لا تقولي لا

الفصل الاول
السحابه والبركان
كان الفندق كبيراً، حديثاً وانيقاً، ويقع على الطريق التي تصل المطار بقلب المدينة، وهو مؤلف من بنايتين متلاصقتين: الاولى من خمسة طوابق، والثانيه من ثلاثة طوابق. واجمل الغرف هي التي تطل على المدينة، حيث المنظر رائع جداً، اذ تقع المدينة وسك الوادي الذي تحيط به سلسلة من الجبال الشاهقه. من نافذة غرفتها، وقفت ديانا كلارك تستعرض المناظر الجميلة، تدهشها الاضواء المتلألئة التي تضفي بريقها على كيتو عاصمة الاكوادور. غابت الشمس كالعادة في الساعه السادسه والربع. وفي لحظة واحدة، ارتدت قمم الجبال الواناً مختلفة مروراً بالاخضر والوردي ثم الاحمر الداكن. وفجأة انطفأت انوار المدينة وظهرت في الفضاء غيمة، بدت شاحبه شفافة، من التلة التي يقوم عليها الفندق. خيّل الى ديانا في تلك اللحظة انها انتقلت الى عالم ساحر خلاّب. كأنها على قمة برج تابع لأحد القصور التي تتحدث عنها الاساطير، وهي تحلق في السحب. رفعت عينيها ورأت شمس المغيب تضيء القمم الثلجية فوق بركان منتصب تحت سماء مرصعة بالنجوم. وقالت ديانا لنفسها حالمة- هنا، يستتب الأمر من الآن فصاعداً، سأكون انسانة سعيدة. ما لبث البركان ان غرق في الظلمة وذاب في العتمة، وتبعثرت الغيمة قبل ان تختفي، ولاحظت ديانا ان غرفتها غارقة في العتمة. تنفست الصعداء وغادرت الشرفة ودخلت الى غرفتها واشعلت النور. وفي الحال تلونت الغرفة الفاخره باللون الوردي اضائت ديانا المصباح الكهربائي قرب السرير ونظرت الى المرآة شاهدت امرأة شابة، ممشوقة، ونحيفة، لها شعر كستنائي ذو بريق ذهبي، وجهها بارز ذو تقاطيع ناعمة و وجنتين نافرتين، وعينين عنبريتين، تعكسان بعض الخجل، وشقتين ناعمتين ممتلئتين تظهران حرارتها وسخائها. وبالفعل فأن الذين يتعرفون الى ديانا كلارك للمرَة الاولى يدهشهم هذا المزيج الغريب في شخصيتها حيث الخجل والرغبه متفقان بانسجام. وصلت ديانا الى كيتو منذ ستة ايام، مع والدها، كريستوفر فارلي، المدير العام للشركة النفطية التي تصنع الآليات لبناء ابراج الحفر والتنقيب. وقد سبق لهما وقاما معاً بزيارة لعدة بلدان ف اميركا الجنوبية. وهما الآن في الاكوادور يلبيان دعوة السينيورسانشو سواريز الذي يملك اسهماً كثيرة في احدى ناقلات البترول العالمية التي تقوم بالتنقيب عن البترول في البلاد. رافقت ديانا والدها رغبة منها بالتغيير. كانت مضظرة الى اتخاذ قرار مهم يتعلق بزواجها. وشعرت بحاجة الى ان تبتعد عن جو البيت في لندن كي تكتشف حقيقة عواطفها تجاه جايسون كلارك زوجها الذي افترقت عنه. جلست امام مكتب صغير وراحت تبحث في جواريره عن ورق لتكتب رسالة الى عمتها. كان والدها يقوم بجولة استكشاف في الادغال، حيث آبار النفط وهي تنتظره لكنه تأخر اكثر من اربع ساعات، فراحت تكتب الى عمتها جرترود . لعل الكتابة تخفف من القل الذي يكاد يخنقها من جراء تأخر والدها. اخبرتها كل ما جرى لها منذ وصولها الى كيتو، قبل اسلوع. لقد احبت المدينة التي تبدو في ربيع دائم بسبب مناخها المعتدل برغم موقعها العالي. الاحياء القديمة، والشوارع الضيقة والشرفات المعلقة، تحمل الطابع الاسباني. فالبيوت مؤلفة من طابقين، جدرانها مطلية بالكلس الابيض وسقوفها من القرميد المخضر بمرور الزمن. تلتصق على بعضها البعض على جهتي الطرقات الصغيرة المنحدرة. وفي ساحة الاستقلال، ما زالت الكاتدرائية وقصر الحكومة يحملان آثار الثورة. لكن المرتفعات المزهرة والاشجار الملتفة، كلها تدعو الى النزهات والى التسكع. وبرقفة ماريا، زوجة سانشو سواريز الرائعة، ورامون ابنها البالغ من العمر تسع عشر عاماً، زارت ديانا مبنى خط الاستواء، الذي يبعد بعض الكيلومترات عن العاصمة كيتو. هناك تصورت ديانا جزئا منها في نصف كرة الارض الشمالي والجزء الثاني في النصف الآخر الجنوبي. كما زارت معهما الكومبانا، كنيسة كيتو المشهورة كان الدليل عجوزا هنديا ذا وجه داكن وبارد يحمل شمعة مزخرفة. وعندما شاهدت ديانا الكنيسة في الداخل اصابتها الدهشه: التماثيل والمنبر والكرسي واطارات اللوحات، كل شي، حتى السقوف العالية، تبدو كأنها مطلية بالذهب السائل... وضعت ديانا يديها لحظة على المكتب تدعك اصابعها لتنشطها، لم تكن تضع في اصابعها سوى خاتم ضخم من الذهب الثقيل. وعاودت الكتابة، واذا بها تسمع نقرة خفيفة على الباب. التفتت بانتباه واصغاء، سمعت طرقة من جديد، لا يمكن ان يكون الطارق والدها، لأنه عادة يعلن قدومه بعزم وقوة، ولأنه يدخل غرفته، ثم يدخل غرفتها من باب الاتصال الذي يصل الغرفتين. نهضت ديانا ببطء وتوجهت نحو الباب، صحيح انها معجبة باهالي الاكوادور لكنها ليست مستعدة لأن تفتح الباب لأنسان مجهول. اذا كان الزائر واحدا من معارفها، لأبلغوها عن ذلك في مكتب الاستقبال. سمعت ديانا طرقة ثالثة عندما كانت يدها ما زالت على مسكة الباب. ففتحته ببطء وكان الطارق فيليكس اصغر حجّاب الفندق، فقال بتهذيب وبلغته الاسبانية: - مساء الخير، سيدة كلارك - مساء الخير، فيليكس كانت تود الاّ يتابع حديثة باللغة الاسبانية، كي تستطيع ان تفهمه. ويبدو انه ادرك ما يدور في ذهنها، تابع فيليكس حديصة بلغة انكليزية مترددة التقطها من السواح الاميركيين: - في قاعة الاستقبال شخص يريد ان يراك - ما اسمه ؟ -لم يقل اسمه بل سأل مكتب الاستقبال عن رقم غرفتك، لكم الموضف هناك رفض ان يعطيه الرقم الا اذا عرّف الشخص عن حاله. لكنه اصر الا يعطي اسمه. ولما رآني طلب مني ان اطلب منك موافاته في المقهى وانه سيدفع لي بعض المال تذت قمت بذلك. هل ستأتين يا سيدتي؟ ارجوك ان تأتي حتى يدفع لي المال احنى رأسه متوسلاّ. ترددت ديانا. هل من الحكمه ان تذهب لرؤية هذا الرجلالذي رفض الموظف ان يدله الى غرفتها؟ توسل اليها فيليكس:- اذا لم تأت سيدتي، سيغضب علي هذا الرجل. ولا احب ان اكون عندما يغضب. فهو طويل القامة وقوي، ارجوك يا سيدتي ان تذهبي اليه. اجابته مبتسمة : -اني آتية، انتظرني تألق وجه ديانا وراح فيليكس يبتسم لها مظهراَ اسنانه العريضة البيضاء. اخذت ديانا حقيبة يدها وتأكدت من وجود مفاتيح الغرفة داخلها. ولم تنس ان تلقي نظرة الى المرآة لتتأكد من ان فستانها الاخضر لا عيب فيه. ثم خرجت واقفلت الباب ورائها وتبعت فيليكس حتى المصعد. كان المقهى مضاء بنور خافت. ومع ذلك كان في وسعها ان تلاحظ الوجوه وراء الطاولات الصغيرة المستديرة، القائمة حول منصة، حيث مجموعة من الموسيقيين يعزفون الموسيقى الاميركية-اللاتينية. سلك فيليكس ممراً يؤدي الى مؤخرة القاعة وتبعته ديانا. وكادت ان تختنق لدى رؤيتها ظهر الرجل. له كتفان عريضان وشعر قصير. توقفت جامدة وراح قلبها يخفق بسرعة كأنما تركض مسافة طويلة. لا يمكن ان يكون هذا جايسون؟ ربما واحد يشبهه... كان فيليكس يشرح له بسرعة ماداّ يده نحوه فالتفت الرجل، ورأت ديانا ملامحه وشعرت بحدة عينيه الزرقاوين. واذا بجايسون يضع يده في جيبه ويخرج قبضة مليئة بالنقود ويضعها في يد فيليكس الممدودة نحوه. وشكره فيليكس وانصرف. كان الرجل يدير ظهره وكانه غير مبال انها انضمت اليه. غالباً ما كانت تتخيل هذا اللقاء مع زوجها جايسون، الذي افترق عنها منذ سنة تقريباً، تاركاً شقتها في لندن، متهما اياها بعدم ثقتها به. لكنها لم تتصور ابدا ولو في الاحلام انها ستلتقيه في بلد آخر، وغي قارة اخرى، وفي هذه المدينة الساحرة بالذات. كانت قدماها ترتجفان، وهي تسأله في صوت مبحوح:- ماذا تفعل هنا؟ وضع كاسه الفارغة ورفع عينيه ببطء نحوها وابتسم قائلاً:- اني انتظرك، لماذا لا تجلسين؟ سقطت ديانا في الكرسي وقالت: - انت آخر انسان انتظر ان اراه هنا - الم يقل لك كريستوفر اني اعمل هنا - كلا ، فهو لو قال... -توقفت فجاة عن الكلام. لماذا لم يخبرها والدها بوجود جايسون في الاكوادور؟ هل كان يخشى ان ترفض مرافقته؟ ادرك جايسون ما يجول في خاطرها فقال: -لو عرفت لما اتيت معه.عظيم، لقد فهمت. -كلا. لا،.. لم اكن اريد ان اقول ذلك لكن، ربما ظن والدي ذلك. اطلق جايسون ابتسامة ساخرة:-ما زلت لا تعرفين كيف تتصرفين؟ في كل حال لننسى الامر. ماذا تحبين ان تشربي ؟ -ماذا تشرب انت ؟ -اشرب عصير الحامض بالنعناع، انه منعش ولذيذ الطعم، ما رأيك بكأس منه؟ وجدت ديانا من جديد اهتمامه المالوف وشعرت انها مجردة من اي حقد عليه. لكنها استدركت الامر، فيجب الا تستسلم لسحره. قالت بنبرة هادئة:- اخذ زجاجة كوكاكولا. بعد ان جاء المشروب واحتست منه جرعة، سألته وهي تنظر اليه يشعل سيكارة وهي لم تره يدخن من قبل. - لماذا تنتظرني ؟ حدق جايسون بها في نظرة غير مباشرة وهمس قائلاً:-لأطلعك على امر لن يعجبك. -انه يتعلق بوالدي، اليس كذلك؟ فقد تأخر في العودة، ماذا جرى؟ ومن جديد، نظر اليها ليتأكد من قدرتها على سماع الخبر. هل هي قادرة ان تتحمل صدمة اخرى؟ وسألته بألحاح:- قل لي، يا جايسون. واعدك الا اتصرف تصرفا احمق. لا اغماء ولا نوبة عصبية. ارجوك.لا تجعلني انتظر اكثر. -تحطمت الطائرة التي كانت تنقل والدك الى بوتو على مدرج الخبوط وهو الآن جريح. فقد اصيب بكسور في اضلاعه وفي ذراعه اليسرى. -اين هو الآن؟ يجب ان اذهب اليه حالاً. انتفضت ديانا وراحت ترتجف بقوة وتخيّلت والدها الجريح وحيداً في احد المستشفيات الممتلئة ذباباً ساماً. نهض جايسون واخذها بيده واعادها الى الكرسي. -ارجوك ان تتسلحي بالهدوء! فوالدك بين ايدي اطباء وممرضين يعتنون به كل الاعتناء في المستشفى الذي تديره المؤسسة العالمية للصحة. وانا جئت لأخبرك ما حدث، لآن والدك طلب ان يقوم بهذه المهمة احد افراد العائلة. احد افراد العائلة؟ لقد لفظ هذه العبارة بطريقة تهكمية. نظرت ديانا اليه. كان يحتسي كأسه الثانية. وبدورها احست بالضمأ وجرعت كأسها حتى افرغته، وشعرت بالشراب المثلج يرطب حلقها فارتاحت. سألته:-هل يمكنني ان التحق بوالدي في بوتو؟ كان جايسون ينظر الى الراقصه التي دخلت لتوها الى حلبة الرقص، وهي فتاة جميلة، ذات بشرة سمراء وترتدي فستاناً طويلاً، ابيض اللون، يظهر خطوط جسمها المثير. اجاب جايسون بلهجة غير مبالية:-اذا كنت تريدين ذلك. -متى؟ عادت عيناه الزرقاوان تحدقان في وجه ديانا وتتأملان شعرها اللماع. شعرت انه غير مبال بما حدث لعمه، فكان يبدو منشغلا براحته الخاصة، وقال بعد صمت طويل: -سآخذك اليه غداً، بعد ان انام هذه الليلة، لأنني متعب للغاية. راحت ديانا تنظر اليه عن كثب. لقد نحف جسمه عما كان عليه منذ سنة تقريبا. ويشرة جلده لوحتها الشمس كما زادت زرقة عينيه، وشعره الكستنائي يتموج بخصلات ذهبية تشبه القش الاصفر. وكعادته، كان يرتدي ثيابه باهمال: قميص كحلية، وسروال بني فاتح وربطة عنق معقودة بسرعة ومن دون اتقان، وسترة بيضاء ارخاها على مسند المقعد. قالت ديانا بلطف زائد:-اشكر لك مجيئك الى هنا. شعرت برغبة مفاجئة لآن تلمس بأصابعها يده السمراء، لكنها سرعان ما عدلت عن ذلك. هزّ كتفيه ونادى خادم المطعم الذي اخذ الكاس الفارغة. وفي هذا الوقت كانت المغنية تؤدي اغنية مأساوية بصوتها الرنان. سألته ديانا وهي تعي جيداً التوتر الشديد الذي حل بينهما،- هل انت في الاكوادور منذ مدة؟ لم يكن جايسون ذلك الانسان الذي يحب الثرثرة. كان يعبر عن افكاره واحاسيسه بأختصار، واحياناً بشراسة. وكان يرد على الأسئلة باقتضاب. اجابها ببساطة:-منذ بدأ التنقيب عن النفط. -يعني منذ متى؟ وتكلم جايسون بلهجة فظة فتراجعت الى الوراء، كما لو كان يصفعها قائلاً:-اهذا يهمك فعلا، او انك تتكلمين فقط على سبيل الحديث؟ -ان ذلك يهمني فعلاً، عندما تركتني وذهبت وبقيت من دون اي خبر منك. كتبت اليك لأني كنت حريصة على تتبع اخبارك ولأنني كنت في حاجة الى صحبتك. لاحظت ارتفاع حاجبيه استفهاماً، واضافت استمداداً للدفاع عن نفسها:-انني زوجتك، ولذلك كنت اعتقد ان من واجبي ان اعرف اين كنت وماذا تفعل. لم يرد فقد عاد الخادم حاملاً كأساً ثانية مليئة بعصير الحامض المثلج والمحلى. دفع له واشعل سيكارة اخرى واحتسى جرعة من شرابه وعاد يحدق بكاسه. شعرت ديانا بالغضب يجتاحها تدريجياً. انه ما زال يرفض الخوض في اي حديث من هذا النوع، وستضطر الى طرح اسئلة اخرى وهي تعرف انه يكره ذلك. واخيرا قالت:-كنت انتظر جوابا منك على رسالتي وتسائلت مرات عديدة ما اذا كنت قد تسلمتها. -نعم. تسلمتها. -اذن، لماذا لم ترد علي؟ -هل تريديت حقا معرفة السبب؟ رفع كأسه وافرغها دفعة واحدة. اجابت ديانا والغصة في حلقها:-نعم، ولا شك ان هناك سبباً وجيهاً جعلك تفضل الصمت كل هذه المدة. كأن شيئا لم يتغير انه ما زال ذلك الرجل المجهول، الذي احبته او تخيلت انها احبته. والذي تزوجته والذي عاشت معه ايماً حلوة مليئة بالحب المتبادل. اجاب وهو يقلد لهجة ديانا:-سبب وجيه، نعم، بكل تأكيد، من وجهة نظري انا، على الاقل. لم ارد على الرسالة، لأنني اكره ان اعرف انك ستسامحينني على غلطة ارتكبتها. في كلمات قليلة ، اعاد الزمن الى الوراء كأنهما من جديد وجهاً لوجه في شقتها اللندنية. فقد تغير الاطار، لكن موقف جايسون ما زال هو اياه وكانت ردة ديانا نفسها ايضاً. -غلطة لم ترتكبها؟ قالت ذلك بصوت عال وكررت العبارة مرات عديدة، فراح الجميع ينظرون اليها متسائلين ومتفاجئين. لكنها، خوفاً من ان يعتبر الموجودون ان شيئا ما حدث ويتقدمون للمساعدة، اقتربت منه وقالت بصوت منخفض:-انت وقح للغاية. لقد ذهبت الى باريس تلبية لدعوة امرأة. وكنت معها كل الوقت. سقط في كرسيه وراح يحدق فيها بنظرات ثاقبة وساخرة. -كيف عرفت انني كنت مدعواً الى باريس. لا اعتقد ان صديقتك العزيزة اونيس هي التي اخبرتك ذلك. -اني... خانتها الكلمات. كانت تعتقد انها قادرة ان تخبره عن الرسالة التي وجدتها في ملابسه، وكانت بتوقيع كارول، لكن، كانت تنقصها الشجاعه. اجابت بحدة ومن دون اقتناع: -هذا لا يهم. اعرف انك كذبت علي، وانك خدعتني واضعت ثقتي فيك. اخذ يضحك من اعماقه وقال: -انت تجهلين كل شيء عن الثقة. كنت كلما جئتك متأخراً يوماً او يومين، تنهالين علي بالاسئلة، تريدين ان تعرفي اين كنت، وماذا فعلت، ومع اية امراة كنت... -لم اسألك ابدا ذلك. وارجوك ان تخفض صوتك: فالجميع ينظرون الينا. -اني لا اهتم لذلك. اشعل سيكارة اخرى. سألته ديانا: -لم تكن تدخن عندما عرفتك. ما الذي جعلك تدخن الآن؟ -كي اجد الشجاعة لأقول كل ما جرى لوالدك. -لااعتقد... قاطعها بغضب وقال: -انها عادتك الا تصدقي ما اقول. اليس كذلك؟ لقد صدقت اونيس و وثقت بها، لكن، من اجلي، لا شيء من هذا. هي ، صديقتك الحميمة. اما انا فلم اكن سوى المسكين الذي اوقعته في حبالك كي يتزوجك... -لم يحدث ذلك اطلاقاً! اجابها بسخرية مرة: -لا؟ كانت عيناه المتعبتان تعكسان خيبة الأمل. نهضت ديانا فجأة وهمست قائلة: -لم اعد اتحمل ما يحصل. وكالعمياء خرجت من المطعم، من دون الانتباه الى الناس الذين ترتطم بهم وهي سائرة. وفي باحة الفندق. تبعت مجموعة من السياح الاميركيين ودخلت معهم المصعد الكهربائي. وعندما راحت تقول لأحدهم ان يكبس الزر الخامس، لاحظت وجود جايسون معها في المصعد. كان ينظر اليها بعينيه الساحرتين. توقف المصعد في الطابق الخامس وخرجت ديانا متجة نحو غرفتها وكان جايسون يتبعها. فاستدارت صوبه غاضبة وقالت: -لماذا لحقت بي؟ كان ضوء الممر خفيفاً، فبدا وجه جايسون نحاسياً وشعره كشعلة صفراء. اجابها بهدوء: -انت ترغبين بالذهاب الى بوتو وانا وعدتك بأن آخذك لتزوري والدك في المستشفى هناك. لذلك اعتقد انه من حقي ان اتبعك حتى غرفتك حيث يمكننا الاستعداد للسفر غدا. مشت ديانا نحو غرفتها، فتبعها بخطواته غير المكترثة. ولما وصلت امام بابا غرفتها، حاولت ادخال المفتاح في القفل لكنها لم تنجح. سحب جايسون يدها وقام مكانها بفتح الباب. دخلت ديانا ورمت بحقيبة يدها على السرير والتفتت صوب جايسون. وشعرت بانفاسه تتقطع. كان قد اقفل الباب واسند ظهره عليه. كان شاحب الوجه، واغمض عينيه من الالم. اقتربت ديانامنه وانتشلت من يده مفتاح الغرفه وسألته: - جايسون، ما بك ؟ رفع حاجبيه وقال: -اني اشعر باعياء شديد، اين غرفة الحمام؟ -من هنا ، من هنا . فتحت باب الحمام وانارت الغرفة. فاندفع جايسون الي هذه الغرفة الصغيرة وصفق الباب ورائه. وجدت ديانا نفسها واقفة امام النافذة التي تطل على منظر رائع للمدينة. كانت بين الضحك والبكاء. لاشك وهي تتحمل عواقب المفاجأة، اولاً عند رؤية جايسون وثانياً عندما علمت بحادث والدها. وفجأة انقلبت الحياة رأساً على عقب. وهي لا تعرف كيف تعيد التوازن الى مكانه. ولم تعرف ديانا كم من الوقت مضى وهي امام النافذة تحلم في اليقظة. ولم تعد الى الواقع الا عند سمعها صوت باب الحمام ينفتح. وببطء ابتعدت عن النافذة وعادت الى وسط الغرفة. كان جايسون شاحب اللون، وشعره منفوش يحمل سترته على ذراعه، ورماها على المقعد القريب منه، وحلّ عقدة ربطة عنقه وخلع قميصه. فوجئت ديانا بتصرفه وشعرت بجفاف في حلقها. وسألته: -هل تشعر بتحسن؟ قال ويداه تشدان على زردة زناره: -ما هذا الاهتمام المفاجئ ... هل تذكرت اننا متزوجان؟ -هل انت بحاجة الى اي شئ ؟ - كلا شكراً. ستتحسن احوالي عندما انام. جلس جايسون على السرير. وضع رأسه بين يديه وراح يصرخ من الالم. ثم انحنى ليفك ربطة حذائه ففهمت للحال ما ينوي فعله وقالت :-جايسون، لا يمكنك ان تمضي الليل هنا. -لماذا؟ هل تنتظرين احداً؟ إحمر وجه ديانا وأجابت: -كلا. لكن ماذا سيفكر العاملون في الفندق اذا اكتشفو انك امضيت الليلة في غرفتي، من دون ان تسجل اسمك في سجل الفندق؟انا اعرف ان الموظف في مكتب الاستقبال رفض ان يدعك تصعد الى غرفتي. سالها جايسون:-اهذا كل ما يهمك؟ فجأة راح يتثائب ويؤرجح قدميه الطويلتين على السرير. وكانت عيناه الزرقاوان الثقيلتان تتفرسان في وجه ديانا. -في امكانك ان تقولي لهم الحقيقة: وصل زوجك بصورة مفاجئة. سيفهمون جيداً، لا تخافي وشوف يسرون ان يقبضوا منك اضعاف المبلغ. اما بالنسبة الي فأني سعيد ان انام. فالسرير واسع اكثر من اللزوم ويتسع لنا تماماً. تنهد جايسون مطولاً، وادار ظهره ونام. راحت ديانا تنظر اليه وفي داخلها تتصارع احاسيس مختلفة تتراوح بين الغضب والضحك. ما الذي حصل لها الآن. شئ عادي في هذا البلد المجنون. هنا تعتبر الحوادث الغريبة كانها طبيعية وعادية جداً. وقبل ساعة كانت ديانا تجهل تماماً وجود جايسون في الاكوادور، وهو الآن ينام في السرير نفسه الذي امضت فيه الليالي الست الفائتة وحدها. ان شكل جسمه المألوف، وطريقة تساقط شعره على جبينه، والابتسامة على فمه وهو نائم، كل هذا ايقض في داخلها ذكريات كانت تعتبرها دفينه الى الأبد. اقتربت من السرير ومدت يدهل لتزيح عن جبينه خصلة شعره المتمرده. لكن سرعان ما لجمت رغبتها وعادت الى الوراء بقوة. كلا، لن تستسلم بهذه الطريقة. عندما يكون جايسون نائماً، فأنه يبدو ناعماً لكن عليها ان تنسى انه مستمر في الدفاع عن نفسه ضد كل ضعف وذلك بعنفوان صامت وشرس. وليس هذا التعبير العاطفي الملئ بالحنان الذي يظهره في نومه سوى تعبير سطحي. عليها اذن ان تكون اكثر واقعية. قامت بخلع حذائه وجواربه، وفكرت بان تخلع له سرواله الضيق لينام مرتاحاً.لكنها ادركت ان مثل هذه الحركة ستوقظه. ولاحظت ان في ظهره آثار جروح تمتد من اسفل اضلاعه الى اعلى ظهره، كما لو ان الجلد انفلع شطرين ثم اعيد لأمه، وهي ما زالت حمراء. لم تكن هذه الجروح هناك قبل سنة. هل اصابه حادث ما ؟ لاشك انه تألم وهي لم تعرف بذلك ولم تكن بجانبه لمساعدته والاعتناء به. وفي تأوه اقتربت من الخزانة. وفي احد الادراج اخذت بطانية هندية الصنع، من الصوف الناعم، مزينه برسوم هندسية، و وضعتها على جسم جايسون. وكما لو انه شعر بحرارة ناعمة، تنهد بعد الشئ واستدار على جنبه. وتسألت ديانا،العمل هو الوسيله الوحدية للأبتعاد عن الذكريات. ودخلت غرفة الحمام ولاحظت ان جايسون مظف كل شئ بعد الحمام. راحت تغسل وجهها وتنظف اسنانها وتمشط شعرها. ثم عادت الى الغرفة. كانت الرسالة التي بدأت تكتبها لعمتها جرترود، مازالت في المكتب الصغير. جلست ورائه وبسرعة اخبرت عمتها عن الحادث الذي تعرض له والدها واضافت تقول انها ستوافيها بتفصايل اخرى، فيما بعد. وضعت الرساله في مغلف والصقت عليه الطوابع. لم يبق امام ديانا سوى الاخلاد الى النوم. فتوجهت نحو السرير، لكنها شعرت انها غير قادرة ان تنام قربه وبينهما امور كثيرة معلقة. وما دام هناك بعض عدم ثقة بينهما وما دام هو مستمر في الكذب ومصرّ على عدم ادخالها الى عالمه الحميم، الي افكاره واحاسيسه. ابتعدت عن السرير قبل ان تغير رأيها. و وقع ظهرها على اريكة عريضة، فقررت ان تستلقي عليها لتنام هذه الليلة في انتظار ما قد يحدث غداً. لكن هناك مشكلة الاغطية: فقد نام جايسون على غطاء السرير وفوقه البطانية الوحيدة الباقية. الحل الوحيد ان ترتدي مئزرها فوق قميص النوم وان تتدثر بمعطفها الصوفي الذي اشترته خصيصاً لترتديه في الليالي الباردة. ادارت الاريكة نحو النافذة تاركة الستائر الثقيلة مفتوحه. اطفأت النور وتمددت على المقعد ولما وجدت نفسها غير قادرة على النوم راحت تحصي النجوم المتلألئة في الفضاء، في محاولة لالهاء نفسها عن التفكير بما حدث. كل شئ هادئ وساكن. فقط صوت تنفس جايسون يعكّر الصمت داخل الغرفة. كم من مرة بقيت مستيقطة، تسمعه يتنفس وتشعر بحرارة جسمه الدافئة. لكن سرعان ما تنبهت الى خطورة افكارها فازاحتها وحاولت تركيزها على والدها. قال جايسون ان جراحه ليست خطرة. كما ان الاطباء والممرضات بعتنون به داخل المستشفى. وهي عليها ان تثق بزوجها كما سبق و وثقت فيه عندما كانا يعيشان حياتهما الحميمة بعد الزواج وانطلقت افكراها واختلطت اضواء النجوم امام عينيها. وعادت بها الذاكرة الى الوراء، الى لقائها الاول بجايسون، اي منذ سنتين فقط

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا