لحظة الندم

الفصل الاول
تصاعد رنين جرس الباب ملحا. تملمت جوانا في سريرها متذمرة, فقد كانت قد صممت على ان تمضي صبيحة هذ اليوم السبت متكاسلة في فراشها حيث أنعا كانت أول عطلة تأخذها منذ اسابيع. وما لبثت أن تناولت رداءها المنزلي كي تضعه على جسمها , وهي تصرخ قائلة: " ها انا قادمة" ابتسم ساعي البريد عندما فتحت الباب وهو يقول:"أنا آسف لازعاجك يا آنسة غرانت. ولكن هناك رسالة مسجلة تحتاج إلى امضائك." اخذت جو منه الرسالة بعد ان وقعت بإمضائها, ابتسم الساعي مرة اخرى وهو يقول:"شكرا . يمكنك ان تعودي الان الى فراشك." نظرت اليه مبتعدا, ثم عادت تنظر الى المغلف السميك في يدها.لابد ان ثمة شيئا هاما في داخله, وفتحته ,لتخرج منه ورقة واحدة قرأتها بسرعة, ثم قطبت حاجبيها. كانتالرسالة من مكتب شركة المحامين يقدم عرضا مغريا لشراء العدد الكبير من الاسهم التي ورثتها عن ابيها. اعادت قراءة الرسالة للمرة الثانية.لم يكن ثمة اسم الشاري , وانما ,"وصلنا عرض من شخص بأن..." وهذا كل شيء. هزت جو كتفيها, ثم القت بالرسالة بعيدا لكي ترد عليها في مابعد .ان شخصية الشاري لاتهمها, لان اسهمها من شركة ريدموند للبناء ليست للبيع. "انت , يافتى!" القت جو نظرة ساخطة من فوق السقالة.انه احمق آخر قصير النظر يظنها فتى لانها تقف الى ناحية البناء. ولكنها مع هذا, أخذت تتفحص باهتمام ذلك الرجل الذي كان واقفا في الساحة, وبالرغم من بعد المسافة, فقد استطاعت ان ترى أنه طويل القامة يرتدي بذلة من التويد جميلة التفصيل. كان يبدو, على وجه العموم انيقا لا تشوبه شائبة. ردت عليه من اعلى "ماذا تريد؟" رفع يده يقي عينيه من اشعه الشمس وهو يصرخ مجيبا:"اريد السيد جو غرانت.هل هو عندك هناك؟" ردت عليه قائلة:"ها انا نازلة اليك." وهبطت الدرجات مسرعة لتستدير الى حيث واجهت الرجل الغريب ذاك. وكانت على صواب بالنسبة الى طوله, اذ وجدته يفوقها طولا بحيث انها وهي التي يقارب طولها المئة وسبعين سنتمترا وجدت نفسها ترفع راسها لتنظر الى وجه لوحته الشمس لرجل تستدعي شخصيته الاهتمام, ذي عينين زرقاوين تتالقان بالحيوية وتتناقضان مع شعر اسود مجعد لم يكن يبدو عليه القابلية للخضوع لاية قصه او تسريحة مهما بلغت مهارة الحلاق. واخذت عيناه الزرقاوان تحدقان فيها بحيرة وكانه شعر بان ثمة خطأ في مفهومه نحوها, لايدري ماهو بالضبط. اهتز اعتدادها وثقتها بنفسها ازاء السرعة المفاجئة لضربات قلبها عندما وقع نظرها على هذا الغريب الملوح البشرة, لتشعر بوجنتيها تلتهبان بينما فغرت فاها صامتة تنظر اليه. واخيرا جاء صوتها الذي كان حادا لدرجة صعقت لها وهي تقول :"حسنا؟". بد على جبينه تقطيبة بسيطة, وقال برقه نفذت الى اعماق نفسها :"اسمي تاكيراي,واريد ان ارى جو غرانت لقد اخبرتني فتاة في المكتب انه يعمل هنا." وضعت جو يديها في جيبي سروالها بحركة صبيانية دون وعي منها, ثم مشت مبتعده عنه وهي تناديه من فوق كتفها قائلة:"يمكنك ان تتفضل الى هذا المكتب ياسيد تاكيراي." اجاب متباطئا في اللحاق بها:"لقد سبق وذهبت الى ذلك المكتب ولكنه لم يكن هناك." قالت جو وهي تفتح باب المكتب ثم تنتظره:"لابأس, سيكون هنا" ثم دخلت المكتب بينما هز كتفيه وتبعها. خلعت قبعتها الخشنة وقد دخلها سرور الظفر وهي تسمع هتاف الدهشه من ذلك الرجل لدى رؤيته لشعرها الكث الكستنائي الفاتح وهو يتناثر حول وجهها, ثم استدارت تواجهه قائلة:"انني جو اغرانت,ياسيد تاكيراي, والانمالذي تريده بالضبط؟" بدت في عينيه ابتسامة دافئة وهو يعترف بغلطته قائلا:" ثمة امور كثيرة في فكري. ربما تتقبلين اعتذراي المتواضع؟" اجابت:"ربما" ولكنها كانت تشعر, وهي تحاول ان تغطي تصاعد نبضها, ازاء ابتسامته باظهار التهذيب الهادئ سالها:"هل يحصل ,عادة. مثل هذا الخطأ؟" اجابت:"كثيرا جدا. ليس ثمة سبب لكي تظن في نفسك الغباء." قال"اوه انني لا أشعر بذلك .حتى اجمل امرأة قد تبدوكالرجال إن هي ارتدت مثل هذه القبعه والجاكيت." لم يفتها تهكمه المبطن وهو يلمح الى انها.مادامت غير جميلة جدا, فمن المنطقي ان يخطئ هو بهذا الشكل. قالت له:"ربما من الافضل ان تدخل في الموضوع , ياسيد تاكيراي." سألها:"اي موضوع يا آنسة غرانت؟" أجابت:"لقد كنت تبحث عني, وها انك وجدتني الان." تلاشت الابتسامة عن وجهه واتخذت ملامحه سمة الجد وهو يقول:"آه, تعنين ذلك الموضوع. حسنا, الموضوع ياانسة جو غرانت, انني جئت لادعو صاحب هذا الاسم الى الغذاء . ماقولك؟" وقطبت جو جبينها بدهشة وهي تقول:"الغذاء؟ ولماذا تريد دعوتي الى الغذاء؟" نظر اليها وقد ازداد التصميم في عينيه وسالها:" وهل تدهشك مثل هذه الدعوه؟" كان ثمة هالة من الجاذبية تحيط به. وادركت هي بشيء من الاثارة. انه يعبث معها. أجابت"انها تدهشني طبعا لانك لاتعرفني." قال:"هذا صحيح . وانني اعترف ان جو غرانت الذي ابحث عنه هو رجل ملتح ضخم الجسم, في الخمسين من عمره. ولكنني سعيد جدا بان تكوني ممثلة له." فجأة جلست جو وهي تقول :"انني لست ممثلة له , بل انا اقرب الناس اليه.ذلك ان ابي قد توفي." بانت في صوته صدمة وهو يقول:"هل توفي جو ؟ ولكنه لم يكن كبير في السن." وبدا عليه الاسى بشكل واضح وهو ينظر من النافذه لبرهه. ثم مالبث ان نظر اليها وكانه رآها لتوه ثم سألها:"هل انت ابنة جو؟صاحبة تلك الصورة الموضوعه على مكتبه؟ ولكنك كنت تضعين نظارة طبية؟" تذكرت جو تلك الصورة المفزعه التي تحيط بها اطار قديم, والتي كانت مدفونة تقريبا في الفوضى التي كان غارقا فيها مكتب ابيها, وقالت:"نعم لقد كنت اضع نظارة مسكين ابي. لقد كنت ,عادة, اتجنب ان تؤخذ لي اية صور فوتوغرافية.ولكن لك يكن ثمة مهرب من ان تؤخذ لي صورة في المدرسة, واضطرت امي الى شرائها . ولكنها, مراعاة لشعوري, لم تضعها بقرب صورة شقيقتي." قال:"احقا؟ولماذا كان ذلك؟" هزت كتفيها قائلة:" ان لشقيقتي هيثر شعرا اجعد واسنانا منتظمة جميلة وعينين سليمتي النظر. ولكن ابي اشفق علي ووضع صورتي على مكتبه." نظر اليها متفحصا بعينين تنطقان بالثقه بالنفس ثم سألها:" انني متاكد من انك تسلمين هذه الايام, لاختك صلاحية استخدام اموالها, يا انسة غرانت" ابتسمت بهدوء وهي تقول:" اخشى ان لايكون الامر كذلك ياسيد تاكيراي, ذلك ان هيثر مازالت تمثل الجمال في الاسرة, بينما علي انا ان اتعامل مع العقل." قال:" مسكينة انت." تصلب جسدها وهي تقول على الفور:" انني لا اريد الشفقة من احد, ياسيد تاكيراي." ومالبثت ان تضرج وجهها غضبا اذا انتبهت الى تسرعها الغبي وهي ترى الضحك في عينيه. ان هذا الرجل يتدخل في حياتها, محطما الحواجز التي تقيمها حولها كثمن لقبولها في عالم الرجال. قال:" انك في حاجة الى تقوية تقديرك لنفسك وارجو ان لايسيئك قولي هذا. ولكنني اوفق معك انك لست في حاجة الى شفقه مني او من غيري." وقبل ان تجيبه ,كان هو قد غير الموضوع قائلا:" لقد قال جو, عند ذاك, انك ستتابعين عمله, وقد ظننته, في ذلك الحين , يمزح." قالت:" هذا صحيح, ياسيد تاكيراي,وعندما ادرك غلطته, كان الاوان قد فات لكي يفعل اي شيء بذلك الشأن." سألها:" وهل حاول ذلك؟" اجابت وهي تتذكر الزهوالذي ساد ملامح ابيها, يوم تخرجت من الجامعه:" لم يحاول بشكل كاف." بان عليه التفكير وهو يقول:"فهمت" كانت تظن انه بعد ان اكتشف ان مهمته كانت فاشلة, لابد سيستأذن خارجا, ولكنه بدلا من ذلك,قال:" انني شديد الاسف لما سمعته عن موت جو, يا انسة غرانت , مالذي حدث؟" وكان يبدو على وجهه الاهتمام البالغ مما جدد الامها وبعث غصة في حلقها. واخذت تحدق في البرنامج الموضوع على مكتبها الى ان استطاعت ان تتمالك دموعها فلا تنهمر. عادت جو من ذكرياتها لتنظر اليه قائلة:"لقد كان في سيارته عندما اصابته ذبح قلبية قبل ثلاث سنوات.." قال:" انني اسف. انني لم اعلم بذلك اذ كنت في الخارج اعمل في كندا, وعندما ابتدأت اجدد العهد بمعارفي القدماء اتصلت هاتفيا بمكتب ريدموند, سائلا عن ابيك, فاجابوني.." قاطعته قائلة:"لاباس. انها غلطة بسيطة وهي تحدث دوما. لقد تعودت على ذلك." ومدت اليه يدها مصافحة بابتسامة شابها اسى خفيف:" جوانا غرانت." كانت قبضته دافئة قوية .قبضة رجل جدير بالثقه قدم نفسه قائلا:"كلايتون تاكيراي." قالت : "حسنا انني اسفه اذا جاءت رحلتك الينا خائبة, ياسيد تاكيراي." وقال وقد بان العزم في عينيه:" انها لم تكن خائبة." نظر في عينيها, فأسرعت تشيح بناظريها عنه بعيدا, وهي تقول: "ليس في إمكاني ان اكون بديلا كاملا من ابي."قال:" لقد كنت احب اباك واعجب به , ياجوانا. ولكنني اظن ان الغذاء معك سيكون ممتعا. خصوصا, ان استغنيت عن حمالات السروال." قالت معترضة:"ليس عليك ان تدعوني, فلا تكن احمق لاينبغي علي..." سألها:لم لا؟" اجابت:" لان....." وسكتت اذا لم يكن هناك اي سبب في الحقيقة, عدا عن انها تبالغ في سبيل الاحتفاظ بسكنتها النفسة. ابتسم وكأن في استطاعته ان ينهي المعركة التي تدور في اعماقها, وقال:"ارغمي نفسك على ذلك, ياجوانا." قالت وهو مازال ممسكا يدها بيده الكبيرة:"انني اشكرك"وهكذا وجدت نفسها تقبل الدعوة دون ان تفهم تماما السبب في ذلك, غير مدركة انه رجل لايقبل كلمة , لا جوابا. قال:"ان هذا من دواعي سروري, وقد حجزت مائدة في مطعم جورج في طريقي الى هنا. فقد كنت مصمما على دعوة ابيك." قالت مازحة وهي تميل براسها جانبا:"حقا؟من الافضل اذا ان اغير حذاء العمل هذا. ولكن ليس عليك ان تكلف نفسك, ياسيد تاكيراي, فما انا الامهندسة هنا, وعادة انتاول سندويشا وقت الغذاء." اشرق وجهه ضاحكا لتتغضن زوايا عينيه وفمه, وهو يقول: انني لست باحثا عن عمل, ياجوانا,كما ان اصدقائي يدعونني كلاي.سأنتظرك في السيارة بينما تقومين باصلاح شأنك كما تريدين." خلعت حذاء العمل من قدميها لتضع بدلا منه حذاء ذاكعب عال. ومررت على سروالها الرمادي الفرشاة وهي تتمنى لو ان لديها تنورة في المكتب لترتديها, بدلا منه. لقد فضلت, عند شراء تنورتها الصوفية الناعمة العاجية اللون ,ان تضمن فيها الراحة اكثر من الزي الذي ترتديه. ولكن كنزتها كانت جميلة على الاقل, يمتزج فيها اللونان الوردي والابيض والتي كانت هدية من اختها الكبرى هيثر التي كانت تدير متجر اللازياء, والتي كانت تحرص على اضافة لمسات انثوية الى خزانة اختها جو التي لم تكن تحوي سوى ثياب العمل الخشنة. وازاحت جانبا التقويم السنوي الذي يغطي المرآة التي كانت قد اتخلت عنها في عالم الرجال هذا الذي تعيش فيه, ثم القت على نفسها نظرة معترضة. قالت تحدث نفسها بحزم وهي تهز كتفيها:"لاتخدعي نفسك ياجو,فهو لم يدعك الى الغذاء الا لانه يعرف اباك, فلاتدعي الافكار الحمقاء تراودك." ومطت شفتيها ساخرة من نفسها, لكن, لابد ان هيثر كانت ستشعر بالسرور وهي ترى اختها تطيل وقوفها امام المرآة تصلح من شعرها وزينتها. فتح لها كلاي باب السيارة حيث اطمأن الى راحتها قبل ان يتخذ مقعد القيادة. ولاحظت هي الاعين التي تراقبها باهتمام من مختلف الانحاء, وعرفت انها ستكون عرضة للالسن لايام عديدة بعد ذلك, من قبل زملائها الرجال الذين يعملون على السقالات اذا يمدون لها ايديهم يساعدونها بأدب مبالغ فيه. قال:" الامر نفسه كان سيحدث من قبل زملاء العمل لو كنت انت رجلا اصطحبتك فتاة, وربما اسوأ." ضحكت هي قائلة:"هل تحصل معيشتك من وراء قراءة الافكار؟" اجاب"كلا, ولكني كنت مهندس بناء انا ايضا." قالت وهي ترمقه بنظرة جانبية من تحت اهدابها الكثيفة:"احقا؟ ليس عندي شك في ان ثمة فتيات كثرات كن يلاحقنك." استدار اليها باسما وهو يقول:" بل قليلات, وابوك كان يعرف تماما كيف يغيظني." قالت :"نعم. هذا صحيح." فقد كانت تعمل مع ابيها في البناء اثناء عطل الصيف الطويلة من الجامعة وكانت تعرف طريقته في العمل. فقد كان يستغل اقل خطأ ليجعل من مقترفه موضع سخرية وهزء. وكانت هي تكره هذا الاسلوب.ولكن هذا خشن من شخصيتها.هدرت سيلرة الاوستن بخفة وهو يتوجه بها نحو الشارع الريئسي, قالت جو:"انها سيارة جميلة" اجاب:"نعم,كانت لابي,انه لم يستعملها كثيرا,مؤخرا, ولكنه لم يقبل ان يبيعني اياها الا بعد ان تاكد من ان عمري كاف لجعله يثق بي." سألته:"وكم عمرك؟" اجاب:"ثلاث وثلاثون.ما رايك؟لقد ارد الرجل العجوز ان ينتظر عاما آخر.ذلك انه لم يمتلك سيارته الاوستن الاولى الا في الخامسة والثلاثين. ولكنني ارغمته على تسليمي اياها بعد ان هددته بشراء سيارة ب.ام دبليو." دخل في هذه ااثناء موقف سيارات مطعم جورج. قالت:"ما اشد فظاعة صنعك هذا"ولكن ضحكها لطف من كلماتها. قال:"حقا؟" وتلامست يدهما بينما كان يفك حزام امان السيارة من حولها.تلاقت انظارهما, وللحظة طويلة, ظنت جو ان الزمن قد توقف. قال"اريد ان اقبلك, ياجو غرانت." مست نبرات صوتهكل عصب في جسدها. غصت بريقها وهي تشعر بصعوبة في تنفسها يبنما كانت دقات قلبها تعلو.ليس من المفروض ان تقبل الفتيات الرجال في اول مرة يتقابلن فيها.كما انهن لاينبغي ان يعترفن برغبتهن في ذلك. رفعت حاجبها وهي ترد عليه قائلة:" وهل تحصل دائما على ماتريد , ياكلايتون تاكيراي؟" قال بثقة:"دائما" تملكها الاضطراب للعزيمة التي لمحتها في عينيه, وحاولت ان تضحك قائلة:" احقا ياسيد تاكيراي؟ لقد كنت اظن ان العادة تقضي بان تطعم الفتاة قبل ان تحقق هدفك." حدق فيها كلاي تاكيراي لحظة, ثم ترك الحزام من يده وهو يقول:" معك حق, طبعا. فهذا مجرد غذاء فقط, ولكنني سأعطيك فكرة عن موضوع العشاء." قبل ان تستطيع استجماع افكارها, كان قد فتح باب السيارة لها. ولم ينطقا بكلمة وهو يقودها الى داخل المطعم بيد شعرت بها تحرق ذراعها. وبنظرة من كلاي الى النادل سارع هذا يقودهما الى مائدة بجانب نافذة تطل على النهر. بقيت تحدق من النافذة الة ذلك المنظر او اي شيء يجعلها تتجنب النظر في ذلك الوجه المقابل لها. لقدامضت حياتها العملية بجانب الرجال, وكان من النادر ان يعوزها الامر الى كلمة واحدة معهم. ولكنها الان لاتجد شيئا تقوله . لكن مشكلة كهذه لم تكن تضايق كلاي الذي قال:" دعيني احاول ان اقرا افكارك مرة اخرى." واتسعت عينا جوالرماديتان.لم تكن الافكار التي تعتمل في ذهنها من النوع الذي تحب ان يقرأه. سالها ببشاشة:" البط؟" قالت في محاولة لتلطيف الجو:" هل هذا يعود الى التدريب ام الى قوة الملاحظة؟" اجاب مشيرا الى الطيور في النهر:"قوة الملاحظة. بدا لي اعجابك بها فتساءلت عما اذا كنت تودين واحد منها لغذائك ." وناولها قائمة الطعام متابعا قوله:" او ربما تريدين القاء نظرة على انوع الطعام هنا." عندما عاد النادل اليهما, كانت قد اختارت ماتريد بهدوء. سألها اتريدين أن تشربي شيئاً؟) أجابت : (عصير الأناناس من فضلك.) وأدلى كلاي بطلبه إلى النادل طالباً مياها معدنية لنفسه. سألته: ((لقد قلت انك قادم لتوك من كندا؟ ماذا كنت تعمل هناك ؟)) كانت تحاول أن تجعل جو الحديث طبيعياً. أجاب كنت أعمل. لقد كانت أمي كندية _فرنسية. وعندما توفيت، أدركت انني لااعرف عنها وعن وطنها سوى القليل ،فاردت ان اتعرف اللا كل ذلك.) عادت تساله : ( هل انت في عطلة الآن ؟) تردد برهة قبل ان يقول: " ليس تماماً . ولكنني ابحث عن اصدقائي القدامى . وعندما قالت موظفة الاستقبال في شركة ريدموند ان جو كان يعمل هنا ، كان من السهل علي ان اجرب حظي في ان اجده حيث يقوم البناء نظراً لقربه من منزلي." سالته وهي تحاول تجاهل تصاعد ضربات قلبها بعد إذ عملت ان منزله قريب :" منزلك؟" أجاب :" لقد اشتريت كوخاً على ضفاف النهر في ناحية كاملي عندما كنت هناك في عطلة الميلاد." حسنا ً. هذا شأنه هو، فما الذي دعاها لأن تثرثر فرحة كالاطفال قائلة: "انني اعشق تلك الناحية ،كاملي ، فهي ما زالت تمثل جمال الطبيعة الفطري الذي لم يلحقه التشويه." قال دون ان يلحظ ما اصابها من إثارة : " نعم ، ولهذا السبب اشتريته. وقد تبدو هذه حماقة ،إذ ان مكتبي في لندن وكان يناسبني اكثر لو اشتريت شقة هناك. ولكنني لم استطع مقاومة جمال ذلك الكوخ ، إنه قديم وفي حاجة الى اصلاحات كثيرة ولكنني اظن ذلك جزءاً من سحره . لقد انتهى ترميمه الآن، وهو صالح للسكن ولكنني مازلت مخيماً بجانبه حالياً. " سالته:" إذاً ،فانت لن تعود الى كندا؟" أجاب :" ليس في المستقبل المنظور غلى الأقل." لحظها بنظرة ثاقبة وهو يسألها هازلاً :" هل سرّك هذا ؟" انقذها مجيء النادل بالطعام ، من الارتباك في الجواب .ونظرت إلى سمك السلمون الذي وضعه امامها وقد شعرت بالاشمئزاز من لونه الوردي ، نفس اللون الذي كانت تدرك جيداً أنه يصبغ جبينها. قال وهو يقدم الطبق :" سلمون؟ انني مسرور جداً به." نظرت اليه لتكتشف انه لم يكن يسخر منها، كما ظنت، وان ابتسامته كانت للطعام. ازدردت ريقها ،وهي تتناول منه الطبق سائلة: "هل عملت مع أبي مدة طويلة؟" أجاب :" مانأول مدير مشاريع أعمل معه .التحقت بشركة ريدموند عقب تخرجي من الجامعة ووضعت تحت امرته في العمل ، وكنت بذلك محظوظاً جداً. لابد أنكِ تفتقدينه كثيراُ؟" قالت: "نعم ، إنني افتقده . لقد كنت اريده لكي........."وسكتت إذ كان ماتعنيه شاناً خاصاً لاتحب ان تشارك فيه احداً أو تتحدث فيه عالناً . أحس بانه دخل خطأ ، منطقة خطيرة من مشاعرها ، فغير الموضوع حيث أخذ يصف حياته في كندا، والبلاد نفسها، حتى بدأت اخيراً تسنرخي في مكانها. عندما قدمت القهوة ، اتكا في مجلسه إلى الخلف وأخذ ينظر إليها جاداً وهو يسألها :"ماهي خطتك المهنية للمستقبل ،ياجوانا ؟ إنك ، طبعاً ، لن تبقي في البناء؟" أجابت بزهو : " أنني أول امرأة استخدمتها شركة ريدموند كمهندسة بناء. وقد قررت ان اكون اول امرأة يستخدمونها مديرة للمشاريع." إذا كان قد شعر بالدهشة لجوابها هذا, فانه استطيع اخفاءها ، ولكن سؤاله التالي أوضح تفهماً منه لما يمكن ان ينطوي تحت هذا القرار من مشكلات . إذ قال: "اتظنين أن هذا العمل يترك مكاناً لحياة خاصة بك؟" أقرت قائلة:"ليس كثيراً" عاد يسألها :" ولكن ، ماذا بالنسبة إلى الزواج وإنشاء اسرة؟" أجابت :"إن الرجال يستطيعون القيام بالامرين في الوقت ذاته"لم تكن غريبة عن مثل هذه المناقشات . فقد اعتادت شقيقتها الكبرى دوماً ان تحاول اقناعها بأن تتخذ مهنة تقليدية، حتى انها عرضت مرة ان تسجل هذه المناقشات على آلة التسجيل كي تستمع اليها ولو مرة واحدة يوميا .. وذلك تجنبا لها للمضايقة ، ولكن عبثا . فمنذ وقت طويل توقفت هيثر عن محاولة تغيير اطباع شقيقتها ، وتكتفي حاليا بان تثابر على تقديم الثياب الجميلة لها ، من متجرها , لكي تحسن من مظهرها . اجاب كلاي : " هذا صحيح , ولكن الرجال لايحبون. وصعود السلالم ونزولها طيلة النهار ,بالنيبة اللا امرأة حامل يسبب مشكلات لها ,ألاتظنين هذا؟" لكن ,لما كانت جو غير مصممة على الزواج في المستقبل المنظور ,فقد تجاهلت السؤال ,والقت نظرة الى ساعتها قائلة:"يجب ان اعود , فقد تاخرت." نظر اليها كلاي لحظة, مفكراً , ولكنه لم يتابع الموضوع بل العكس , اشار الى النادل طالبا قائمة الحساب ثم سألها : " وبالنسبة إلى العشاء , أين سأوافيك بالسيارة " حملتها دهشتها لرغبته في ان يراها مرة اخرى , على ان تطلق ضحكة حائرة وهي تقول : " ليس ثمة حاجة لذلك يا كلاي . لقد كان لطفا منك ان تدعوني مرة الى الغذاء ... " مال الى الامام قائلا : " انني لم احضرك الى هنا لاكون لطيفا . انني مازلت اريد ان اقبلك , يا جو غرانت . لقد كنت انت من اشترط ذلك في البداية . طبعا , ربما غيرت رأيك ." " لكنني لم واحجمت جوانا عن انكارها وهي تقف لقد كان حوارا سخيفا ولم يكن في نيتها الاستمرار فيه . ونهض كلاي بدوره , بينما ابتسمت هي قائلة وهي تمد يدها اليه برزانة قائلة : " لااريد ان استعجلك .واشكرك على هذا الغذاء , انني لن ازعجك في توصيلي اذ يمكنني ان استقل سيارة اجرة الى عملي ." هز يدها صامتا , بينما اجتازت هي قاعة الطعام قاصدة مكتب الاستقبال لتستعمل الهاتف . واخذت تفتش في حقيبتها بضيق , وكان هو مستندا الى الجدار يراقبها , فقال : " ايمكنني ان اقدم اليك بعض القطع النقدية الصغيرة ؟ " قالت ببرود : " كلا , شكرا ." ولكن , لما لم تجد شيئا منها في حقيبتها , غيرت رايها , فقالت في حدة : " نعم ." قال برقة وهو يقدم اليها حفنة من قطع النقد الفضية : " لن تصل اية سيارة قبل عشر دقائق . لماذا تعارضين ان اوصلك بسيارتي ؟ " رفضت ان تبادله نظراته . وهي تختار قطعة العشرة بنسات , ثم طلبت بغضب رقم مركز التاكسي في الهاتف . كان الهاتف يرن في اذنيها : " مركز التاكسي , اية خدمة ؟ " قالت جو متجاهلة الراجل الواقف الى جانبها : " اريد سيارة الى مطعم جورج باسرع وقت ممكن." قالت الفتاة : " اننا مشغولون قليلا الآن , ولايمكننا تامين ذلك قبل عشرين دقيقة ." هتفت هي : " عشرون دقيقة ؟ " تناول كلاي السماعة من يدها وقال : " لا ضرورة لذلك . شكرا " ثم وضع السماعة قائلا لها : " لا يمكنني ان اجعلك تتاخرين عن العمل , خاصة بالنسبة الى وقتك في مواعيدك . واعدك بان تكوني آمنة معي , فلا تخافي ." قبل ان تقول شيئا , كان قد فتح الباب مسرعا بها نحو السيارة . جلست جو على المقعد الجلدي وهي تشعر بصعوبة في تنفسها . كانت دوما متمالكة الاعصاب في العمل ماعدا اثناء زيارة مدير المشاريع . ولكنها لا تدري لماذا فقدت سيطرتها على اعصابها عندما دخل كلاي تاكيراي مكتبها . ان كلمة ( آمنة ) غير صحيحة ابدا , ذلك انه كان رجلا مزعجا لدرجة خطيرة . لم يدر بينهما اي حديث وهما يخترقان الطريق الريفي . شعرت جو بالارتياح اخيرا , وهي ترى اعمال البناء تلوح لها من بعيد . ودخل كلاي الساحة ثم توقف . حاولت ان تهرب , ولكنه كان اسرع منها اذ قبض على يدها التي كانت تفك الحزام , ووضعها على صدره فشعرت بضربات قلبه الرتيبة وهو يقول لها : " والآن عليك ان تقرري , يا جو غرانت ." حدقت جو به وهي تقول : " ولكنك وعدت ." قال متحديا بلطف : " هل فعلت انا ذلك ؟ انني اذكر قولي لك وهو انك ستكونين آمنة . ولكنني لم احدد من اي شيء سأجعلك آمنة ." كيف يمكن لهاتين العينين المتسعتين ببراءة , ان تخفيا كل هذه المراوغة ؟ وقالت ساخطة : " في هذه الحالة , سانهي الامر معك , اذا كان ذلك لا يشكل لديك اي فرق ." تجاهلت حقيقة وجودهما حيث العمال يراقبونهما , اغمضت عينيها وانتظرت ان يقبلها . ولكن ضحكة خفيفة منه جعلتها تفتح عينيها . وكان كلاي يهز راسه وهو يميل ليفتح لها باب السيارة . وبقيت هي لحظة دون حراك وقد ساورها الارتباك تماما . وقال : " حسنا , هل ستبقين جالسة هنا طيلة بعد الظهر ؟ كنت اظنك في عجلة من امرك ؟" اجابت وهي تحاول جمع شتات نفسها : " نعم . اشكرك مرة اخرى على الغذاء." ترجلت من السيارة , ثم اسرعت في اتجاه مكتبها , رافضة ان تستسلم للدافع الذي كان يغريها بالنظر الى الخلف. لم يتصل هاتفيا بها الا يوم الخميس , وكان قد مضى اسبوع باكمله . عندما سمعت صوته الخفيض يقول : " جوانا ." توقف قلبها عن الخفقان. قالت بمثل لهجته : " كلاي؟" ولكنها اعترفت, باسى , ان الرجل يعرف جيدا كيف يلعب لعبته . لقد امضت طيلة الاسبوع على احر من الجمر , وهي تتوقع , كل لحظة , ان تراه يدخل الى ساحة البناء . وكان قلبها يقفز كلما وقعت انظارها على سيارة رمادية , ولكنه لم يات , فاخذت تشتم نفسها وتنعتها بكل انواع الحماقات لرفضها دعوته الى العشاء , لتعود فتنعت نفسها بشتى انواع الحماقات لرغبتها في التورط معه , ذلك انه كان بعيدا عن منالها تماما. اذ لا خبرة لديها في التصرف مع رجل كهذا. قال لها : " كيف حالك , يا جوانا ؟ " وامكنها ان تتصور النظرة الفكهة في عينيه تلك. اجابت هي : " انني بخير , شكرا . وانت.؟ هل تستمتع باجازتك؟" اجاب : "ليس كثيرا, فقد كنت في ميدلاند طيلة الاسبوع في عمل . ولكن يمكنك ان تنسيني مشقة كل ذلك . انني ادعوك الى العشاء هذه الليلة ." قالت متجنبة الرد : " لماذا انا ؟هل تزوجت جميع صديقاتك القديمات اثناء غيابك؟" لم تكن تريد ان تظهر تشوقها البالغ لهذه الدعوة . ضحك قائلا :" معظمهن .فقد مضى على ذلك سبع سنوات تقريبا . هل ستاتين؟" دار صراع في نفسها بين رغبتها وعقلها, لتتغلب الرغبة اخيرا بقولها :" بكل سرور

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا