من أسفل أذنه حتى زاوية فمه كما لو ان أحداً تناول سكيناً في مرةما وجرف اللحم من وجهه . وهتفت شاهقة دون تفكير : -اوه ، وجهك ! ماذا تراك فعلتبه ؟ خيم الصمت متوتر ثقيل حين أخذ يحدق اليها ، ثم تلاقت أهدابه السوداءالطويلة مغطية بريق عينيه القاسي وارتفع جانب فمه الأيسر عندما ابتسم . انزلالمغرفة من يده ورفع اصابعه يتحسس الندبة ، وعلق ساخراً : -لا يفترض منك انتذكريها بل يفترض ان تشيحي عنها وتتظاهري بأنها غير موجودة . ألم يخبرك احد بأنك لايجب ان تعلّقي على اي تشوه جسدي ؟ أثرت سخريته في سوريل اكثر مما يجب فتمتمتبحرج : -انا ... آسفة لم انتبه لها بتاتاً . لم أقدر ان أراك بوضوح قبل الآنو... فقاطعها بصوت جاف : -لا تقولي اكثر من ذلك ، اني اتفهم مقصدك ، بل أظنانني أفضل تعليقك الجريء على النظرات المختلسة والصمت المتعمد . والآن ، هل لك انتتناولي الحساء ؟ -اذا كنا سنأكل معاً ونقضي الليلة هنا فيجب ان نتعرف الى بعضنابعضاً. أنا سوريل برستون . -سو...ريل . هل هذا اسم انكليزي ؟ -انه اسم يطلقعلى لون أحصنة معين . ضحكت قليلا لنظراته المندهشة وأردفت تشرح : -انه لونبني يميل الى الاحمرار . والدي سماني هكذا ، وهو مدرب خيول في انكلترا . -هل انتهنا في اجازة ؟ -كلا ، اني اعمل في منزل رجل اعمال في ميدلين ، كرفيقة لزوجتهولابنتيه . فسألها معلقاً : -ورفيقة له ايضاً ! حدقته بنظرة باردة أملت انتؤثر فيه وردّت بحدة : -تعليقك هذا تخطى حدود الأدب . -ليس من غير المألوف انيكون للرجل المتزوج رفيقة في هذه البلاد ، وحتى في ميدلين حيث يميل الناس الىالاستقامة الخلقية التي تتناسب مع مراكزهم الصناعية الوقورة . أجابته بجمود وهيتحاول السيطرة على أعصابها : -لكني لست رفيقة رامون انهل ولا أريد ان اكون كذلك . -رامون انهل ، رئيس شركة انهل للنسيج ؟ -اجل ، هل تعرفه ؟ -سمعت به فقط . لماذا يحتاج رفيقة لزوجته وابنتيه ؟ -زوجته اصيبت بضرر بالغ في تحطم سيارة قبلبضعة أشهر ولا تستطيع المشي . انا مدلكة بدنية متدربة وأساعدها يومياً على تمرينعضلاتها . -اما كان باستطاعة مدلكة كولومبية ان تقوم بهذا العمل ؟ -اجل ، لكن مونيكا انهل لم تقدر ، اولم ترد التعاون مع مدلكات المستشفى . انها انكليزية مثلي ومن بلدتي نفسها . لقدجاءت امها لزيارتها بعد الحادث فقلقت على وضعها ووافقت على محاولة ايجاد مدلكةانكليزية تأتي هنا لتساعدها . قرأت الاعلان الذي أدرجته امها في الصحيفة المحليةفتقدمت لهذا العمل . كنت ارغب دائماً في زيارة امريكا الجنوبية ، وبما اني اتكلمبعض الاسبانية فقد زكت السيدة بولتون مؤهلاتي وأوصت بي لدى السنيور انهل . -اسبانيتك جيدة . اين تعلمتها ؟ -من امي التي هي نصف اسبانية . كان والدهامهندس مناجم بريطانياً في اسبانيا وتزوج آنذاك امرأة من الأندلس . -فهمت . الشعرالأحمر والعينان السوداوان تقريباً ، هما خيط غير عادي . تطلعت اليه فرأته يلصقظهره بالكرسي ويحدق اليها . وتابع : -هل تصبغين شعرك ام تلبسين شعراً مستعاراً؟ -هذا الخليط ليس اكثر ندرة من خليط الشعر الاسود الفاحم والعينين الرماديتين . هل شعرك طبيعي ام انك تلبس قطعة اصطناعية منه لتخفي صلعاً متزايداً يا سنيور ... سنيور ؟ توقفت عمداً ورفعت حاجبيها متسائلة وهي تأمل ان يزودها باسمه . لكنهعلق بجفاف : -انك تستلين أجوبتك من تحت ابطك . ثم رفع يده الى شعره ليشدالخصل القصيرة التي انسلت الى جبينه وتابع: -أترين ، انها لا تسقط . امتحنيهابنفسك ان شئت . فحدقت الى شعره المرن الكثيف ووجدت نفسها تقلص يديها على حضنهاكي تقاوم اغراءا ملحاً بمد يدها وتمرير اصابعها في تلك الخصلات الكثة . وغمغمت : -كلا ، شكراً ... لم تخبرني اسمك . فاستوي جالساً وأجاب بلا اكتراث : -يمكنك ان تسميني دومينغو . -لكن ذلك يعني يوم الأحد بالاسبانية . -وماذا في ذلك ؟ لقد ولدت في يوم أحد وأمي ... وهنا ظهرت ابتسامته الجانبيةالهازئة وأردف : -لابد انك تعلمين عناد الأمهات في مايختص باطلاق الأسماء علىابائهن ، انهن يشبهن الآباء في طريقة تسميتهم لبناتهم . -لكن سوريل هو اسميالحقيقي . -ودومينغو هو اسمي الحقيقي ايضاً. -اتعيش في الجوار؟ -تقريباً. -اوه ، اتعقد انك لا تريد اخباري أي شيء عن نفسك . -لقد اعطيتكاسماً. -اعطيتني اسماً لفقته من عندك . -كلا ، ثقي اني ما فعلت ذلك ياسنيوريتا ، فدومينغو اسم مألوف في هذا البلد . -أجل ، هو عادي الى حد انه لايعني شيئاً بدون اسم العائلة . دومينغو ماذا ؟ -اختاري مايحلو لك من الاسماء. اناطلاعك على اسمي الكامل ومكان سكني ونوع عملي لن يزيدك ثقه بي كما تعلمين، فبوسعيان انسج لك حفنه من الاكاذيب حول نفسي وتأخذينها على محمل الصدق. اضطرت الىالاقرار بأنه مصيب في قوله، فأية معلومات يزودها بها لن تجعله موضع ثقه ان لم يكناهلا لها قطب حاجبيها وتفحصته بفضول. ندبة خده ، عيناه القاسيتان الفاتحتان اللون،فمه المتماسك الحسن التكوين وانحناؤه الساخر، بروز فكه المشاكس والمعبر عن صلابةخشنه.بدا وكأنه يعايش الاخطار ويمارسها. هبطت نظراتها الى عنقه والى سترتهالعاجية المحاكة من اجود الصوف، وخمنت بأنها قد صممت وصنعت على يد دار ازياء رجاليةمعينة متخصصة في تصميم الملابس الرياضية لأهل التوثب والثراء. كانت قد لاحظت انبزته التزلجية وجزمتيه وزحافتيه من اجود الاصناف واغلاها ثمنا. من الواضح انه ثريجدا، ومع انه يتكلم الانكليزية بلهجة أميركية إلا ان لغته الاسبانية قتالية محضةكالتي يتكلم الكولومبيون ذوو الأصل الاسباني. وقال متشدقا بهزأ: -اياك انتحكمي على رجل من خلال شكله او ثيابه، بل احكمي عليه من خلال تصرفاته. -مالذيساقك الى الظن بأنني احكم عليك؟ -الطريقة التي تنظرين بها الي. فأجبت مدافعه عن نفسها: -انني انظر اليك بالطريقه نفسها التي مازلتتنظر بها الي طوال الوقت -لا استطيع موافقتك، فأنت تحكمين علي وتحاولين تحديدنوعيتي بين الرجال.اما انا، فقد استمتعت وما ازال استمتع بالنظر اليك دونما شبع، اذقليلا ما احظى برفقة امرأة مثلك

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا