خيوط المصير

الفصل الأول
هتفت سوزان:" انظري الى ذلك الرجل هناك!" فسألتها ماريان متذمرة:" أي رجل؟ وأين؟" فأجابت سوزان:" هاقد ذهب مرة أخرى. لقد كان يتبعني كيفما اتجهت انه يحدق بي و كأنه.. يعرفنيني أو كأنه يعرفني منذو زمن". وقالت ماريان : " ربما جذبه مظهرك هذه الليلة ياسوزان. ماذا حدث؟" وألقت سوزان على شقيقتها نظرة ازدراء، ولكن شعورها كان مختلفاً فقد شعرت بنفسها جميلة على غير العادة، ذلك أن شقيقتيها رائعتي الجمال، هما اللتان كانتا دوماً تفوزان بنصيب الأسد من اهتمام الجنس الآخر. ولكن هذه الليلة كانت مختلفة بالنسبة إلى الطريقة التي اجتذبت بها اهتمام الرجال. وأدركت ان هذا يعود جزيئاً إلى الرجل نفسه. فقد أثارت في نفسها عيناه السوداوان اللامعتان بنظراتهما ا لهادئة مشاعر عنيفة لم تألفها من قبل. ولكنها ما لبثت أن نظرت إلى الأمر من ناحية منطقية، فقالت:" أظن ان الأمر لايعدو تأثير الاضطراب من جهة، يا ماريان، ومن جهة أخرى الشعور بأن أختي و أخي يتزوجان الآن في نفس الوقت، كما انك أنت ستتزوجين قريباً، كل هذا كفيل بأن يجعل أي شيء يشعر بالدوار.. على كل حال فيما لو رأيته.." فأجابت ماريان:" ياللبلاهة..ثمة مئات من الرجال في هذا الحشد. صفيه لي." فحمر وجه سوزان وأجابت متكلفة عدم الاهتمام:" إنني فقط رأيت رأسه فوق الجموع.." " إنه، إذن طويل القامة. هل يكسو رأسه شعر ما؟". فتجاهلت سخرية أختها و أجابت قائلة:" إن شعره كثيف أسود ناعم جداً.وله ملامح هنغارية بادية القوة، قد لوحت الشمس بشرته بشكل رائع.. إن عينيه، في الحقيقة هما أبرز ما فيه." فقالت أختها:" علي إذن أن أبحث عن رجل له عينان!" فأجابت سوزان بهدوء:" عندما ترين عينيه تلك، تدركين ما أعني، إنهما.. إنك تعرفين مبلغ اتزاني، ومع هذا فقد شعرت بمبلغ سيطرتهما و غموضهما. إنهما حالمتان، ولكنني ، أحياناً، أشعر بأنهما تخترقان اعماقي.." فربتت ماريان على يدها وهي تقول:" كم من الأعين يملك ذلك المسكين؟" وتنهدت وهي ترمق أختها بعينيها المغوليتين اللتين تشابهان عيني أختها، لتستطرد قائلة:" اشربي ليتر من القهوة ثم استلقي بينما تلفين حول رأسك منشفة مبللة يا سوزان، فأنت مصابة بتشوش بالغ في ذهنك. يجب أن أخبر تانيا.. إنني لم أرك خارجة عن طورك بهذا الشكل قبل الآن." فضحكت سوزان وهي تحتج قائلة:" هذا سيحدث لك أنت أيضا إذا حاول شخص غريب أن يتسلل إلى عقلك ليعبث به. أظنه لابد أن يكون إما منوماً مغناطيسياً يمارس عمله على من هو غير واع لذلك، وإما قصير النظر لدرجة بالغة. وهو في الحالتين.. خطر." فارتسمت على شفتي ماريان ابتسامة عريضة وهي تقول:" هذا هو النوع الذي يعجبني. اذهبي و ابحثي عنه وامضي معه وقتاً ممتعاً." وعلى الفور، أخذت سوزان تجيل بنظرها، خلسة، في أنحاء قاعة الرقص تفتش عن هذا الغريب المرواغ، مصممة على العثور عليه ومن ثم ترضي فضولها، وعندما خاب أملها إذ لم يقع نظرها عليه في أي مكان، قررت، شاعرة بالقلق، انه من الأفضل أن تنسي ذلك الرجل، وتبدأ بالتفكير في الاجتماع الهام الذي عليها أن تحضره في اليوم التالي. وهكذا تركت حفلة الزفاف لتتمشي ببطء نحو الحديقة المغمورة بضوء القمر، وشعرت بالنسائم تتلاعب بشعرها الطويل فرفعت يدها تضغط عليه و تعيد تنظيمه بحركة آلية.وكانت تتألق أمامها البحيرة الكبيرة الممتدة نحو غابات أشجار الزان. وعندما اقتربت منها، إذا بها تشهق وهي ترى أمامها شبح رجل يقف أمام المياه المتألقة في ضوء القمر. وتعالت دقات قلبها، إنه الرجل الذي كانتا تتحدثان عنه هي و أختها لقد أمكنها تمييز ذلك الرأس القوي المسيطر حتى من الخلف، فقد حفر في ذاكرتها بأحرف لا تمحى. وساورها الانفعال رغم مافي ذلك من بعد عن المنطق.وشعرت بدافع يدفعها إلى عدم الظهور أمامه، فتورات بسرعة خلف فروع متدلية لشجرة ورد كانت أزهارها البالغة تتمايل مع النسيم، فأغرقتها بشذاها العبق بينما رفعت وجهها الجميل لترى ما الذي كان الرجل يقوم به. لاشيء كما يبدو، ولكن كان في ملامح وجهه الجانبية حزن و غضب.. أو، ربما يأس و قنوط كان يبدو في تكرار تقبض يديه و انبساطهما و كأنه يريد أن يضرب شخصاً ما، أن يرفسه بعنف أعمى.. عنف من النوع العميق المؤذي. ودون وعي منه، توتر جسمه و كأنه كان يستمع إلى حركة الحيوانات تحت الأشجار، أو حفيف أوراق شجر الزان، أو الطيور الليلية.. وشعرت بقلبها يثب وهي تسمع تغريد العندليب، والذي ذكرها على الفور بأمسيات الصيف الطويلة الرائعة في منزلها الذي تعشقه في موطنها ديفون. وسألها فجأة، وهو يستر إليها: لماذا تختبئين مني؟ إنها ليست طبيعتك المستقيمة المباشرة. أليس كذلك؟" وأطلقت سوزان شهقة مختنقة إزاء سؤاله الرقيق ذلك ان خطواتها لم تكن لتحدث صوتاً على العشب المنسق و مع ذلك، استدار بخفة على عقبيه لينظر إليها بين فروع شجرة الورد التي كانت تخفيها عن الأعين. وعاد يقول ساخراً:" هل أنت خائفة مني؟" فأجابت:" كلا بالطبع." ولكنها كانت خائفة فعلاً و خرجت من مخبئها بخجل شاعرة بالحماقة كذلك وهي تتابع:" لم أشأ أن أزعجك فقد بدوت و كأنك تعالج مشكلة و بحاجة إلى الانفراد بنفسك." فقال ببطء تلاشى التوتر من جسمه:" لقد كنت أفكر.. كذلك كنت أنتظر ظهورك." وأطلقت ضحكة اخترقت سكون الليل، ثم قالت بابتسامة عريضة:" ما أشد مهارتك. إنني لم ألتق قط من قبل بقارئ أفكار." وعندما رأت عبوسه أضافت تقول:" لا أرى أي سبب آخر يجعلك تعرف مسبقاً بقدومي إلى هنا." ولم يحاول أن يخفي اهتمامه بها، وشملها بنظرات اعجاب شعرت معها بوهن في جسمها فهو ليس بالرجل الذي يشتبك معه الشخص، ثم يخرج سليماً.. وقطبت حاجبيها، متراجعة عن تصوراتها، وكان هو يتابع شيئاً سبق وقاله:"..وهكذا، لم أكن بحاجة إلى كرة بلورية تريني انك ستتبعينني، فقد أوحيت إليك بما يكفي لكي أجعلك تفتشين عني خارج القاعة." وفتحت سوزان فمها دهشة و قالت:" الحقيقة هي أنه لم يكن لدي فكرة عن وجودك هنا. لقد خرجت أتمشى إذ لدي الكثير مما يشغل ذهني". فقاطعها بلهجة غامضة وقد ارتسمت على ملامحه ابتسامة عريضة:" أعلم ذلك و الآن. والآن.." وأضاف بغرور يثير الغيط:" أنت تريدينني أن أفكر في ذلك أنا أيضاً." حسناً، لا بد لهذا الرجل من صدمة عنيفة تخرجه عن غروره هذا، وقالت ببرود" ولماذا، أفعل أنا هذا؟". فأجاب هازلاً:" لأنك لم تستطيعي منع نفسك عن ذلك ." عند ذلك أخذ بالتقدم نحوها برشاقة طبيعية ، وكان يتحرك بحرية شأن شخص لم يتعود على جدران أربعة تحد من انطلاقه.،والذي لا يعترف بحدود في عالمه، وهذا شعور رائع بالحرية يجعله ينغمس فيها دون خجل . وقال بلطف:" لا تكلفي نفسك عناء المحاولة. فأنت ستضيعين وقتك، فليس بامكانك أن تمنعيني من أن أجعل من نفسي النقطة المركزية في حياتك، الرجل الذي هو أول ما تفكرين فيه عندما تستيقظين في الصباح، و الرجل الذي تحلمين به في الليل." و جعلها هذا تضحك، كان هذا في منتهى السخافة وقالت باشمئزاز:" إنني متأكدة من أن هذا هو موضوعك المفضل للحديث. ولكنني أقترح عليك أن تجرب حظك في مكان آخر، فليس عندي وقت للرجال الذين يعتقد الواحد منهم أنه أدونيس هذا العصر." فقال:" بل ستجدين الوقت لذلك." وشعرت بأرائحة زهرة بين أصابعها، وتصاعد إلى خياشيمها الشذا العبق، لتكتشف انها قد سحقت هذا البرعم دون وعي منها، وأطلق الغريب ضحكة خافتة، وكأنما وجد في غياب ذهنها ما يشجعه، فقطبت جبينها، وهي تحاول أن تتمالك نفسها من الارتجاف الذي اعترى جسدها وهو يقترب منها أكثر. ودون أي اهتمام بالعرف الاجتماعي، وقف شبه ملاصق لها وقد سقط ضوء القمر الفضي على ملامحه الارسقراطية. وتسارعت أنفاس سوزان وهي تشعر بالخوف منه. وأخيراً، وجدت نفسها توجه إليه ذلك السؤال الذي حام حول شفتيها طويلاً:" ولكن.. من تكون أنت؟" فتمتم قائلاً بصوت رقيق جذاب:" لازلو" وتناول يدها يرفعها بيده وهو يحني رأسه ويقبلها ثم رمقها بنظرة من تحت حاجبيه الأسودين وقد لمعت عيناه بسخرية وهو يقول :" إذاشئت فأنا هو الجواب لكل تمنياتك." وجذبت يدها من يده باضطراب، فهي لا تريد غزله هذا الذي يرسل في نفسها الضيق، وقالت وهي ترفع كتفها بعدم اكتراث:" إن تمنياتي هي السلام على الأرض، ومدير بنك أصلع." فقال مبتسماً:" ربما أكون أنا ذلك أصلع". فضحك مستمعاً ثم أرخى عينيه، كانت ملامحه سلافية أصلية وكذلك حاجباه الأسودان المستقيمان، وشعرت هي بنفسها تهتز لسبب لم تدركه. وفجأة شعرت بوهن في ساقيها. ومدت يدها الرقيقة الناعمة تستند إلى جدار منخفض خلفها. ورأى هو هذا فبدا عليه السرور بينما أطلقت هي ضحكة صغيرة وهي تقول معتذرة:" نعم، ربما تكون أنت ." حاولت أن تبتز الحديث و تهرب..كلا بل تمشي ببساطة تعود إلى قاعة الرقص، كانت الألحان الحالمة العذبة تتهادي من تلك القاعة حيث شقيقتاها لابد ترقصان. تانيا مع عريسها، وماريان مع خطيبها، وقد حان الوقت لتلحق بهما قبل أن تؤثر هذه الليلة الشاعرية هنا على عقلها. وقالت:" إن رقص المتتابع، أتعبني".وانباتها ملامحه بأنه لم يصدق هذا، وأضافت:" وأنا بحاجة إلى فترة هادئة أستعيد بها قواي، ولهذا إذا لم يكن لديك مانع، يريد البقاء وحدي ،ربما يمكنك أن تعود إلى القاعة الرقص لترقص على تلك الأنغام الغجرية مع من تقدر". فأجاب بسخرية لاذعة:" إنها ليست موسيقى غجرية، ألا ترين أنها تفتقر إلى المشاعر إنها هنغارية يشترك معها ضجيج السائحين". ومادام غير مستعد لأن يتزحزح، ابتدأت هي تمشي على ضفة البحيرة.. وقالت بضيق محاولة أن تخترق هذا الصمت المتوتر بأي شكل:" ظننت ان الموسيقيين جميعاً من الغجر لأنهم يرتدون ملابس غجرية." فأجاب:" وها أنت ذي ترتدين ثيابا كأية فتاة برئية، ولكن أية أسرار تختفي تحت هذا الثوب الإيطالي الطراز؟ وأية خطة جهنمية أحلم بها بينما أسير بجانبك مستمتعا بجمال غير عادي؟ وأية أكاذيب نحن الاثنين على الاستعدادللإدلاء بها لكي نجنب أنفسنا الأذى أو نظهر تصورنا للكيفية التي ننظر فيها إلى العالم". لم يكن ما يدور بينهما حديثاً عادياً، لقد بدا لها و كأنه ينذرها، تقريبا بنواياه، فخافت من التورط معه و قررت الأفضل هو أن تتجاهل ملاحظاته غير العادية تلك. وقالت بصوت أجش:" إن الموسيقى تبدو لي حقيقية." وأجفلت إزاء ابتسامة الساخرة التي ارتسمت على شفتيه بمكر، وكأنه يلومها على هذا الجبن، ليقول بعد ذلك برقة:" إن موسيقى الغجر الحقيقية لا يسمعها الغرباء أبداً، هذا إلى انها لابد ان تكون في الهواء الطلق لكي تكون ممتلئة حياة، فالجدران تخنق صداها". وأخذت سوزان تفكر في هذا بهدوء وهما يسيران بصمت فوق العشب يتهاديان في الحديقة الخفيفة الإضاءة. وقالت ببطء:" نعم، إنها بين الجدران، تبدو و كأنها أوبريت نمساوية، أما هنا فهي.." وترددت وقد فقدت شجاعتها إزاء همهمة الاستحسان التي صدرت عنه. وقال يستحثها بلهجة أثارت ارتباكها:" نعم؟" فأنهت حديثها قائلة بلهجة ملتوية:" إن المسألة هي امتزاجها بالهواء". قال بصوت أجش:" لو كان ثمة فرصة لتسللت هذه الموسيقى إلى أعماقنا و جعلتنا عاجزين إزاء دعوتها لما يكمن فينا جميعا من حماس و عشق." وحدثت نفسها أنه يشعر هو أيضا بذلك، ولم تكن تريده أن يفقد السيطرة على مشاعره، ورفعت كتفها مظهرة عدم الاكتراث وهي تقول متظاهرة بالمزاح:" أظنها لابد ان تذهب إلى مكان ما". ولكنها شعرت بالاضطراب لأن امتزاج الموسيقى بمشاعر لازلو كان يؤثر عليها هي نفسها في هذه الحديقة فيصل إلى المشاعر تفضل هي أن تبقى خامدة. لقد مر النهار بأكمله كأسطورة خرافية، فالكل مشغول بحفلة زفاف شقيقتها و أخيها جون، النزهة الرائعة في أملاك القصر ، المأدبة الرائعة المتألقة، ثم بعد ذلك قاعة الرقص، فلاعجب إذن أن تترنح قدماها فوق الأرض كلا،لا يمكن هذا، فهي المفروض فيها أنها العاقلة و الواقعية الوحيدة في الأسرة وقد حان الوقت لتستقر على أرض ثابتة مرة أخرى. وقالت باقضاب وهي تقف في الطريق مظهرة الضيق:" أرجو أن تذهب، فأنا أحب الانفراد بنفسي". فتمتم يستفزها:" أتواجهين التحدي ولا تقبلينه؟" فزمت شفتيها وقالت بصلابة لم تشعر بها تقريبا:" انا لست متحدية، اسمع إذا كنت مصمماً على أن تمنعني من الانفراد بنفسي، فإنني أنبهك إلى حقيقة، قرابتي لصاحب هذه الأملاك ، فإنني أحق منك بهذه البقعة من الأرض ". ولوحت بيدها على نحو مبهم نحو بساتين البرتقال حيث يعبق شذاها. وأجاب ببطء وقد تحجرت ملامحه:" لو كنت مكانك لما عولت على هذا". وأمعنت فيه النظر بعينيها العسليتين الكبيرتان وهي تقول معنفة:" لقد تزوجت شقيقتي من الكونت اسطفان هوزار اليوم ، وهذه هي ممتلكاته و أخي هو مدير فندق قصر هوزار..". فقال :" إنني مقتنع بكون علاقتك متينة بهذه الأرض". وأدهشهاا أن ترى فمه يتوتر وقد غشت عينيه مسحة ألم ، وهو يتابع قائلاً:" ومن الطبيعي أن تتصوري أن حقي في الوجود هنا هو أقل من حقك". قال هذا و كأنه ليس حقيقياً، وهو مستحيل طبعاً، وتساءلت عما تراه يحاول أن يقول فإن ثمة شيء في سلوكه، وكأن تحت مظهره الدمث ذاك استياء من اسطفان لامتلاكه القصر، ولم تعرف ما الذي أوحى إليها بهذا الشعور ولكن ربما هو ذلك الازدراء البادي في التواء شفتيه عندما ذكرت اسم اسطفان، وذكر حقها في الوجود هناو النظرة المتملكة التي تبدو في عينيه كلما نظر إلى الأراضي هذه ، وارتجفت وهي ترى عينيه مصوبتين نحوها، باردتين قاسيتين، فتمالكت نفسها بسرعة وهي تقول متهكمة:" حسناً، لا أعقد انك سبق و اشتريت هذه الأراضي من صهري يوم عرسه". فأجاب وقد استحالت رقة صوته إلى خشونة:" لو كنت اشتريت لكان هو الآن و شقيقتك دون بيت وكذلك والدته الكونتيسة التعسة". وفكرت فجأة في أنه يكرههم جميعاً ، وشحب وجهها لهذا ولكن لماذا؟ وسألته بحذر:" و ماالذي تعرفه عنهم؟". فقاطعها متجاهلاً أسئلتها وهو ينظر إليها عابساً:" هل تنوين الإقامة هنا؟ لتكوّنوا أسرة كبير سعيدة؟". فأجابت باقضاب:" كلا". كانت الحاجة إلى معرفة المزيد عن هذا الرجل، و تهذيبها الأصيل يدفعانها إلى أن تضيف قائلة:" ان هنغاريا بالغة الجمال وشعبها رائع، وقد استمتعت بوجودي هنا إلى حد بالغ، ولكنني وشعبها رائع وقد استمتعت بوجودي هنا إلى حد بالغ، ولكنني أعشق منزلي في ديفون إلى حد لا يمكنني تركه بصورة دائمة". وشردت نظراتها حالمة وقد تلاشى القلق من ملامحها، لتنقلها إلى هناك حيث التلال الخضراء و الغابات القديمة و منازل قريتها وايكوب الحجرية التي يرفرف فوقها الهدوء و السلام، كلا إنها لن تقبل الاستقرار في أي مكان آخر أبداً ..أبداً. قال وهو ينظر إليها بعينين حادتين:" ثم ان لغتك الهنغارية جيدة إلى درجة غير عادية كما ان لكنتك غير سيئة هي أيضاً". فقالت شاعرة بالسرور لهذا المديح:" شكراً". وابتدأت تدور حوله راجعة ليلحق هو بها على الفور مقترباً منها، بينما استطردت تقول:" لقد قمت بدورة تعلمت فيها هذه اللغة إنني احتاجها في عملي الجديد، وقد تعلمت أيضاً اللغة الروسية في المدرسة وهذا سيساعدني كذلك، هذا إلى واقع أن أمي كانت هنغارية". ولم تبد عليه الدهشة، مما خيب أملها نوعا ما، فقد كانت مزهوة بالسرعة التي تمكنت بها من تعلم هذه اللغة المعروفة بصعوبتها.. وقال بهدوء:" ربما جذورك هي أقوى من نشأتك، ذلك ان دمنا له خاصية لا يمكن أن يغفلها المرء". فنظرت إليه سوزان وقد أدهشتها تلك الرجفة العاطفية في صوته ولكنه تابع يقول :" وها أنت تتدربين على اللغة بالتحدث مع الضيوف الهنغاريين أثناء هذا العرس المزدوج، وهكذا تغمر السعادة هذه الأسرة". ونطقه للجملة الأخيرة جعلت جسدها يتصلب، فقد ظهر في لهجته وكأنه يتمنى لهم الشقاء.. ارتجفت وهي تقول:" لقد تعبنا جميعا للوصول إلى ما نحن فيه، فليس هناك تقدم دون جهد". فأجاب بجفاء:" هذا صحيح، فقد بذلت أنا جهداً كبيراً حتى تمكنت من التطفل على حفلة العرس هذه". فتوقفت عن السير وقد استبدت بها الحيرة وهي تسأله: " هل أنت متطفل؟" إنه لايبدو بهذه الصفة، فهو بهذه الملابس يبدو أنيقاً يحسده عليه معظم الرجال، وهذا يجعله من غير المعقول أن يقوم بهذا العمل وفجأة خطر على فكرها أن يكون عدوا غير مدعو جاء ليتسبب في إحداث مشكلة. وسألته بحدة:" لماذا جئت إلى حفلة العرس؟" فأجاب وقد ضاقت عيناه:" آه، إنه الطعام و المرح و مقابلة الناس". ولمعت عيناه اللتان كانتا تراقبان ملامحها وكل حركة تقوم بها بكل دقة، بينما كان يتابع قائلاً:" ثم انه كان يهمني أن أرى هذه الأملاك و صاحبها". وتصاعدت خفقات قلبها، لقد تضمنت لهجته هذه التي تنضح بالمرارة، معاني جمة، سألته بصوت خشن وقد اتسعت عيناها قلقاً:" هل جئت لإحداث المشاكل؟" فأجاب بصوت فاتر خال من التعبير:" لقد سبق و عشت هنا". وشهقت وهي تسأله:" في القصر؟" فأجاب باختصار:" لقد ولدت هنا." فقالت:" ولدت هنا؟ هذا غريب، لا عجب إذن أن تشعر بالرغبة في التطفل و القيام برحلة الذكريات العاطفية هذه" وتجاهلت الالتواء الساخر في شفته التي تعني أنه لايعرف معنى الذكريات العاطفية، وأخذت تفكر بسرعة، مادامت الكونتيسة قد أقامت في القصر طيلة حياتها.. وليس لها أقارب أحياء، فلا يمكن أن يكون هذا ابن أخ أو ابن أخت. وعادت تسأله:" هل كانت أمك ضيفة هنا عندما كانت حاملاً بك أو ما أشبه؟" لقد كانت تعلم أن هنغاريا لابد أنها كانت تحت حكم روسيا في الوقت الذي ولد هو فيه، ولابد أن امه كانت صديقة للكونتيسة أو لزوج الكونتيسة البغيض، دون اهتمام منها بوضع حاجز بينها وبينه.. ووفقت، ثم رفعت نظرها إليه، تبحث في ملامحه عن جواب هذه المسائلة الغامضة، فهي لا يمكن أن تشعر بالراحة قبل أن تعرف هذا الجواب. ولمعت عيناه السوداوان وهو يجيب:" لقد كان أبي يعيش في القصر، وقد خرجت أنا حين كنت ماأزال طفلاًرضيعاً". ولامست يده رأسها، فجفلت و تراجعت إلى الخلف، بينما تابع هو قائلاً:" إن ضوء القمر يجعل شعرك يبدو كالحرير الأسود الخالص". وكان بحديثه هذا، يحول مجرى الحديث من الواقع إلى الغزل. وسألته بجمود:" أحقاً؟ لقد علمت انك لابد أن تكون قصير النظر، ذلك أن لون شعري في ضوء النهار هو كستنائي". أجاب بلطف:" إنني لست قصير النظر، فان كل ما يتعلق بصحتي هو سيلم مئة بالمئة، أما قوتي فهي ستة على ستة.." وازدردت سوزان ريقها بعد ان ادركت ما يعنيه بذلك، وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة لردة الفعل التي ظهرت عليها، وهو يتابع قائلاً:" إن ما أريد قوله هو ان شعرك هو أجمل شعر رأيته في حياتي، كما ان ملامحك في غاية الشفافية وكذلك عيناك.." فقاطعته وقد ثائر ثائرها لهذا النفاق الذي يغلف كلماته:" عيناي تخجل منهما النجوم، كفى غزلاً". والتقت عيناها بعينيه، لحظة قرأت فيهما الحقيقة، فهذا لم يكن غزلاً عارضاً وانما هو فعلاً يراها جذابة. ورفعت رأسها إليه فتماوج شعرها الكثيف حول كتفيها وهي تقول:" أرجوك أن تكف عن هذا الكلام". فأجاب بلهجة واثقة:" إن تقدمنا سيكون أبعد من ذلك.. ثم ان علي أن أعترف بأنني شعرت بالراحة عندما رأيتك تفسرين اهتمامي بك بمثل هذه الرقة، فقد وفرت علي عشرين دقيقة على الأقل من الحديث و الاقناع". قالت غاضبة:" يالك من مغرور"ولم تستطع مقاومة نظراته، ومضت لحظة قبل أن تستطيع تمالك نفسها، إلى ماذا تراه يهدف؟ وقالت بحدة:" ليس ثمة ما يحتاج إلى كثير من التفسير، فإن إشاراتك كانت من القوة بحيث يدهشني أن لم تلتقطها محطات الإذاعة، إنني أعلم ان ثمة تقليداً في الأعراس وهو أن تقوم الوصيفات العروس بمنح التسلية الى المدعوين التسلية ، فإذا كنت تسعى إلى التسلية في هذا المساء، فعليك أن تتسل بأشعة ضوء القمر". فقال بلطف متجاهلاً تعنيفها هذا:" لا أظن ذلك، فأنت واعية تماماً لما بيننا". فردت بحدة قائلة:" نعم، إن ما بيننا مسافة قصيرة و أنا أنوي أن أجعلها نصف ميل". فقال آمراً و عيناه في عينيها:" بل ابقي مكانك، ودعيني أشرح لك الخطط التي وضعتها لأجلك". فتمتمت قائلة:" اشرح ذلك للسمك في البحيرة". وابتعدت عنه بازدراء ولكن الضيق تملكها وهي تشعر أن عليها أن تقطع المسافة التي تقيدها إلى هذا المكان، وأخذت توسع خطاها، عابسة الوجه. كان يضحك وهو يناديها قائلاً:" إننا سنجتمع مرة أخرى، يا سوزان يمكنك أن تثقي بهذا". كانت توسع الخطى، غاضبة في الباحة الخضراء، وكانت تعلم أنه يراقبها، وتجمد ظهرها و كتفاها تحت وطأة نظراته، وأحست لدى ضحكته تلك، بنذير خطرما، و تعثرت خطواتها فصرت بأسنانها وهي تتابع طريقها بسرعة إلى أن تقطعت أنفاسها و أوشكت على الإغماء و قد غمرها العرق في تلك الليلة الدافئة

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا