الحب المجنون

الفصل الأول
خريف 1977 كان المقهى الصغير منزويا في الجزء القديم من نيس ويتردد عليه أهل الحي فقط. ولا يرتاده السائحون وهو ما جذب وولف ويكفيلد إليه. كان كل شيء يسير بالعكس بالنسبة له من البداية للنهاية في ذلك اليوم. لكن الشراب وأدوار لعب الورق مع الصيادين في الناحية خففا من مرارته. لا أحد هنا يعرف أنه ممثل الفيلم الذي يجري تصويره في المنطقة. عندما غادر المقهى مع أصدقائه الجدد كان ذلك بعد إغلاقه , بعد سباب رئيس البوفيه لهم. كان رفقاء الشراب يسيرون بجواره وهو نفسه كان يترنح حتى سيارته. جلس وولف وذهنه غير صاف وراء عجلة قيادة السيارة الچاجوار التي استأجرها بسعر زهيد وكانت تستهلك وقودا ضخما وإن كانت مزودة بجهاز ستريو ومحرك قوي. خرج من المدينة بسرعة كبيرة ليصعد نحو التلال الخضراء حيث تقع وسطها الفيلا التي يسكنها. كان ينهب المنحنيات دون أن يهدئ من السرعة مما يزيد بهجته ونشوته من الشراب. بدت الحياة جميلة بالنسبة له في تلك اللحظة ونسي تقريبا متاعب ومضايقات النهار. من الأفضل أن يتمسك بالجوانب الإيجابية. لقد أصبح معروفا وانتهى الأمر بأن لاحظوا عمله وأصبحت أدواره منتقاة شيئا فشيئا وهناك من يدفع أجر إقامته في أوروبا التي كان دائما يعشقها. كان قد واصل دراساته في فرنسا و ألمانيا عندما كان يحس في أي مكان أنه في وطنه. ماذا يطلب أكثر من هذا؟ ضغط بدال السرعة بشدة ودخل في ملف شديد الانحناء عندما سمع صريرا. تصور في البداية أن ذلك من وحي خياله. ولكن الأمر أصبح واقعا... وقف بالسيارة في الحال على جانب الطريق واستدار نحو الخيال الموجود على الأريكة الخلفية. لم يصدق عينيه: إنه يقل معه مسافرا خفيا. سمع صوتا يقول: - لا تتعب نفسك, على أية حال أنا التي تدحرجت من جانب لأخر وفي كل اتجاه بسبب قيادتك الهوجاء. قال وولف وهو مذهول ويتأمل الفتاة ذات الشعر الأسمر المحمر والعينين اللامعتين التي ظهرت أمامه: - قيادة هوجاء؟ ماذا تفعلين في سيارتي بحق الحق؟ أجابت الشابة: - إنني أختفي. إنني مطاردة من الوصي بي إنه يدّعي أنه يريد استرداد الأموال التي أدين بها لأمه وفي رأيي أنه يريد أكثر من هذا . - أليس لك عمل ؟ - إنني أبحث عن عمل . إنني أحاول أن أظهر في بلاتوه تصوير فليم يجري تصويره في هذه المنطقة...هل تفهم ماذا أقصد؟ رد عليها وولف وقد تجهم من تأثير الصداع الذي كاد يحطم رأسه. - أعتقد ذلك . هل يمكن أن تجلسي في المقعد الأمامي؟ وهل يجب علي أن أنزلك في مكان ما؟ دهش من نفسه لأنه تصرف بهذه الكياسة في حين كان من الواجب أن يغضب من هذا التطفل . عندما جلست الشابة على المقعد المجاور له ,لاحظ ساقيها الطويلتين اللتين برزتا من الشورت القطني الذي ترتديه: أخذ وولف : يسب ويلعن في نفسه.. إنها ليست سوى صبية صغيرة . أجابت على سؤاله: - لا يهم أي مكان بشرط ألا يعثر بير علي ولا داعي لأن تنظر إلي بهذه الطريقة. سأدفع للوصية حالما أحصل على نقود ولكني لا أريد بأي حال من الأحوال أن يضربني ابنها . سألها وولف بصوت مرهق: - كيف أتيت إلى فرنسا وليس معك نقود؟ -------------------------------------------------------------------------------- لم ينتبه إلى ردِّها لأن صداعه ازداد سوءاً: - لقد ترك لي والدي وديعة صغيرة عند موته... إيه! هيا سر بطريقة هادئة فإنني لازلت صغيرة على الموت. - ما أسمك يا آنسة؟ - بليندا برونسكي. - بليندا! إن هذا الاسم يبدو فريدا ويذكرني بالأسماء التي تستخدم في روايات جدتي. استاءت الفتاة وقالت: - أحقا ما تقول؟ أنا آسفة بالنسبة لك ولكنه اسمي الحقيقي ولم أخترعه. - هل كان والداك يكرهانك إلى هذه الدرجة؟ -لا جدوى من أن تكون ساخرا وأنت الذي تقوم بالدور السيئ. لقد أحتسيت الشراب بشراهة وغدا سيتصلب فكك ولن يرتخي طوال النهار وهذا سيعلمك ألا تسخر من اسمي. - ولكني لا أسخر . إنه مثير للسخرية في حد ذاته. قالت بصوت بارد كالثلج وهي تستدير ناحية النافذة : - لطيف منك ما تقوله . ساد صمت ثقيل بينهما وبعد ثلاثة كيلو مترات من السير وقف وولف بين عمودين يحدان المدخل الصغير الملتوي وسط غابة الصنوبر ثم انطلق بالسيارة دون أن يهدئ السرعة. ما إن وصل إلى أعلى حتى وقف فجأة وسط مسطح من الحصى. قال : - ها نحن قد وصلنا . وإذا استطعت أن تظلي مختفية حتى لا تزعجيني فيمكنك استخدام أريكة الصالون وإلا فتصرفي بمعرفتك. قالت "بليندا" في تهكم: - هذا كرم كبير من جانبك . بدأ "وولف" الحديث وأعصابه مشدودة للغاية. - اسمعي... أنا... قاطعته في الحال : -لا بأس.. لا بأس. لن أقول شيئا. خرجا من السيارة . كانت الفيلا البيضاء التي يضيئها القمر أحسن مكان عرفته الشابة من شهور مضت. كانت تخشى دائما الوحدة ، وهذا الرجل على الأقل أمريكي. ولا يبدو عليه مظهر السفاحين بل إنه فتى مليح. ثم إنها يجب أن تتجاوز عن مغازلته لأنه ليس في كامل وعيه. بدأت "بليندا" تضحك. وسألته: - هل تحب الشراب في الصباح؟ يمكنني أن أحضر لك منه من السوق من أجل الإفطار. زفر "وولف" وهو يمرر يده على جبهته : - لا. بالأخص الشراب. لدي إجازة غدا وأنوي أن أنام حتى المساء وإذا بقيت فأرجوك ألا تصدري أي ضجة. قالت الشابة بإلحاح وهو يدخل البيت دون أن يعيرها أدنى إلتفات : - ألا أستطيع على الأقل أن أحصل على غطاء؟ لم تكن "بليندا" قد تركته قيد أنمله. قال وهو يلوح بيده في اتجاه غير محدد : - ماذا؟ آه نعم! في دولاب البهو . - هل يمكن أن تدلني عليه؟ زمجر "وولف": من الأفضل أن ألقي بك في البحر. ومع ذلك ذهب معها إلى البهو وقد تضاعف الصداع وأحس بأن رأسه سينفجر. قالت بليندا: - يجب عليك أن تكف عن الشراب.. ربما كانت لديك حساسية ضد الشراب المنعش.. إنك تبدو فعلا مريضا. -------------------------------------------------------------------------------- - أنا قيادتي سيئة وأنا أبدو مريضا.. هل هناك شيء آخر تودين أن تنتقديه في؟ سحب درجا في غضب وكان مملوءاً بالأغطية المطوية. - هذه مجرد نصيحة ويمكنك أن تستشير طبيبا نفسيا حتى يمكن أن يرتب عقلك. - لا داعي لذلك فليس لدي عقل ، ثم تصبحين على خير ولا تقولي أي شيء آخر. عاد ناحية الدرج فقالت : - حسنا جدا. مادام هذا هو الذي تريده. توسل إليها وهو في منتصف الدرج : - اللعنة. أرجوك اخرسي! ردت عليه "بليندا" قبل أن يختفي. - أيها اللعين! لم يعرها "وولف" أدنى انتباه. وصل إلى حجرته وألقى ملابسه على الأرض وألقى بجسده على السرير ووجهه لأسفل. حيث استغرق في نوم عميق. استيقظ في الصباح عندما سقطت أشعة الشمس على وجهه وعلى صوت هدير محرك سيارته الچاجوار. زمجر وهو شبه تائه ونهض من السرير بصعوبة. - ولكن.. ماذا يجري؟ ألقى نظرة على ساعته وعرف أن الساعة لم تتجاوز الثانية صباحا. من يا ترى يحدث كل هذا الضجيج في هذه الساعة المبكرة؟ ترنح وهو يشعر بألام القرحة في معدته إلى أن وصل إلى النافذة الكبرى المطلة على الحديقة وصرخ: - ما معنى هذا؟ كان نصف "بيلندا" مختفيا تحت غطاء محرك السيارة أمام البيت. قالت له وهي ترفع أنفها نحوه قبل أن تشير إلى محرك السيارة في سخرية: - ألا تعرف شيئا حقا سوى الصراخ؟ لقد خرجت ونظفت شمعات احتراق السيارة.ولآن أجرب الكاربوراتير. إنك حقا لا تعرف التعامل مع المحركات. وضع "وولف" رأسه بين كفيه وهو يسب ويلعن ثم عاد إلى سريره ليعاود النوم. ولكن الضجة طردت النوم من عينيه مرة أخرى. قضى نصف ساعة كاملا تحت الدش ثم قرر بعد ذلك الاستحمام. ولكن بعد أن يخنق تلك الفتاة ذات الاسم المضحك. على الأقل لو فعل ذلك لتخلص من آلام. قابل في البهو مديرة المنزل "لوريث" وقالت له بلهجتها الإنجليزية المشوبة بلهجة أهل الريف: - يا سيدي "وولف" إنني متوترة تماما من هذه الضجة وحاولت أن أفهم تلك الشابة ولكنها قالت لي:إنك لا تجد في ذلك أي إزعاج. - بالعكس أجدها أكثر من مزعجة ولكنها ليست غلطتك يا سيدة "لوريث". سأرحل للاستحمام بسيارتي الچب ولا تقولي هذا لتلك الفتاة الوباء. تسلل خارجا من الباب الخلفي المؤدي إلى الجراچ ما إن وضع قدميه في الخارج حتى قالت "بليندا": - صباح الخير. هل أنت ذاهب للاستحمام؟ سأصحبك فقد انتهيت من السيارة "الچاجوار". نظر "وولف" إليها في ذهول وغيظ وقال: - ولكن مغطاة بالهباب من رأسك لقدميك. -طبعا بسبب "الچاجوار" والحمام سيزيل كل ذلك. - ولكن ليس عندك لباس البحر. - وماذا في ذلك؟ إنني سأستحم بالشورت. أحس بالدوار وهو يتخيلها تسبح بالشورت فقط. قال وهو ساهم: - ولكن الهباب سيلوث المقاعد في السيارة وهي ليست ملكي. قالت قبل أن تختفي في الجراچ لتخرج منه في الحال ومعها غطاء قماش مربعات كبير: - سأجلس على قطعة القماش.. هيا بنا. كان منوما مغناطيسيا من "بيلندا" وقدرتها على سيطرتها التامة على مجريات الأمور. ظل "وولف" في مكانه يتأملها دون كلمة. قالت له مقترحة. - هل تحب أن أتولى القيادة؟ قال بعنف وهو يستيقظ من أحلامه ويجلس خلف عجلة القيادة: - لا انطلق والإطارات تصدر صريرا مزعجا وقفزت السيارة بعنف للأمام مما أعاد له الصداع. قالت بلا اكتراث. - أنت لا تقود هذه أفضل من الچاجوار. كز "وولف" على أسنانه دون أن يتكلم. تصور أن رأسه تضاعف حجمه وتترد فيه كل طنين الغابة. هبط بالسيارة إلى نهاية الممر حتى الطريق العام ثم اتجه نحو المرفأ. صاحت "بيلندا" وهو ينهب بأقصى سرعة طريق الرعاة. - خرافي! إنني أعشق السرعة. ألقى "وولف" نظرة مسرورة على راكبته وقال دون أن يكتم ضحكته: - أنت أكثر الفتيات إثارة للغيظ رأيتها في حياتي. احتجت قائلة: - كيف يمكن أن تقول هذا الكلام عني؟ إنني لم أفعل أي شي غريب معك. - آه! رائع.. والاختباء في سيارة رجل غريب في الثالثة صباحا.. ماذا تسمينه؟ - حسنا.. ولكن الأمر يتعلق بغريب ثمل تماما ولكنك على حق واسمي هذا خليط من البؤس والجنون. لاحظت أن ذهنه صاف تماما ويتذكر كل ما حدث في الليلة الماضية ومع ذلك لم يستغل الفرصة. إنه يبدو مختلفا عن بقية الرجال. قال وهو يركن السيارة أمام سقيفة القوارب. - شكرا لاعترافك بذلك. كان مجرد رؤيته للبحر قد أعادت له قوته. كان البحر منعشا وهائجا يتوجه الزبد والأمواج التي تصطدم بالشاطئ. إنه وقت رائع لممارسة التزحلق بالشراع على الأمواج: - كوني حذرة وأنت تسبحين فقد تكون هناك تيارات ودوامات تحتية أما أنا فسأزاول رياضة التزحلق باللوح على الأمواج. قالت الشابة: - وأنا كذلك. - إنها ألواح كبيرة الحجم ولن تستطيعي التحكم فيها. - طبعا.. وهل تستطيع أنت؟ ألقى عليها "وولف" نظرة غاضبة ثم دار نصف دورة حول السقيفة حيث أخذ لوحتين للتزحلق. قال لها وهو يأخذ لوحه تحت إبطه: - حظا سعيدا. وقفت "بليندا" معترضة طريقه للبحر. - إنك لم تقل لي: ما إسمك؟ ولا ماذا تفعل هنا؟ فهل أن الأوان لتفعل؟ هل أنت صاحب المقهى أم وصيف في أحد الفنادق الكبرى؟ - أنا ممثل واسمي "وولف ويكفيلد" قطبت الشابة حاجبيها: - أوه.. لقد سمعتهم يذكرون اسم "ويكفيلد" ولكنك لست نجما.. ربما كنت ممثلا ثانويا. قال "وولف" وهو يزيحها بيده ليتجه نحو الشاطئ: - وأنت صاحبة أطول لسان... توغل وهو يرتجف في سعادة في الماء البارد من تأثير الليل وسرعان ما حملته الأمواج. وقف فوق لوح التزحلق وفرد الشراع ثم التقى نظرة خلفه. لاحظ بصعوبة "بليندا" فوق الشاطئ تحمل الشراع الضخم على كتفها ثم سحبته هبة ريح إلى وسط الزبد. أخذ يصيح مسرورا وهو يصارع ليجد الوضع الأفضل بالنسبة للريح ثم زادت سرعته. في اللحظة التي تقوس ليدور للخلف فوجئ برؤية "بليندا" في طريقه. تساءل: كيف استطاعت أن تقود لوحا بهذا الحجم وبهذه السرعة؟ إنها آتية نحوه. وأما "وولف" فكانت تحمله الرياح مباشرة إليها حاول بكل قوة أن يعكس الشراع ففقد توازنه وطار اللوح نحو السماء بينما غاص هو وسط البحر. طفا مرة ثانية فوق الماء المالحة التي كانت تلذع حلقه وتحرقه وأخذ يبحث عن اللوح الطائر. قالت "بليندا" بصوتها الضاحك: - لقد أمسكت به.. لقد قمت بدور تمثيلي رائع أجابها بصوت جاف: - شكرا. ودلو خنقها... استأنفت الشابة الحديث: - أستيقظ يا طرزان ... نحن نتعرض جميعا لهذه المواقف المضحكة ولكننا لا نموت منها و... قطعت كلامها في الحال عندما رأت في عينيه ما ينوي أن يفعله.. حاولت أن تهدئه بصوت قلق: - أنتظر.. إنني أمزح.. لا.. لا تقترب. بينما كان يتقدم منها اجتاحها خوف رهيب وتذكرت المرة التي اختفى فيها أخوها غير الشقيق تحت الماء وزاد قلقلها. غطس "وولف" تحت اللوح في اللحظة التي حاولت فيها فرد شراعها لتهرب. وبرز فجأة من الناحية الأخرى من الموجة ليمسك بكاحلها , ثم ألقى بها بدورها وسط البحر في كومة من الزبد. - ظلت لحظات تتخبط ثم فقدت سيطرتها على أعصابها و أخذت تضرب الماء بذراعيها. رفعها فوق سطح الماء.. لقد أوشكت أن تغرق. اختفت سعادة "وولف" التي أحسها وهو يمسك بين يديه فتاة الليل الشرسة وهو يرى على وجهها علامات الرعب الحقيقي بدلا من الضحك. لقد كانت تختنق حقيقة ولا تستطيع أن تسترد أنفاسها. رفعها فوق سطح الماء وهو يدعوها لأن تهدأ وتسترد أنفاسها. - أنظري إلي يا"بليندا" أرجو المعذرة ..لم أكن أقصد أن أخيفك .. لقد كنت أقصد الضحك.. أنظري إلي! كان يمسك بها بين ذراعيه وقد بدا عليه الانفعال قالت وهي تنتحب: - دعني.. لابد أن أرحل. - مستحيل.. إنك ترتجفين. أمسك بأحد اللوحين العائمين وساعدها برقة لتصعد فوقه ثم سبح نحو اللوح الثاني. استغلت "بليندا" ذلك لتنهض وتمسك بالشراع وتوجهه نحو الريح لتقفز نحو الشاطئ. أحس "وولف" بالصدمة من الرعب الذي سببه وغضب من نفسه ثم انطلق وراءها فوق لوحه. وصلا الشاطئ في نفس اللحظة تقريبا. وجرى وراءها إلى أن واجهته فجأة وهي متنمرة وقد ضمت قبضتيها استعدادا للصراع.. قال لها: - خبريني ماذا جرى؟ هيا حدثيني. قالت بصوت قاس: - سأرحل.. ولا تقترب مني. رد "وولف": - بل سأقترب ولكنك لن ترحلي. تقدم "وولف" نحوها. بحثت بعينين زائغتين عن أي شيء حولها وكأنها حيوان محاصر. قال لها: - أبقي! إنني لم أرغب في أن أسبب لك ضررا وليس هناك سبب لأن تخافي مني. رآها أمامه ضعيفة ومذعورة لهذه الدرجة وقد أغرقت الدموع عينيها فأحس بعطف غير مفهوم. همس بصوت حنون وهو يأخذها بين ذراعيه كطفلة مذعورة: - كل شيء سيكون بخير الآن. لن يؤذيك أحد. لم تعد الشابة تستطيع أن تمنع نشيجها ونحيبها. واستسلمت فجأة والتصقت به. كان العقل يحثها على الهرب ولكن جسدها كله رفض أن يطيعها. قال: - لقد كان غباء من جانبي وأنا أعتذر تماما. لماذا أحسست بكل هذا الرعب؟ هيا صارحيني. تجنبت "بليندا" نظراته. إنها لن تحدثه عن "هيكتور" الذي تعتبره شبه شقيق لها. ولا عن أسرتها ولن تعترف له بمدى شعورها بالوحدة. لقد أحست بعجز تام عن الكلام أو الإجابة. - "بليندا" لو أقسمت لك أنني لن أضايقك.. فهل يمكن أن تبقي معي؟ إنني أريد فقط أن أكون صديقك. ربت برقة كتفيها وظل يتكلم بصوت دافئ. لم تكن للكلمات أية أهمية ولكنها هدأتها وهذا هو المهم. أخيرا بدأت تحكي: - عندما كنت صغيرة كنت معتادة معاكسة شبه أخي وكان انتقامه يزداد كل مرة قسوة وفي سن الثانية عشرة كنا نلعب في البحيرة. ضغط رأسي تحت الماء أخذت أتخبط وانكسرت ذراعي.وقد استطاع "أورتون" أن يقنع زوجة أبي و أبي أن الأمر لم يكن سوى حادثة. قال "وولف" الذي ود في تلك اللحظة لو استطاع أن يقطع رقبة شبه أخيها: - يا له من قرار حكيم. تركته "بليندا" بلهجة حاسمة. - لا..لابد أن أعود. قال لها : أرجوك أن تسامحيني. وافقت الشابة بهز رأسها وابتسمت ابتسامة حزينة ثم ابتعدت ببطء. فكرة أن الوقت حان لعودتها إلى الولايات المتحدة.إنها تستطيع دائما أن تتصل بمحاسبها "بروكس" لتحصل على قرض ولكنها تخاطر بأن يعثر عليها "هيكتور" صاح "وولف" : أرجوك ألا ترحلي. إنه لا يعرفها قبل أربع وعشرين ساعة ولكن العذاب الذي عاناه وهو يراها ترحل كان حقيقيا. قالت بصوت رقيق. - لن أرحل لأعاقبك ولكن الرحيل أفضل هكذا لابد أن أحصل على تذكرة سفر بالطائرة لأعود لوطني. أقترح عليها بحيوية: - دعينا نذهب في نزهة إلى القرية ولن نتكلم إذا رغبت في ذلك. وسنتأمل البحر والعصافير والسفن التي تدخل الميناء وتخرج منه. لم يسبق ل "وولف" أن توسل لأحد من قبل ولكنه أحس بالحاجة لذلك لأسبابه العديدة التي لا دخل لها بغريزته. أحس بالارتياح عندما وجدها توافق. - يجب أن تتخلصي من هذه الملابس المبتلة. الآن وقد وافقت فإن "وولف" لم يمنع نفسه من تأمل تفاصيل جسدها الرائعة. اقترح عليها أن ترتدي قمصانه الموجودة في السيارة الچب. قالت وقد أدركت في دهشة أن كل الخوف قد ذهب عنها: - ولكنه واسع جدا. ثم ماذا أرتدي تحته؟ - آه.. واضح. ولكن القميص من القطن السميك وسيصل إلى ركبتيك و أعتقد أنه سيناسبك إلى أن تجف ملابسك. قالت بطريقة طبيعية للغاية: - لا بأس. قلبت ابتسامته قلبها رأسا على عقب. اجتاحته رغبة عارمة فقفز نحوها ولكنها تجنبته ببراعة ثم تبعها حتى السيارة وكأنه يسير على قشر بيض. تساءل: ما هذه الأهمية التي أصبحت هذه الفتاة عليها بالنسبة له؟ أعطاها القميص وراقبها وهي تبتعد نحو سقيفة إصلاح القوارب في خطوات رشيقة متماوجة مثيرة. أحس بأنه لاشيء بالنسبة لها.. إن "بليندا" ساحرة رهيبة وطفلة مبهمة لا يستطيع أن يفهم أعماقها. بدَّل هو أيضا ملابسه خلف السيارة. استغرقا بضع دقائق ليصلا إلى القرية القريبة وابتاعا خبزا وسجقا جاهز الطهي من محل على الناصية. عادت ل"بليندا" روحها المرحة وضحكاتها الرنانة مما أصاب "وولف" بعدوى السعادة. وعند البقال اشتريا مفرشا وأطباقا وسلة ليضعا فيها طعام الرحلة بعد إضافة الزيتون وعصير الفواكه وزجاجة مياه معدنية. عادا إلى السيارة والتقت نظراتهما لحظات وتشابكت وهو يفتح لها باب السيارة.. سألها وهو يجلس خلف عجلة القيادة. - هل أنت جائعة؟ زفرت "بليندا" - وعطشى. فكرت في صمت أنها أيضا سعيدة. لم يسبق ل"وولف" أن كان الناس يشاركونه متعته أم لا. ولكن فجأة أصبح ذلك أحد اهتماماته. ظل لا يعير اهتماما للصوت الداخلي الذي يكرر عليه أنه من غير المجدي إقامة علاقة مع "بليندا". إنها صغيرة للغاية وبرزت في حياته في اللحظة التي يجب عليه فيها أن يركز ويستثمر كل جهده في عمليه لينجح. غادر القرية وعاد إلى التلال. كانت قيادته بطيئة وعاقلة وعندما وصل إلى السهل كانت الفتاة قد استغرقت في النعاس. خطر ببال "وولف" أن الخوف المرعب الذي سببه لها شبه أخيها هو كابوس متكرر لم تتخلص منه بعد. إنه يريد من الآن فصاعدا أن يعرف عنها كل شيء حتى يستطيع أن يخترق تلك المنطقة المظلمة. مرت سحابة قلق على سعادته الحالية. هل نامت بما فيه الكفاية في الليلة الماضية؟ هل ينقصها شيء؟ لابد أن يتعقل. كل شيء على ما يرام. لقد رأى النتيجة على لوح التزحلق. إنها في حالة بدنية ممتازة. أحس بالاطمئنان وترك الأمور تجري في مجراها الطبيعي كما خلقت عاطفته الجديدة مجموعة من الأحاسيس من الحنان لم يعرفها في سنواته الأخيرة التي تركزت على طموحه ورغبته في النجاح. لقد غيرت "بليندا" من منظوره كثيرا. حتى الآن كان "وولف" راضيا وقانعا بارتباطه بأصدقائه. كان يعيش بمفرده ولنفسه ولم يهتم أبدا أن يربط مصيره بأي شخص قانعا بعلاقاته النسائية العبرة. كان قد فقد والديه وهو لا يزال صغيرا فتعلَّم مبكرا جدا كيف يتأقلم مع وحدته. ولكن " بليندا" كانت في الحقيقة الشمس والراحة له. لقد كان من الضروري أن تظهر في حياته ليعرف أنها هي التي تنقصه. كانت الريح في المرتفعات تهب بشدة. فردا المفرش في حماية صخرة ووضعا طعام الغداء عليه. أخذا يمتصان رحيق الزيتون الأسود المغموس في الزيت وقد أسندا ظهريهما على الصخرة وهما يتأملان البحر تحتهما الذي امتد سطحه اللامع إلى ملا نهاية تحت أشعة الشمس الحارقة. همست "بليندا": - كم أحب ضجة السكون! سألها: ما هي ضجة السكون؟ -إنه السكون المليء بالأشياء: همس الريح وحركة النسيم على الأوراق وصيحة عصفور أو تغريد البلابل أو تساقط قطرات المطر فوق الصخور. -------------------------------------------------------------------------------- كان "وولف" واقعا تحت تأثير سحرها. لقد أعطته "بليندا" بكلمات بسيطة حياة لصور كانت موجودة بداخله ولكنه كان يجهل وجودها في حياته التي بلغت ثماني وعشرين سنة. لقد أعطت طعما ورائحة وجمالا لهذا العالم الذي لم يهتم أبدا بأن يحس به. أخذا يتلذذان بتناول الفاكهة ويتحدثان ويثرثران بلا هدف. قلد "وولف" زقزقة العصافير وقلدت "بليندا" صوت قطرات المطر المتساقط على الصخور مما جعلهما ينطلقان في الضحك ثم غرقا في النوم وفي وقت واحد وكأنهما متفقان على لحظة معينة. عندما فتح "وولف" عينيه والتقتا بزرقة السماء أحس بشعور من الانسجام التام وهو نائم بجوارها. التقط ورقة شجرة ومررها على أنفها ليوقظها لم يسبق ل"بليندا" أن أحست بالهدوء والسكينة والكسل كما تحس الآن. أحس بأن حياتها لم تكن سوى سلسلة من العواصف الضارية منذ إصابة والديها بمرض قاتل أثناء رحلة صحراوية في إفريقيا. كانا قد أودعاها مدرسة داخلية حتى تتابع دراستها حيث وجدت فيها بعض الأمان. ولكن "هيكتور" بدأ يضايقها. لم يكن يكف عن أن يقول: لابد أن تتزوجه وتحتفظ له بميراثها قبل أن تنفقه. لم تكن تحبه أثناء حياة والديها ولكنها سرعان ما بدأت تكرهه كره العمى بعد أن زادت سماجته بعد موتهما.ومن وقتها لم تعد حياتها سوى سلسلة من الهرب المستمر والمجنون.كان "هيكتور" قد بدأ ييئس ولكنها كانت مقتنعة تماما أنه لن يكف عن محاولة تدميرها ما لم تتمكن من قطع كل الجسور.ومن الآن فصاعدا لم تعد تثق بأحد وترفض الارتباط بأي شخص.ولكن "وولف" اكتشفت أنها في أمان واسترخاء. همست له: - إن هذه السحابة تشبه الخروف وتلك تشبه النعجة. رفع "وولف" ذراعه نحو سحابة ضخمة وقال معلقا: - وهذا حمار على اليسار. كان يحس بسعادة لا تصدق وهو بجوارها يتأمل السماء والسحاب المتفرق. كان يحس كأنه صبي صغير. - يلزمك نظارات معظمة يا سيد "ويكفيلد" إن تلك السحابة لا تشبه الحمار وإنما تشبه القطار. قال بإصرار وهو يشير إلى واحدة بطرف قدمه. - ليست هذه إنما تلك. بدآ يلعبان التخمين كما يفعل الأطفال ساعات وهم ينظرون إلى السحب وانهمك "وولف" في اللعبة بحماس حتى اضطرت في النهاية لتنبهه أنها مجرد لعبة. سألته وهي تستلقي على بطنها لتتأمله أفضل: - هل كنت محروما من اللعب في طفولتك؟ - في الحقيقة كان لدي كل المال واللعب التي أستطيع اللعب بها. لقد كان والداي يحبانني كثيرا وكانت حياتنا كلها رفاهية وربما كنت أفتقد فقط تلك المسرات البسيطة الكافية لإسعاد الطفل. لقد كنا غالبا في رحلات وسفر دائم وكنت أكتشف_ بلا انقطاعات _حضارات مختلفة وطرقا معينة متنوعة. كان والداه يحبانه بطريقتهما وفي الحقيقة طريقة متقطعة تفرضها عليهما مسؤولياتهما نحو وطنهما. كان والداه دبلوماسيا وأمه تنحدر من أكثر العائلات البريطانية عراقة. وكانت السلطة هي الكلمة المسيطرة على وجودهم. ووجد "وولف" نفسه وحيدا نوعا ما. سألته "بليندا" - وهل رآك والداك وأنت تمثل من قبل - لقد مات والداي من مدة طويلة ولكنهما في الحقيقة شاهداني في دور أو اثنين. كان "وولف" يحس بأن والديه لم يوافقا- في نفسيهما-على مهنته. وكانا يأملان أن يصبح على شاكلتهما ولكنهما لم يحاولا أن يعارضا رغبته. لقد عرف "وولف" كثيرا من الناس وكان يحب بعضهم ولا يقبل البعض الآخر ولكن أحدا منهم لم يتجاوز قلعة أسراره. لم يستطع أحد أن يقترب من طبيعته إلى هذه الدرجة مثل "بليندا" رفع عينيه إلى السماء وأشار إلى سحابة: - أترين هذه؟ إنها أنت - لا قال بإصرار وعيناه تخترقان عينيها: - بل أنت.. هل أنت ساحرة يا "بليندا" - لقد اعتبروني أسوا من ذلك. لم يعرف "وولف" في أي لحظة بالضبط أمسك بيدها ورفعها ببساطة إلى شفتيه ثم قبلها ببطء.. كل أصبع على حدة. ردت عليه الشابة بابتسامتها الرائعة التي كان لها على قلبه تأثير الصاعقة والذي أخذ ينبض بشدة في صدره بينما يهتز كل كيانه بفرح صامت لا يختلط به شيء

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا