خيط الرماد

الفصل الاول
صورة يائسة
دخلت دالاس الى الشقة وهي تلهو بمفتاحها حاملة حقيبتها وبعض الدفاتر المدرسية التي أتت بها لتصححها وتركتها عند مدخل الشقة الصغيرة. ثم نادت وهي تفتح باب الردهة الداخلية: " جين لقد عدت, هل أنت هنا؟ " الا أن أحدا لم يجب, ورمقت دالاس ساعتها متسائلة كانت الساعة السادسة الا ربعا وبما أن المكتب حيث تعمل جاين كان ينتهي العمل فيه الساعة الخامسة. فالامر لا يمكن أن يعني سوى شئ واحد. لابد أن يكون ( باريس ستافروس) آتيا بها الى المنزل وقد اطالا طريق العودة. تنهدت ونزعت معطفها المصنوع من جلد الغنم ورمته تعبة على الكرسي ثم ذهبت الى المطبخ تحضر وجبة العشاء. كان وقع تساقط الدسم من قطعة اللحم تحت المشواه مثيرا للشهية. دخلت جين الى الردهة وهي تهمهم مزهوة. فاقتربت دالاس من باب المطبخ ونظرت الى اختها نظرة تساؤل قائلة: " لقد تأخرت " أومأت جين برأسها وقالت: " باريس اوصلني الى المنزل وتوقفنا في طريقنا عند منزل (جو) " "هذا ما ظننت. هل ستخرجين هذا المساء؟ " كانت جين قد دخلت الى غرفة النوم. والشقة التي تسكنانها عبارة عن غرفة نوم واحدة تتقاسمانها. فارتدت الى باب غرفة النوم ساخرة: " نعم سأخرج, لماذا تسألين؟ هل لديك اعتراضات؟ " ردت دالاس متململة: " الأعتراضات المعروفة فقط " وانتظرت حدوث الأنفجار, وكالعادة لم يخب ظنها. اندفعت جين الى المطبخ صارخة: " انك تثيرين أعصابي يا دالاس! انها المرة الثالثة هذا الأسبوع. لن تصدقي بسهولة أن باريس يحبني, هلا فعلت؟ " " بصراحة...لا. قد أكون غبية ومحافظة يا جين, الا أنه لا يمكنني أن أرى الأبن الوحيد لصاحب اسطول ستافروس العالمي للشحن البحري يقع في غرام...ضاربة على الآلة الكاتبة مثلك. وفي الأخص اذا كانت احدى الموظفات في مكتب شركة ابيه الفرعي في لندن" تخضبت وجنتا جين وقالت: " بماذا كنت ستنعتينني؟ بأني مخلوق تافه ربما؟ " هزت دالاس كتفيها قائلة: " انها الحقيقة أليس كذلك؟ كوني صادقة مع نفسك يا جين ولو لمرة واحدة. لست آية جمال وليس لديك مال بأسمك. ولم يهتم بك عندما يكون في وسعه اختيار أي فتاة تحلو له سواء هنا أو في وطنه اليونان. انه يلهو معك فقط يا جين, وكلما ايقنت ذلك في سرعة كان ذلك أفضل لك. فما أن يملك حتى ينتهي الأمر. أنا لا أريد أن يصيبك أذى, هذا كل ما في الأمر" قالت جين في كآبة: " لديك طريقة غريبة في تفسير الأمور " ثم استطردت: " أنا أدرك أن كل ما تقولينه صحيح بقدر ما تتطابق الوقائع والشخصيات الا أن باريس يحبني...لقد قال لي ذلك وأنا أصدقه " زفرت دالاس وهي تنظر الى السماء فتابعت جين قائلة: "يا الهي, الواقع أني أدرك ما أقول. وفي أي حال كيف تعلمين ان كان يحبني أم لا؟ لا أعتقد أنك تعرفين ما الحب. ( تشارلز) في أي حال بالكاد يمثل صورة العاشق الكامل لأحد! " تمالكت دالاس نفسها في صعوبة واجابت: " لابد اني ادرى منك بعض الشئ. وعلى رغم أنك لا تحبي تشارلز, فأنا أجد في حبه لي مرادي " فركت جين أنفها بعنف: "من الممكن أن تخدعي نفسك وتصدقي أي شئ...وبما أنك لم تصادقي أحدا مذ عرفت شارلز, فان تجربتك مثلي...محدودة " وتنهدت دالاس قائلة: "حسنا, قد لا أكون أدرى منك الا أن منطقي الواعي يخبرني بأن باريس لن يبحث أمور الزواج وخاتم الزفاف معك " " إن باريس يتصرف أكبر من سنه بكثير " " هذا أمر يمكنني تصديقه....وهذا أمر مختلف فهو مجرب أما أنت فلا " وتناولت دالاس حقيبتها لتخرج علبة السكائر وتشعل واحدة ثم تابعت: " في أي حال لن يقضي سوى ستة أشهر في مكتب لندن, أليس كذلك؟ " ثم أكملت كلامها قائلة: "متى تنتهي فترة اقامته؟ عما قريب أعتقد, ماذا سيحدث بعدها؟ " أدارت جين ظهرها لدالاس ثم رمقتها بنظرة من فوق كتفها قائلة: " لديه ثمانية أسابيع آخرى بعد, وكونه يتمرس في العمل شيئا فشيئا فهذه حقيقة يجب أن تبرهن لك انه ليس مجرد شاب مستهتر " " بتحريض من والده بلا شك " اجابت دالاس وهي تدخن سيكارتها مسترخية وصاحت جين قائلة: " لن تحاولي أن تفهمي أبدا. انك راضية عن نفسك هكذا. واثقة من معرفتك لكل الأمور " أجابت دالاس: " لست واثقة من شئ الآن " " بدأت تصيرين كتشارلز تماما. أنت في الثانية والعشرين من العمر الا أنك تتصرفين كما لو كنت أكبر بخمسة عشر عاما " صاحت دالاس: " اياك أن تنتقدي تشارلز. أنه على الأقل رجل شريف ومخلص " كان سهلا على جين قول أي شئ الا أنها لم تكن تعلم أن والدهما كان اوصى دالاس الاعتناء بشقيقتها دائما لأنها كانت تشبه والدتها كثيرا. وهذه الأخيرة هربت مع رجل آخر عندما كانت دالاس في العاشرة من عمرها. ولم تعرف جين وهي في الخامسة الكثير عن الأمر الا أن دالاس شعرت بالخيبة والألم اللذين عانى منهما والدهما والذين لم يفارقاه أبدا. كانوالدها عالم آثار يمضي أسابيع عديدة بعيدا عن زوجته وعائلته في أعمال الحفريات. وكانت دالاس تهتم دائما بسماع اخباره حين عودته الا أن والدتها ملت حياة الوحدة التي اجبرت عليها ووجدت رجلا في وسعه أن يؤمن لها كل التسلية التي كانت تتمناها. ومنذ الطلاق لم يتسن لهم رؤيتها. فهي تعيش في أمريكا أما اتصالتهما فأقتصرت على بطاقات المناسبات. وهكذا شعرت دالاس بنفسها مسؤولة أكثر وأكثر عن أختها الصغيرة ولم يكن هناك أحد لتلتفت اليه سوى تشارلز. وترددت في الأمر لانه لم يكن يتفق مع جين وكانت بين الأثنين عداوة مكشوفة. لهذا السبب اجلتدالاس زواجهما, اذ انها كانت تتحسب لرد فعل جاين. كان تشارلز يعيش في مايدن هيد مع والدته التي تمتلك منزلا كبيرا هناك, وبما انها كانت شبه مقعدة واسيرة كرسي المعاقين في صورة مستديمة فقد كان من المقرر أن يقيم تشارلز ودالاس معها بعد زواجهما, لاسيما أن دالاس كانت تنسجم مع السيدة جينينغز. الا أن جاين لعوب جدا ولا تأبه لمشاعر الآخرين الى درجة انها لم يكن في وسعها أنتتفق وعائلة جينينغز لفترة طويلة. بعد أن خرجت جين ذلك المساء, ذهبت دالاس الى غرفة النوم لتبدل ثيابها قبل وصول تشارلز الذي كان قادما ليمضي السهرة في الشقة, فهو مولع بالتلفزيون, وما دام في امكانه مشاهدة برامجه المفضلة فلا مانع لديه من البقاء. انزعجت بعض الشئ عندما شردت أفكارها نحو أمور أخرى قالتها جين. لم تقلقها علاقتها بتشارلز ابدا قبل ذلك. ولكن هل أسباب قبولها الفوري بتشارلز آنذاك كانت ممتزجة برغبة في الطمأنينة والاعتماد على شخص ما؟ دفعت تلك الأفكار بعيدا عنها بتصميم, اذ بدأت تصبح خيالية ولن تسمح لتصرف جاين أن يؤثر على أفكارها كثيرا. هذا غير مجد! انه ببساطة غير مجد! بعد أن خلعت ثيابها الداخلية سارت الى المكان الصغير الذي كانتا تسميناه حماما. استحمت بسرعة ثم لبست رداء صوفيا أخضر دافئ ظهرت عليه بصمات الايام, ثم عقدت شعرها. فتشارلز يحبها هكذا وهو كل ما يهم. وصل تشارلز الساعة الثامنة تماما. كان رجلا معتدل القامة والبنية يميل قليلا نحو البدانة. عرف الفتاتين منذ طفولتهما فقد كان صديقا لوالدهما, وعندما توفي والدهما فجأة كان مسؤولا عن ايجاد شقة لهما وبيع منزلهما في ايرل كورت الذي كان أكبر وأكثر كلفة من أن تتدبرا شأنه بمفردهما. عانق تشارلز دالاس بحرارة قائلا: " مرحبا حبيبتي كيف حالك؟ تبدين متعبة قليلا هذا المساء " هزت دالاس كتفيها: " أوه, الا تستطيع أن تستنتج يا تشارلز؟ لقد كانت لـي جولة آخـرى مـع جين " " في موضوع باريس ستافروس؟ " " وماذا إذا؟ " " حسنا أتمنى أن لا تفعلي ذلك يا دالاس فهي ليست طفلة على رغم كل شئ, عاجلا أو اجلا عليها أن تتعلم ان ليس كل التفاحات على الغصن حلوة " قالت دالاس متنهدة: " لا تبالغ. جين هي مسؤوليتي في كل حال, ولا أستطيع أن ادعها تهدم حياتها " " أنت كالعادة لا تفهمين الوضع, فباريس ستافروس عمره ثمانية عشر عاما فقط ولم يسمح له الوقت ليبني سمعة لنفسه! من يسمعك تتكلمين عنه يظن أنه شاب لاه مستهتر " غالبت دالاس ابتسامة لما سمعته, واشعلت سيكارة وانتظرت صراخ تشارلز: " دالاس. أيجب أن تدخني بهذه الكثرة؟ " وهزت رأسها قائلة: " لم لا؟ فأنـا لا أدخن طـوال النهار واستحـق بعض الاستـرخاء, أليس كذلك؟ " تحامل تشارلز على نفسه ولم يجب, وبعد أن جلس قبالة التلفزيون قال: " هل هناك أي برامج مثيرة هذا المساء؟ " " هناك مسلسل التحري الذي تستمتع به " نظرت دالاس الى تشارلز وقالت له بتردد: " تشارلز...لم لا نذهب الى السنما عوضا. . . " استدار تشارلز وقال عابسا: " ولكننا لا نخرج أيام الثلاثاء " " أوه, حسنا, حسنا " أرخت دالاس نفسها على الاريكة قربه وقالت: " هل كان نهارك حافلا؟ " " بعض الشئ. آه انظري يا دالاس, البرنامج سيبدأ الآن! " قالت: " تشارلز...لا أعتقد أن العيش مع أمك بعد زواجنا هو فكرة جيدة في نهاية المطاف " لم يعرها تشارلز انتباها كافيا فقد كان مستغرقا في مشاهدة التلفزيون. فلكزته دالاس: " هل سمعت ما قلت؟ " " ماذا, أه. لا ماذا قلت؟ الا تستطيعين الأنتظار حتى أنتهاء البرنامج ؟ " احتدت دالاس: " كلا, لا أستطيع. أنا...أنا لا أريد أن اعيش مع والدتك بعد زواجنا " نظر تشارلز إليها مندهشا: " ماذا؟ لما لا؟ " بلعت دالاس ريقها بصعوبة: " لأنك تصير مثلها أكثر وأكثر. انك تتصرف وكأنك أكبر سنا. بحق السماء يا تشارلز أحيانا تتصرف وكأنك أكبر بعشرين عاما " أصبح وجه تشارلز شديد الاحمرار, وتضايقت دالاس من ذلك لكن الأمر كان يجب بحثه. " دالاس, هل فقدت صوابك؟ ان البيت في مايدن هيد كبير جدا لتسكنه أمي وحدها. هذا اضافة الى أن شراء بيت أخر هدر للمال " أطفأت دالاس سيكارتها وقالت: " لماذا؟ أليس في مقدورك شراء بيت؟ " فرك تشارلز يديه قائلا: " في استطاعتي شراء بيت آخر يا دالاس, ولكن ليس في نيتي تبديد المال من دون سبب " هزت دالاس كتفيها: " حسنا اذا. ماذا لو أخبرتك ان هذه هي شروطي للزواج بك؟ " فغر تشارلز فمه, ثم أطبقه في سرعة وسألها قائلا " لا يمكن أن تكوني جادة يا دالاس, فأنت لا تبدين كما عهدتك! " " كيف تعلم كيف حالي؟ فأنت لا تزعج نفسك في معرفة ذلك. انك تجلس وتحدك في تلفزيوني طوال المساء, ثم تتناول عشاءك وتنصرف " " دالاس! " " حسنا, انها الحقيقة. لابد اني كنت مغمضة العينين قبل اليوم, ولكني اليوم أرى حقيقة الأشياء, الأمر سيئ هكذا يا تشارلز, نحن لانزال في مقتبل العمر, ونستحق بعض الحرية وبعض الوقت نقضيه معنا بمفردنا, واذا عشنا مع والدتك فستكون حولنا دائما, تطلب منك أن تساعدها في الذهاب الى الفراش أوالذهاب الى الحمام أو في ارتداء ثيابها! الآمر سئ نحن في حاجة الى منزل خاص بنا, أنا مستعدة للاستمرار في العمل الى حين يصبح لدينا كل ما نحتاجه " " بعد زواجنا, لن تعملي, لا يمكن أن تفكري بشئ كهذا, دالاس حبيبتي كوني عاقلة, ان المنزل في مايدن هيد كبير جدا. اذا رغبت فلا داعي أن نعيش مع والدتي, يمكننا أن نقسم البيت الى شقتين " ترددت دالاس وقد أشكل عليها في ما اذا كانت غير واقعية أو أن ذلك كله كانت سببه جين. " فكري في الأمر اذا " قالها تشارلز ثم تابع كلامه: " سينفطر قلب أمي اذا اعتقدت بأنها تخلق لنا المتاعب " وتساءلت دالاس إذا كان الأمر هكذا فعلا فالسيدة جينينغز كانت متعلقة بأبنها لدرجة يصعب معها أن تتركه يغادرها في سهولة. " حسنا " قالتها عندئذ ومال الى الأمام ليطفئ التلفزيون ثم عاينها بنظرة لطيفة وقال: " اقتربي" قالها في نعومة وشدها اليه وتركته يعانقها. عاود القلق دالاس في وقت متأخر من المساء على جين, وكان في استطاعتها أن تلاحظ انزعاج تشارلز منها من خلال تعابيره. " أرجوك يا دالاس, لاتزال الساعة الحادية عشرة والربع فقط ستعود جين قريبا. . ." " لماذا لا تحاول أن تدرك الأمر يا تشارلز...ان باريس ستافروسليس ذلك النوع من الفتيان الذي يرضى بالخروج مع جين من دون مقابل. في استطاعة الجميع أن يروا أنه يصاحبها فقط لتمضية الوقت. ماذا لو سمحت له...حينا... " رفع تشارلز سترته عن ظهر الأريكة وهز رأسه وأجاب ببرود: " إذا ورطت جين نفسها في مشكلة, عليها أن تخرج نفسها منها ونظرت دالاس إليه غير مصدقة ما يقول وصاحت: " لا تكن قاسيا الى هذه, انها مجرد طفلة! " " حسنا, لا تنتظري مني أن اعاملها كأنني امها يوم تأتي للعيش معنا في مايدن هيد واذا هي اساءت التصرف فسأطردها. هناك أكثرية الناس تعرفني" " ماذا؟! " وضعت دالاس يدها على شفتيها وقالت: " ما علاقتك بالامر؟ لن تقول بأن سمعتك معرضة لأن توصم بالعار! " " لا تغضبي " وقرر تشارلز معالجة الأمر بطريقة مختلفة. قال: " حسنا يا دالاس, حسنا. سأتكلم معها حالما ترجع " " كلا لا تفعل " هتفت دالاس, وهي تهز رأسها ثم تابعت: " اغلب الظن انك ستخلق لها متاعب أخرى, في استطاعتي التصرف معها, أو على الأقل سأحاول " وضع تشارلز ذراعه حول كتفها: " آسف إذا بدوت عديم المشاعر لكني أعتقد انكتتحملين المسؤولية وحدك وهذا أمر غير منصف " " أنا الأخت الكبرى " كان تشارلز يزرر معطفه عندما دخلت جين الشقة وهي تخلع معطفها المخملي وجزمتها في المدخل ثم حيتهما: " أهلا " كعادتها حاولت أن تكون ودودة الى تشارلز باعتراف دالاس. دس تشارلز يديه في جيبي معطفه, وسأل بصوت غاضب: " هل تعلمين أنك افقدت اختك نصف صوابها من كثرة قلقها عليك؟ " فركت جين أنفها ونظرت الى دالاس: " صحيح ما يقوله يا دالاس؟ اني آسفة, انت تعلمين كيف يمر الوقت مسرعا حين تكونين في زهو! " فرد تشارلز: " كلا, لا نعلم . نحن في انتظارك منذ الساعة العاشرة والنصف.واعتقد انه وقت كاف لعودة فتاة مثلك في السابعة عشرة من العمر الى المنزل " هزت جين كتفيها وتورد وجهها: " ألا تستطيع دالاس أن تؤنبني بنفسها؟ " سألت بوقاحة مستهجنة لهجته. وبصوت جاف حاول تشارلز ان يكمل حديثه : " استمعي إلي أيتها الصبية " إلا أن دالاس هزت رأسها: " أرجوك يا تشارلز, في استطاعتي معالجة الأمر " " من الواضح أنك لا تستطيعين والا لما كانت تتكلم معك بهذا الأسلوب " قال تشارلز كلامه في غضب ثم نظر الى جين وتابع: " من الأفضل أن تغيري سلوكك يا جين قبل أن نتزوج دالاس وأنا والا فقد تجدين نفسك من دون سقف يستظلك! " حدقت جين فيه في غضب قائلة: " حسنا باستطاعتي الاعتناء بنفسي سأبقى في الشقة وسأجد أحدا يشاركني أياها " قطعت دالاس لتردي الموقف, وفي داخلها حشرجة وقالت قبل أن يسوء الموقف أكثر " أذهب يا تشارلز, في استطاعتي معالجة الأمر " استدار تشارلز وخرج من الغرفة وتبعته دالاس ببطء. وبالكاد سمعت تحيته وهو يخرج. فقد كانت مزمعة على العودة الى الردهة ومتابعة النقاش مع جين . الا أن جين دخلت غرفة النوم لتخلع ثيابها لحظة عودة دالاس واستبقت دالاس في الكلام قائلة: " آه. لا تبدأي مجددا, أعلم, أعلم ما ستقولين, ولكن ذلك لا ينفع في شئ. لن اتخلى عنه " " حسنا " قالت دالاس وهزت كتفيها فنظرت اليها جين بغرابة مستفسرة: " ماذا يفترض في أن أفهم من هذه الملاحظة؟ " " ما تشائين " وتمددت دالاس بتعب وتابعت كلامها: " لقد تعبت من الأمر برمته...أين ذهبت هذا المساء؟...اسأل لمجرد السؤال." " إلى ناد يديره يوناني صديق لباريس. رقصنا ثيرا وشربنا اكوابا عدة من المرطبات, كانت سهرة ممتعة " " في أي حال لم لا تدعين باريس الى المنزل بعض الأحيان؟ فربما اذا تعرفت عليه لن أقلق كما أفعل الآن " " باريس هنا! لا أستطيع أن أفعل ذلك " " لماذا؟ " " حسنا...اعني...أن شقته كبيره وأثاثها فخم جدا. . . " " ذهبت إلى شقته؟! متى؟ ظننت انكما دائما تذهبان الى النوادي" وتقلص وجه جين وهي تقول: " بحق السماء, ماذا قلت! لم لا أذهب الى شقته؟ " حلت دالاس عقدة شعرها فتساقط شلالا من الألوان حول كتفيها. فقالت لها جين: " لم لا ترخين شعرك دائما؟ تبدين أصغر بكثير! ان تجعلينني أشعر أني دنيئة فأنت اكبر مني بقليل فقط, وتلقين صعوبة في التعامل معي أليس كذلك؟ فقط عندما تبدين كمدرسة مخيفة ويكون تشارلز الدميم قربك انسى من أنت حقا. دالاس أرجوك حاولي أن تفهمني " " لا يجدي كلامك نفعا يا جين فنحن نقف عند طرفي الخط المتناقضين. ليس في استطاعتك ادراك ما هو أبعد من أنفك وأنا لا أستطيع أن أصدق بأنه مخلص! " وأجابت جين: " حسنا, ليس في استطاعتكما شئ أنت وتشارلز. أنا أحب باريس وانوي الاستمرار في علاقتي معه مهما قلت " قالت هذا وهي تسرح شعرها بغضب.
* * * *
في مدة أسبوع اتخذت دالاس قرارا مرده اساسا الى أن جين لم تعد تخبرها الحقيقة. وفي احدى الأمسيات قبعت دالاس التي كانت تتظاهر بالنوم في سريرها ساعات بعد عودة جين التي بدت متعبة وناحلة على أثر السهر والنهوض باكرا. وبدت دالاس في حال من القلق المستمر وتمنت من قلبها لو أن باريس ستافروس يجد لنفسه صديقة أخرى في المستقبل القريب. وبما أنها لا تتوقع أي مساعدة مفيدة أو نصيحة من تشارلز فقد رأت أن الوسيلة الوحيدة لخلاص أختها هو أن تحاول الاتصال بوالد الفتى الكسندر ستافروس. وبدا أملا غير مجد فالكسندر كان يقيم في اليونان ولا تدري كيف تتصل به, وهي حتى لو استطاعت الاتصال به لما أهتم لما يحدث لشقيقتها مادام باريس سعيدا. الا اذا ردعه الخوف من فضيحة. ربما كان رجلا ذا قلب, ربما كان في استطاعتها أن تقنعه بفعل شئ ايجابي . شعرت دالاس باليأس فقد كانت تتمسك بأوهام وهي تعلم ذلك. وذات صباح وكأن القدر كان يمد لها يد المساعدة, فقد قرأت في الجريدة وهي في طريقها الى عملها أن الكسندر ستافروس وصل الى انجلترا ليرى أبنه ويجري محادثات تجارية مع رجال الأعمال البريطانيين. وقادتها كلمة عابرة عن الموضوع لجين في ذلك المساء الى تيار حقيقي من المعلومات عنه, حصلت عليها دون شك من باريس. وما هي الا أيام معدودة حتى علمت دالاس أنه كان يقيم في فندق ( دورشستر) وسيبقى هناك قرابة اسبوعين. قررت دالاس الا تخبر تشارلز بقرارها واتصلت بفندق ( دورشستر) صباح اليوم التالي فأبلغتها موظفة الاستقبال أن السيد ستافروس ليس في الفندق لكنها تستطيع التحدث مع أحد أمناء سره اذا شائت ذلك. " أحد أمناء سره! " هتفت دالاس مندهشة ثم قالت في صعوبة: " متى سيعود السيد ستافروس؟ " أجابت موظفة الاستقبال: " الحقيقة, لا أدري أعذريني ولكن من المتحدث؟ " قالت دالاس في ارتباك: " أنا...أنا...لن يعرفني " " اقترح عليك التحدث مع أحد أمناء سره. ان السيد ستافروس لا يتلقى المكالمات الهاتفية مباشرة. أنا متأكدة ان في امكانه مساعدتك " ترددت دالاس لبرهة ثم قالت: " ولكن هذه قضية شخصية. أليس هناك من سبيل كي أتحدث معه مباشرة؟" " اعذريني, علي أن اجيب على اتصالات هاتفية آخرى " قالت موظفة الاستقبال متجنبة اجابة مباشرة واقفلت دالاس الخط مضطرة وخرجت من كشك الهاتف منزعجة.كان وقت الاستراحة الصباحية في المدرسة. وهكذا لم يكن أمامها سوى الاتصال ثانية في صباح اليوم التالي . وفي اليوم التالي لم تستطع دالاس التركيز في عملها واجلت اجراء المكالمة الهاتفية طوال النهار وكرهت اضطرارها لوضع نفسها في مثل هذا الموقف المحرج. ماذا سيقول الكسندر ستافروس عنها اذا ما استطاعت مقابلته, أو ماذا يجب أن تقول له؟ أنه بالفعل أمر غير مقنع أن يهتم رجل في مقامه بنكرة مثلها...يا الهي كيف ستتولى الأمر..؟ عادت الى المنزل بعد العمل وحضرت وجبة العشاء ثم انتظرت الى أن تلبس جين ثيابها وتخرج لمقابلة باريس قبل أن تفكر جديا في الاتصال ثانية بالفندق. ولمتكن معتادة على مثل هذا المأزق. ففكرة مطالبته بمنع ابنه من ملاقاة جين بدت ساذجة وطفولية هذه اللحظة. كانت متأكدة من أن اعصابها لن تحملها على تنفيذ الأمر, ايا كانت عواقب ذلك على جين. سيبدو الأمر مؤذيا وهي كالاخت القبيحة التي تحاول منع سندريللا من الذهاب الى الحفل. سخرت من هذ التصورات وهي تغسل الاطباق. كان سهلا ان تنفذ خطتها ساعة كانت لا تزال متحمسة لمقابلة الكسندر ستافروس أما الان فقد وهنت همتها وبدت الفكرة مستبعدة. بعد ان انهت من غسل الاطباق ووضعتها مكانها على الرف واتجهت نحو الردهة. فتحت احد لادراج لتسحب منديلا فوقع شئ آخر على السجادة فانحنت والتقطته. كان سوارا لم يسبق لدالاس أن رأت مثله بدا وكأنه من الذهب الخالص مرصعا بحجارة كريمة حمراء وزرقاء كالجواهر والياقوت. وبسرعة اعادته دالاس الى الدرج وكأنه احرق أصابعها. لم تشك في مصدره, لابد أن باريس ستافروس اعطاه لجين, لكن لماذا؟ تبددت أي شكوك عندها في صحة قيامها بالمهمة التي ازمعت القيام بها. لم يكن لديها خيار الا أن تحاول القيام بشئ قبل فوات الأوان. ارتدت سروالا أزرق وسترة رياضية قرمزية تخص جين. ضحكت عندما فكرت بأن تشارلز سينزعج لرؤيتها هكذا فهو يكره هذا النوع من اللباس ويفضل أن ترتدي دالاس ملابس انيقة مع قليل من التبرج. انسدل شعرها على كتفيها وعوض أن ترفعه مرة أخرى سرحته وفردته على كتفيها ووضعت قليلا من أحمر الشفاه ثم هرولت الى خارج المبنى. كان كشك التلفون يبعد قليلا عن المنزل فشعرت دالاس بحيوية مطلقة تغمرها وهي تسير نحو الهاتف. كان الكشك مشغولا فانتظرت خارجا وهي تقفز لتمنع البرد القارس من التغلغل الى داخل ثيابها. وما هي الا هنيهة حتى خرج الرجل من الكشك فانسلت اليه شاكرة. اتصلت دالاس بفندق (دورشستر) وكان المجيب هذه المرة رجلا. ولكن عندما طلبت التحدث الى السيد ستافروس كانت اجوبة الرجل تشبه اجوبة المرأة. فقررت التكلم مع أمين سره السيد كارانتينوس لتخرج من هذه الحلقة المفرغة. وحولها الموظف الى جناحه. في البدء كانت الخادمة على الطرف الآخر من الخط ثم سمعت لكنة ستيفانوس كارانتينوس فبادرته دالاس وهي تعض شفتها: " مساء الخير, هل استطيع التحدث مع السيد ستافروس؟ انها قضية شخصية " " السيد ستافروس يبدل ثيابه لارتباطه هذا المساء. بالتأكيد يمكنني مساعدتك. تقولين انها قضية شخصية ما هي طبيعة هذه القضية؟ " كان مهذبا لكن حازما. تنهدت دالاس: " الأمر يتعلق ببارس ابن السيد ستافروس. انه يصادق أختي جين في الوقت الحاضر " " هكذا؟ هذا ما تودين التحدث مع السيد ستافروس في شأنه؟ " " نعم. أنا...أنا أريد الأمر أن ينتهي " أدركت إنها صدمت الرجل ولكن في شكل مرح حيث انه انفجر ضاحكا, وشعرت بغضب عارم فقالت صارخة بعنف: " ليس الأمر مضحكا " ثم سمعت أصواتا أخرى اوحت اليها أن شخصا آخر انضم الى المتكلم يسأله ما عسى أن تكون النكته. وسمعت مزيا من الضحك ثم صوتا آخر عميقا وجذابا يكاد يخلو من لكنة اجنبية : " الكسندر ستافروس يتحدث, من المتكلم؟ " كانت لهجته ساخرة الا أن دالاس ارتاحت الى حد لم تأبه معه لسخريته لعلمها انها تتكلم أخيرا مع ستافروس بنفسه. قالت: " اسمي دالاس كولنز يا سيد ستافروس. يصعب علي الامر ولكن أختي جين تعمل في شركتك في مكتب لندن وهي هائمة حاليا بأبنك باريس...أريد منك اذا سمحت أن تستخدم نفوذك كي تضع حدا لهذه العلاقة قبل أن يحصل سوء" " يحصل سوء؟ لمن؟ " " لجين طبعا " " فعلا؟ " ساد الصمت برهة ثم تابع: " يبدو لي يا آنسة كولينز انك تتدخلين في أمر لا يعنيك فعلا " " لا يعنيني؟ جين عمرها 17 عاما فقط . والدانا متوفيان وأنا مسؤلة عنها شرعا " " عمر باريس 18 عاما يا آنسة كولينز " " اعلم ذلك. أنظر يا سيد ستافروس أنا اعلم أن ما سأقوله قد يبدو سخيفا ولكن اذا عرفت ملابسات القضية. . . " واختنق صوتها. " هدئي من روعك يا آنسه كولينز. الأمور ليست سيئة بقدر ما تبدو " استطاعت أن تدرك الأن من لهجته انه لم يكن يهزل فقال: " أنا لا أشعر بالرضى اذا الحق باريس الاذى بأختك آنسة كولينز. انه فتى ذكي وليس غبيا! " وبدا السيد ستافروس كأنه يفكر لبضع لحظات ثم قال: " أنا لا أحب أن أبحث بشؤني الخاصة على الهاتف. لدي أرتباط بموعد عشاء ولكني سألغيه. أقترح أن تحضري هنا لمقابلتي يا آنسة كولينز, كي نستطيع مناقشة القضية في صورة أوضح " " أوه, ولكن. . . " بلعت دالاس ريقها بصعوبة واكملت: " أنا...أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك " " ولم لا؟ ليس هذا باللقاء السري. سيكون أمين سري ستيفانوس موجودا. مهما كان رأيك بولدي أستطيع أن اؤكد لك اني لست مهتما بك شخصيا " كانت لهجته متعجرفة جازمة وشعرت دالاس برغبة في اقفال الخط وتمنت لو تنسى انها اتصلت به. لكنها لم تكن لتستطيع فعل ذلك. فقالت بانزعاج: " حسنا يا سيد ستافروس. لكني لا أستطيع التفكير بأي شئ آخر أقوله " " سأتوقع حضورك خلال 15 دقيقة؟ هل هذا غير كاف؟ " " سأ...سأحاول جهدي " وأقفلت الخط وخرجت من الكشك وهي متجهمة. ما الذي اقحمت نفسها فيه الآن؟ اوصلها الباص الى قرب الفندق واقتربت من مدخله وهي تشعر بالامتعاض وتمنت لو كان لديها الوقت الكافي لتذهب الى المنزل وتبدل ملابسها قبل هذا اللقاء, لكن ارادة ستافروس المتصلبة لم تفسح لها المجال في عمل أي شئ آخر على رغم ادراكها الشديد لعدم لياقة سروالها وسترتها كلباس امسية في الحي الغربي من لندن. في أي حال, لم تكن لديها الرغبة في التأثير على الرجل. واذا لم يمل اليها فقد يتمنى أن تنتهي العلاقة بين ابنه وأختها بسرعة أكثر. اقتربت من طاولة الاستقبال في حذر شاعرة بالعيون المستفسرة الشاخصة اليها, ومتوقعة في أي لحظة أن يوقفها صوت ما لكن شئ من هذا لم يحدث, وبدا جليا أن موظف الاستقبال احيط علما بقدومها لأنه عاملها باحترام, وطلب منها بتهذيب أن تنتظر ريثما يتصل بجناح السيد ستافروس. مرت دقائق قليلة خالتها دالاس دهرا, اقترب منها رجل نحيل ضامر البنية اشيب الشعر ذو مظهر طيب وطبيعة حسنه. نهضت دالاس بسرعة. هل هذا الكسندر ستافروس؟ على الأقل يبدو متفهما ولو أن مظهره لم يطابق الانطباع الذي كونته عنه بعد سماعها ذلك الصوت المتعالي عل الهاتف. الا أن توقعاتها انهارت بعد سماعها الرجل الذي قال: " مساء الخير يا آنسة كولينز. اسمي ستيفانوس كارانتينوس. أن امين السيد ستافروس " تنهدت دالاس وقالت: " أنا دالاس كولينز. كيف الحال؟ " وأمسك بيدها قائلا: " تعالي. السيد ستافروس بانتظارك " نقلهما مصعد إلى الطبقات العلوية من الفندق. نظر ستيفانوس كارنتينوس باستغراب الى دالاس وخاطبها وهو يستند الى حائط المصعد: " اخبريني يا آنسة كولينز, هل أختك مثلك؟ " هزت دالاس كتفيها: " ...حسنا...بعض الشئ " وضع ستيفانوس كارنتينوس يديه في جيب سرواله وقال بعفوية وكأنهما يتحدثان عن الطقس: " باريس يحسن الاختيار " واحمرت دالاس مرتبكة. توقف المصعد واستقام ستيفانوس بقامته وأشار اليها أن تسبقه عبر الممر المغطاة ارضه بالسجاد. كانت كتلة من الأعصاب ولم تكن تعرف ما ستواجه. عبرا أبوابا بيضاء ودخلا الى جناح ستافروس, حدقت دالاس في السجادة ذات اللون الكريمي داخل باب الجناح وشعرت أنها خارج ذاتها بصورة يائسة. اغلق ستيفانوس كارنتينوس الباب وعبر المسافة التي تؤدي الى درجتين تفصلان بقية الردهة الكبيرة عن المدخل . تفحصت دالاس المكان بذهول. لم يسبق لها حتى عندما كانت مع أبيها أن رأت مثل ذلك الترف, كراسي بيضاء جلدية وبرادي قرمزية, خشب منقوش باتقان ومقاعد تكسوها السجادات. وقفت في سيروالها وسترتها المتواضعين وكأنها في حضرة أمير. ومما زاد هذه الصورة رسوخا نهوض امرأة بكسل من أحد المقاعد وهي تنظر الى دالاس في استهزاء وبانت اظافرها باللون الأحمر مختلفة عن حامل السيكارة الاسود الذي كانت تستعمله. أخذت دالاس بها اذ انها الشخص الوحيد الاخر الذي كان يشغل الغرفة, وتساءلت من تكون هذه المرأة...شعرها الاسود الداكن معقود على قمة رأسها, والثوب الحريري الأبيض الذي كانت ترتديه تهادى على جسمها ليزيد من روعتها. رأت دالاس انها جميلة ولكن كان هناك أمر منفر في عينيها الواسعتين وفمها الصغير الجميل المطلي بالاحمر أيضا. استدار استيفانوس كارنتينوس قبل أن يصعد الدرجتين وقال: " ادخلي يا آنسة كولينز واجلسي " وأشار إلى كرسي. فسارت دالاس لى الأمام ببطء وجلست. " لن يتأخر السيد ستافروس في المجئ. هل ترغبين في شرب شئ؟ " هزت دالاس رأسها بالنفي: " لا أعتقد. شكرا " " آه, اشربي شئ ما, سأحضر لك شرابا بنفسي, شرابا لذيذا اؤكد لك هذا " وافتر ثغر دالاس عن شبه ابتسامة محاولة أن تبدو طبيعية بينما استمرت المرأة الاخرى في النظر اليها مبتسمة ثم قالت: " يستطيع ستيفانوس أن يكون مقنعا جدا, لكنه ليس مهذبا دائما. لم يقدمني اليك فدعيني افعل هذا بنفسي. أنا اتين سياميترو " وأومأت دالاس بتحية بسيطة بينما أحضر ستيفانوس كأسا من الشراب وقدمه لها. ثم قال: " اتين لا تحتاج الى تعريف فلا مخافة عليها من أن تترك وجودها مغمورا " كانت لهجته خفيفة ولكن هازئة وتسائلت دالاس عن السبب. دهشت عندما وجدت الشراب لذيذا وهو خليط من الليمون والحامض وشئ آخر لم تستطع معرفته. بعث الشراب في جسمها الدفء فشربته شاكرة. وينما هي تتناول سيكارة من علبة قدمها اليها ستيفانوس فتح أحد الأبواب في الجناح ونظرت بعصبية لتشاهد رجلا يدخل الغرفة. والتقت نظراتهما لحظة وجيزة ثم اشاحت دالاس بوجهها بعيدا محاولة التركيز على اشعال سيكارتها. لكن انطباعا عن كل شئ عنه تكون لديها في تلك اللحظة القصيرة وعجبت عندما شعرت فجأة باحساس قوي من الخوف. لم يكن ابدا كما تصورت, اذ اختلطت فكرتها عنه بصور غير واضحة عن رجال اعمال ناجحين, بدينين ويغزو رأسهم الصلع, ملامحهم عدائية لا تنم عن أي احساس. لم يكن الكسندر ستافروس أحدا من هؤلاء الاشخاص. كان طويلا ونحيلا, عريض المنكبين, كامل الأناقة, شديد السمرة, أسود الشعر والعينين. ومع أن دالاس علمت من انه لا بد أن يكون تجاوز الأربعين من العمر ولكن لم يبدو ذلك من مظهره. واستطاعت أن تتخيل كيف يمكن أن يجذب النساء كالمغناطيس ذلك انه بالاضافة الى صفاته الجسدية كان ثريا, وتسائلت ما اذا كانتزوجته تلاقي صعوبة في الاحتفاض باهتمامه عندما تشعر بكل تلك المنافسة حولها. كان من الصع هضم ردة فعلها وشعرت بضعف موقفها ومركزها الى حد عظيم, ولم تستطع الا أن تتساءل عن علاقته بأتين سياميترو وفي ما اذا كان رجلا مثله يهتم بالتزامات ابنه الأخلاقية. وقبل أن يتفوه بكلمة تناول علبة بلاتين رقيقة من جيبه واخرج سيكارا ووضعه بين أسنانه واشعله. ثم سار يتؤدة عبر الغرفة الى حيث كانت تجلس دالاس التي شعرت كأنما ركبتاها ستبدآن بطرق الواحدة الأخرى. كانت عيناه تتفحصانها فشعرت بالانكماش. نهضت أتين سياميترو مرة أخرى ولكنها احست بالحيوية ثانية لحظة دخول الكسندر ستافروس. وبصوت جهوري مدع قالت شيئا ما باليونانية, أو هكذا اعتقدت دالاس, ونظرت الى عيني الكسندر ستافرس. هز الكسندر رأسه فجأة وأجاب بسخرية: " تحدثي بالانجليزية يا أتين. زائرتنا لا تستطيع أن تفهمك " " لكني أستطيع فهم اليونانية جيدا وأنت تستطيع ذلك أيضا, ولهذا لن يكون هناك مزيد من الكلام عن ارتباطنا هذا المساء. هه؟ " ونظر إلى دالاس بإمعان قبل أن يتابع: " اعتقدت أني ذكرت بأنه يجب أن ترحلي, لم لا تزالين هنا؟ " ارتجفت دالاس, وفكرت انه لو تكلم معها هكذا وبذل الصوت البارد الكريه تقريبا لكانت اختفت من مكانها. أما أتين فقد تنهدت وقالت: " أنت متوحش يا حبيبي " ونظرت إلى دالاس في عطف وقالت: " هدئي من روعك يا آنسة كولينز. انك تتعاملين مع قساوة تامة...في حالات, وفي حالات آخرى يمكن أن يكون...جذابا " وضحكت وعبرت إلى المدخل حيث تناولت فراء بنيا ورمته على كتفيها من دون مبالاة وقالت: " الوداع يا حبيبي , سأراك عما قريب " وكان خروجها ثم اغلاقها الباب في عنف سببا في ضحكة خفيفة صدرت من ستيفانوس كارانتينوس. شربت دالاس شرابها متجنبة النظر الى عيني الكسندر ستافروس الذي جلس قبالتها فاردا رجليه. وقال وهو يحدق فيها: " والآن, هل أنت الآنسة كولينز؟ " ونظرت دالاس إليه قائلة: " نعم... أنا دالاس كولينز " وهز الكسندر ستافروس رأسه ثم حول نظره صوب ستيفانوس قائلا: " ناولني شرابا, تعرف أي نوع " نهض ستيفانوس من قرب الشباك وعبر نحو خزانة الشراب التي شغلت زاوية الغرفة. " وما هو اعتراضك على علاقة أختك بولدي؟ " سألها الكسندر ستافروس وهو يدخن سيكاره فأطفأت دالاس سيكارتها في منفضدة قريبة واستمهلت نفسها في الاجابة. الآن وقد اثير الحديث وجدت نفسها فاقدة الأسباب! " أنا...حسنا...جين طفلة يسهل التأثير عليها...واهتمام باريس بها يهدم كل مزايا طفولتها. اصبحت جشعة وغير قنوعة " " أوه لا تبالغي, لا تستطيعين وضع اللوم في ذلك على ابني! " " أنا ألومه " وعادت إليها ثقتها عندما اطمأنت الى سلوكه هذا فقالت: " كانت جين مقتنعة بأن تحيا نوع الحياة التي عاشتها دائما الى أن بدأت تقابل ابنك. وبالطبع فهو يعيش ضمن بيئة مختلفة عنها, حيث الفتيات يمتلكن ثيابا أكثر, وهن أكثر غنى, ويستطعن أن يفعلن ما يردن ولا يعملن طوال النهار مثل جين " هز الكسندر كتفيه العريضين قائلا: " بالتأكيد يمكن لأختك أن ترى كل هذه الأمور بنفسها " " إن جين تعتبر علاقتها باريس جدية...هي تؤمن حقا أن الناس يمكن أن يتلاقوا اذا أحب بعضهم بعضا ولو اختلفت مستوياتهم المعيشية! " " افهم منك أن لا تنظرين الى الأمور بالمنظار نفسه " كانت لهجة ستافروس ساخرة فتخضبت وجنتا دالاس وقالت: " هل تؤمن أنت بهذه النظرة؟ " نهض ستافروس قبل أن يجيب, ثم استطرد متجاهلا سؤالها: " أخبريني يا آنسة كولينز, هل احببت قبلا؟ " " أنا...بالطبع! " " إذا ليست القضية مسألة غيرة فيما يختص بأختك " " غيره؟!! " وانتفضت دالاس منتصبة: " كيف تجرؤ؟ " ناول ستيفانوس الكسندر ستافروس كأسه وبايماءة من سيده غادر الغرفة. سارت دالاس نحو الدرج وعيناها على كأسها النصف فارغة ثم قالت ببرودة محتمية وراء غضبها: " يبدو أنني اضيع وقتي, ودعا يا سيد ستافروس " " انتظري! " شرب ستافروس نصف كأسه واستدار بعيدا ثم قال: " كانت مجرد فكرة, لم اضع فيها أي ايمان, في أي حال هل طلبت من أختك عدم رؤية باريس؟ " " طبعا " " وهي ترفض؟ " " نعم " هز ستافروس رأسه وقال: " ماذا تتوقعين مني أن أفعل؟ " " حسنا أنك والده ولابد أن سيطرتك عليه مطلقة " " ليس بالضرورة, على الرغم من اني أتحكم بدخله, ومن دون دخله يصبح باريس أقل...لنقل أقل...فاعلية " وابتسم في تهكم وقال: " إنها حتما تجربة جديدة لي أن أتعرف الى شخص لا يقيم للمال وزنا. معظم معارفي يقدرون الأشياء بسعرها. وهذا ينطبق على البشر مثلما ينطبق على الأشياء أيضا. ويمكنني القول أن شخصا أقل استقامة منك كان وجد فرصة للاستفادة ماديا من مثل هذا الوضع " جمدت دالاس ثم قالت: " كما تقول أنا لست من ذلك النوع " سار ستافروس ببطء نحو النافذة ونظر الى اسفل حيث اضواء مدينة لندن. ثم قال: " لا تشعري بالاهانة في مثل هذه السرعة يا آنسة كولينز " قال باقتضاب واستأنف حديثه: " لست الذي أوجد هذا الوضع بل أنت " واسند نفسه الى النافذة وتابع حديثه: " اخبريني عنك, ماذا تفعلين؟ " احمرت وجنتا دالاس ثانيةوقالت: " ليس مهما ما أفعل " " كلا, ولكني مهتم " تنهدت دالاس وقالت: " أنا معلمة " " هل الأمر كذلك؟ " استعاد تعبيره مظهر المرح وقال: " لا تبدين كأي معلمة أعرفها " " المظاهر خداعة " قالت دالاس ذلك بعد لحظات فرد عليعا: " نعم, اوافقك في ذلك. وهل هذا هوكل طموحك؟ اعني أن تكوني معلمة " استهجنت دالاس هذا الاستجواب لكنها لم تجد طريق لتجنبه, هذا اذا أرادت أن يستخدم الكسندر ستافروس تأثيره لمصلحتها. كانتمتأكدة من انه شعر بذلك أيضا وبأنه كان يسلي نفسه فقط برؤية مدى استعدادها للاستمرار في الاجابة عن اسئلته. وقالت: " بالطبع أريد أن أتزوج وأن تكون لي عائلة " " هكذا؟ وهل هناك رجل ضمن مشروعك سبق لك التعرف اليه وهو الذي سيؤمن تحقيق هذه الأمور؟ " كان التهكم واضحا في صوته وقال متابعا: " شخص من محيطك الصغير بالطبع " " هذه هي الحقيقة بالفعل " ردت دالاس ببرود ثم قالت: " أنا مخطوبة لأتزوج " " حسنا, ماذا ستفعل أختك عندما تتزوجين؟ " " ستعيش معي وتشارلز بالطبع " " وهل تريد ذلك؟ " وبدت دالاس منهكة ولكنها قالت: " إذا أرادت أم لا ليس بالأمر المهم. نستطيع أن نؤمن لها منزلا وطمأنينة وهذا كل ما تحتاج اليه " ضجت الغرفة بصوت قهقهة ثم هتف بجدية: " يا عزيزتي الآنسة كولينز, لا يمكن أن تكوني جادة فيما تقولين! هل تؤمنين باخلاص انه مادام هناك قوت وماء ومكان يأوي المرء اليه تسير الحياة في مجرها الطبيعي؟ " " كلا...اعني. . . " وطأطأت دالاس رأسها قائلة: " انك تسئ فهمي قصدا, كانت جين سعيدة تماما قبل أن تلتقي باريس. وما أن يغيب أثره حتى تعود سعيدة " " آنسة كولينز, ان سذاجتك أكثر من أن تصدق! هناك أناس يعيشون حياة ملؤها السعادة ولكنهم لا يتقيدون فيها بأي من قوانينك الصغيرة التافهة, وبمجرد استعدادك لقبول ما هو اقل من الاكتفاء الكامل يجب الا يجعلك تتوقعين أن يكون كل شخص مثلك " وأطفأ سيكاره بعصبية وشعرت دالاس نفسها تهوي الى الحضيض لأنها اذا كانت قد اغضبته فعلا فقد تبخرت للتو كل آمالها في أن يساعدها. صعدت الدرج واتجهت نحو الباب ببطء ثمتوقفت واستدارت لتنظر الى الخلف. كان الكسندر ستافروس يقف في انزعاج وسط الغرفة وهو ينظر اليها بعينين جاحظتين. شعرت دالاس شعورا غريبا في احشائها وهي تنظر اليه, وجدت نفسها تسائل نفسها ثانيةعن زوجته. ولأول مرة في حياتها وجدت نفسها في وضع لا تستطيع السيطرة عليه. كانت قد ظنت نفسها راشدة ومدركة دائما وحتما ليس ذلكالنوع من النساء اللاتي ينجذبن الى رجل بهذه الطريقة, ولكن الكسندر ستافروس لم يكن يستطيع شيئا حيال جاذبيته وشعرت أن عدم رؤيته ثانية سيون أفضل شئ. ربما كانت علاقة جين بباريس من النوع نفسه ولأن باريس أظهر اهتماما مباشرا بجين فلم يكون في وسع اختها الا أن تشعر بالزهو. " إذن أنت ذاهبة يا آنسة كولينز. لقد...تمتعت بحديثنا الصغير. كان حديثا شيقا صدقيني " لم تجب دالاس. لم يبدو أن هناك المزيد للقول. ففتحت الباب وخرجت وشعرت بالكآبة تملأ كيانها حالما أغلقته.

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا