وفاء على مقبرة الموت
( مجموعة قصصية )
تأليف : مجدي محروس


القصة الرئيسية : وفاء على مقبرة الموت
من بعيد لاح القطار ..
نعم .. نعم بالقطع إنه قطار ..
فها هو نفيره القوي يأتي من بعيد ..
يا إلهي .. صوت التليفون المزعج يتردد في أذني بكل قسوة ...
بكل تثاقل وضيق أمد يدي للسماعة .. أشعر بيدي ثقيلة لا تتحرك ..
ــ ألو
أهلا عم " بيومي " ..... ايــــــــه ؟ !
مستحيل .... مستحيل
نعم مستحيل ..
مستحيل أن يموت أبي الآن ...
لم يحن موعد موته بعد ..
لأني لم أبر بقسمي بعد ..
القسم الذي أخذته علي نفسي منذ ... منذ عشرين عاما ..
لا .. إنها ثلاث وعشرون عاما وسبعة أشهر وستة عشر يوما بالتمام والكمال .. فصرخات الطفل ذي السبع سنوات ما زالت تتردد في أذني ... تدوي في أعماقي ... وكان ما حدث ماثلا أمام عيني كأنه بالأمس .. ــ أهلا يا " رفعت " اتفضل . بكل تكبر وخيلاء يدخل " رفعت " وهو يترفل في عباءته السوداء ، يهتف أبي - مرة أخري - مُرَحبًا : ــ اتفضل يا رفعت .. الشاي يا ولاد .. وجهزوا العشا يعدل " رفعت "من كُم جلبابه الغالي ، وهو يمد يده في جيبه ويلتقط مجموعة أوراق يفردها أمام أبي قائلا بصوت جهوري غليظ : ــ امضي يا " عبد الرحيم " . ــ أمضي ؟ ! أمضي علي إيه يا " رفعت " ؟ ــ ألم تقترض مني عشرة آلاف جنيه للعملية ؟ ــ عاوز وصل أمانة علي أخوك يا " رفعت "؟ ! ــ لا .. لا .. وصل أمانة إيه ؟ دا أنت أخويا يا " عبد الرحيم " . ــ وما هذه الأوراق إذا ؟ ــ تنازل منك عن الأرض والبيت الكبير . ــ إيه الكلام دا يا " رفعت " ؟ ! ــ امضي يا " عبد الرحيم ". ــ أنت نسيت أنا مين يا " رفعت " ؟ ! نسيت إن أنا في مقام أبوك ؟ نسيت إن أنا اللي مربيك ؟ أنت أكيد مجنون .. مجنون ... هبَّ " رفعت " من مكانه صارخا وهو يمسك بتلابيب " عبد الرحيم " : ــ ها تمضي يا " عبد الرحيم " وإلا ... ــ وإلا إيه يا " رفعت "... ها تضرب أخوك الكبير ؟ ــ إحنا مش إخوات . ــ دا الأب واحد . ــ لكن الأم مش واحدة . ــ عشان كده نبقي مش إخوات ؟! ــ أنا مقبلشي أكون أخ لواحد أمه كانت بياعة فجل و.... تهوي كف " عبد الرحيم " الواهنة المرتعشة علي وجه " رفعت " وهو يصرخ : ــ اخرس يا ندل . " رفعت " يتلقى الصفعة وقد احمرّ وجهه وألقي عباءته أرضا وانقضّ علي أخيه الكبير ضربا وركلا .. يقع " عبد الرحيم " أرضا والدماء تنزف من كل أجزاء جسده ... ينظر إلي " رفعت " ودموع القهر في عينيه .. ينظر إلي ابنه ذي السبع سنوات الذي يكاد يموت من الصراخ وهو يتعلق بقدم " رفعت " الذي يركله بقدمه بعيدا ... ينظر إلي بناته الصغيرة التي تولاها الرعب والفزع ... مرة أخري يلتقط " رفعت " الأوراق وهو يرفع " عبد الرحيم " من الأرض ويضعها أمامه صارخا : ــ امضي . و... مضي " عبد الرحيم " التنازل عن الأرض والبيت الكبير . " رفعت " يتطلع لتوقيع أخيه علي الأوراق في انتصار وقد لمعت عيناه في جنون ويلتقط عباءته وينطلق خارجا كما دخل في تكبر وخيلاء . أكثر من عشرين عاما مضت ولم أنس ما حدث قط .. يا إلهي .. تبا لهذا القطار اللعين ... أشعر وكأنه لا يتحرك أبد ... ولكن .. أخيرا .. ها هي قريتي تبدو من بعيد .. ها هي الحقول والأشجار .. ها هي المئذنة العالية .. ولكن ..ما هذا ؟ أشعر بأن قدمي ثقيلة جدا .. أشعر وكأنها لن تقوي علي حملي ... أبذل مجهودا خارقا لأتحرك .. آلاف الأصابع أشارت علي طريق المقابر .. آلاف الألسنة هتفت بأسي وحزن : ــ اسرع .. موكب الجنازة في الطريق . مرة أخري تتراقص أمام عيني صورة الطفل ذي السبع سنوات وهو يصرخ .. صرخاته تتردد في أذني .. تدوي في أعماقي .. و ..... - " انتظروا " . هكذا صرخت في الموكب بصوت لم يتعد حلقي أو هكذا تخيلت أني أصرخ .. ولكن العجيب أن الجميع توقفوا ونظروا إليّ .. وتناهت إلي مسامعي أصوات وضجيج ودموع ــ دا " حسن " الابن الوحيد للمرحوم . ــ ربنا يصبره . ــ لكن إيه اللي أخره ؟ ــ وحدووووووووه . لحقت بهم تسبقني أنفاسي المتلاحقة .. أفسحَ لي الجميعُ وأنا أخترق الصفوف ... وعلي الصندوق الخشبي – حيث يرقد أبي – وضعت يدي .. ولم تذرف عيناي دمعة واحدة وأنا أتفحص الوجوه وأبحث عنه .. عن " رفعت " .. كان ما زال مترفلا في عباءته السوداء وقد تصدر الموكب الجنائزي وراح يتحسس شاربه الرفيع وهو يتصنع الحزن .. لمحته بطرف عيني – التي لم تذرف دمعة – ولم أنطق .. أمام عينيّ تتراقص صورة الطفل ذي السبع سنوات وهو يبكي .. ولكني لن أبكي الآن .. لا بد وأن أبر بقسمي أولا .. وهناك .. عند المقابر انقسم ذلك الحشد الهائل إلي صفين .. اخترقت الصفين وراء الصندوق الذي يحمل جسد أبي .. تطلعت إلي المقبرة وقد فُتح بابها كفكي وحش مفترس .. استعد البعض كي يضعوا أبي في مثواه الأخير .. وهنا .. انطلقت صرختي .. صرخة قوية تردد صداها في أرجاء المكان ــ انتظروا . تطلع إليّ الجميع في ذهول .. ترددت صرختي مرة أخري وأنا أنظر إلي رفعت : ــ تقدّم .. لقد أوصاني أبي بألا يدفنه أحدُ غيرك . تقدم " رفعت " في خيلاء مخترقا الصفوف وهو يعدل عباءته كعادته وقبل أن تلمس يداه الصندوق صرخت في وجهه وسط ذهول الجميع : ــ فاكر يا " رفعت " ,, فاكر لما كان عندي سبع سنين وأنا متشعلق في رجلك وأنت بتضرب أبويا والدم عمال ينزل من جسمه عشان يمضي التنازل عن الأرض والبيت . " رفعت " يتطلع إليه في ذهول ولا يرد ... الجميع ينظرون للصندوق القابع علي باب المقبرة وتصدر عنهم همهمات كلها غضب وثورة ــ هذا ليس وقت الحساب . ــ ادفن أخوك يا " رفعت " . ــ كرامة الميت دفنه . ــ ادفن أبوك يا " حسن " . نفس الصرخة انطلقت من بين شفتيّ قوية هادرة : ــ لا ..... لا بد أن يدفع " رفعت " الثمن أولا .... لا بد وأن أبر بقسمي وقبل أن يواري أبي تحت التراب . الهرج والمرج يسود أمام المقبرة .. غضب الناس يتزايد .. الهمهمات تتحول لأصوات عالية رافضة غاضبة .... أشعة الشمس تزيد حدتها وتقسو في حرارتها وكأنها تشاركهم الغضب ... العرق يسيل علي الجباه والأجساد في غزارة .... ويبدأ البعض في استخدام القوة في دفن الرجل .. وفجأة .. يبرز فوق أسطح المقابر ... عشرة رجال أقوياء أشداء .. بيد كل منهم عصا غليظة .. كانت ملامحهم مألوفة .. ولكن لا أذكر أني رأيتهم من قبل .. وراحوا يهتفون بصوت قوي وعميق في آن واحد : ــ " لا بد وأن يبرَّ الفتي بقسمه " . الجموع تتطلع للرجال العشرة في خوف ولم يحركوا ساكنا و" رفعت " قد التصق بجدار المقبرة في خوف ورعب .. تطلعت للرجال في امتنان وانقضضت علي رفعت في غضب .. وانهالت صفعاتي عليه .. وقعت عباءته تحت الأقدام .. سالت دماؤه .. من جيبي أخرجت ورقة فردتها أمام عينيه وناولته قلما و... وقع " رفعت " تنازلا عن الأرض والبيت الكبير . ــ لا أريد أن أراك هنا ... هيا . انطلق " رفعت " كالريح مخترقا الصفوف غير مصدق أنه ما زال علي قيد الحياة .. وهنا .. هنا فقط ... نظرت لجسد أبي وانهمر من عينيّ طوفان من الدموع .. الكلمات تخرج من حلقي بصوت مرتعش وهو يدخل لمثواه الأخير : استرح ... استرح يا أبي .. لقد أخذت حقك ... لقد أخذت حقك .. لقد أخذت حقـ ... و ..... - " استيقظ يا " حسن " ... استيقظ ...مفاجأة " . فتحت عينيّ بصعوبة واعتراني الذهول : ــ ما هذا ... أين أنا ؟ وما هذه الحجرة ؟ وأين المقبرة ؟ أين الـ ... ــ " استيقظ يا " حسن " ... استيقظ ...مفاجأة " . ــ من ؟ " فاطمة " ؟ ! من أتي بك عند المقبرة ؟ و ........... رباه !! ما هذا ؟ إنني لم أغادر فراشي قط .. إنه كابوس ... كابوس ... ــ ماذا تقول يا " حسن " ؟ أقول لك مفاجأة . مفاجأة ؟ ــ نعم يا " حسن " .. لقد أصاب عمك " رفعت " عيار طائش ومات صباح اليوم وعمك كما تعرف لم ينجب وكل شيء الأرض والبيت أصبح ملكك مرة أخري . ــ مات ؟ والأرض ملكي !! رباه !! ما هذا ؟ إنه الكابوس .. لا ... بل الحلم .. حلم الوفاء و ... علي مقبرة الموت . تمت بحمد الله
31/ 1 / 1995
بقلم / مجدي محروس
ت / 01225783961

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا