:ما لم يقله ماركس فعلا
من أوراق جلال
الورقة 1
ليس للمجموعة قلب يخفق .. لكن اللغة توحدهم على إيقاع كلمات بعيدة ، و ألحان جنونية .. في أعماقهم هذا الفراغ الكبير ، نافذة بلا أكرة تصطفق .. ريح تصفر ، وطواط يُلامس وجوههم .. و القلب يخفق ، و يخفق ، و يخفق .. عماذا يبحثون ؟ لم لا تفكر بهم العاصفة ، و لا المدينة ، و لا الأبواب ، و لا الفناءات ..
ما الذي يوجد هناك ، في الجزء الأسفل من المدينة ؟
ـ شخص أطلق رصاصة على رأسه ..
ـ أين ؟ ..
ـ في تلك الخمارة ...
ـ شخص ما انتحر هناك ...
ـ انتحر أم كان يلعب لعبة الموت ؟ ..
من النافذة فتاة تمشي وحدها في الليل .. فتزدحم وجوههم على النافذة تبحث عم أمل ما .. ابتسامة عابرة .. عن بريق ، عن ومضة
***
:و شرف أختي قال ماركس
رفع يده النحيفة و القوية مثل يد حطاب ، و قال : " الكذابون يحصلون على كل شيء " .. كان جالسا على أريكة قديمة من الجلد الأسود ، و قدماه على سجادة تركية حمراء غطاها الغبار بسبب الأقدام المتسخة .. " ماركس قال هذا " .. أردف بصوت خافت و هو يُطلق دخان سيجارته في الهواء ..
يسمونه الأستاذ ، لأنه كان معلما في الأرياف في بلده العراق ، في الموصل ، و قد وصل هنا طالبا اللجوء السياسي من السلطات ، مدعيا أنه كان شيوعيا في الماضي ، و قد تعرض للاضطهاد ، و لكنه لم يحصل عليه ، ببساطة لأنه لم يثبت أنه سياسي في أي يوم من الأيام ، سوى إصراره على تلفيق جمل لم يقلها ماركس بحياته أبدا ..
و على الرغم من أمر الشرطة الصريح بترحيله خارج البلاد إلا أنه لم يغادر و بقي متخفيا بأوراق مزيفة و باسم مزيف هو " أمين " ، و مع أن اسمه الحقيقي هو " جورج " ، لم يستخدم أيا منهما على الإطلاق ، بل عُرف بالأستاذ ، بين أصحابه ، و حتى مع المجموعة الغبية التي عمل معها في التهريب ..
فبسبب عدم قدرته على العمل القانوني انتهى به الأكر إلى العمل في التهريب مع عصابة غير محترفة أبدا ، و كان يقول لهم إنه من عشيرة عراقية تدعى التنانين الضاحكة ، تقطن قرب الآثار الآشورية في الموصل ، و إن والده كان مسيحيا جوالا بلا إنجيل ، و أمه كانت بدوية ، غير مسلمة ، تملك جملا ..
و أنه نشأ في منل قزم عجوز ، لا دين له ، و إنه عاش بلا إسم و لكن إحدى السيدات البدينات أخطأت و نادته باسم " أمين " .. لا يعرف هو لماذا نادته به ، و هكذا سار عليه و أصبح هذا الإسم اسمه ، بينما كان يُفضل أن يُسمونه أي شيء غير هذا الإسم ، أست الفأر مثلا ، ذيل الثعلب ، خرطوم الفيل .. أي شيء
أما عن مهنته فإنها الأكثر سوداوية ، فقد قال لهم إنه أراد أن يعمل فيما مضى كمروض للأسود ، إلا أنه انتهى به الأمر أن يُصبح لاجئا
****
جلال وحده الذي يعرف أن الأستاذ ليس ماركسيا حقيقيا ، بل هو خليط من كل شيء ، متدين و مهرب ، شريف و خاطئ ، نبيل و كاذب ، و لكنه غير محظوظ بالمرة ، و الأكثر من هذا أنه لا يعير الأفكار أهمية على الإطلاق ..
و لكنه إذا أراد أن يؤكد شيئا على أنه حقيقة يقول :
" ماركس قال هذا ، و الله و شرف أختي ماركس قالها " ..
ـ ماذا ؟ قال له " جلال " مستغربا ، و كان يريد أن يعرف فيما إذا كان ماركس قال فعلا هذه الجملة أم لا ..
قال لجلال مؤكدا ، و بشيء من الغضب ايضا : " قلت لك ماركس قال هذا .. و شرف أختي قالها " ..
ـ أين ؟ لم أسمع بهذا أبدا ..
ـ هل كنت مع ماركس حتى تعرف كل ما قاله في حياته ؟
ـ لا ، و لكن هذه جملة ممكن أن يقولها آل باتشينو في فيلم من أفلام هوليود و ليس ماركس ...
ـ اسكت ، أنت تدعي دائما بأنك أفهم شخص هنا ، في هذا المكان ، و هذا يُثير حنقي حقا ...
لفظ الأستاذ هذه الجملة بحدة و توتر ، أسكتت جلالا الذي كان منشغلا بإصلاح راديو قديم ، مغطى بغطاء بلاستيكي رخيص أحمر اللون ، و قد اسودت مفاتيحه من طبع الأصابع غير النظيفة عليه ..
لم يرُق له أن جلالا غير مصدق له ، فنهض من مكانه ، متصنعا تذكر الحادثة :
ـ اسمع .. قالها ماركس لإنجلز .. على ما أتذكر ... ربما كان يتحدث معه عن ثورة 1848 ، لا أعرف بالضبط أين قرأت هذا و لكني متأكد ..
قال الأستاذ هذه الجملة و قد بدا واثقا بشكل أعمق إلى درجة أن جلالا لم يفتح فمه ، و لكن المصارع الأصلع و الذي تغطي يديه وشوم كثيرة ، و هو في العادة لا يتدخل في هذه الأشياء ، حين سمع الرقم ، ظنهم يتحدثون عن المال ، فسأل :
ـ كم ؟ قال له الأستاذ :
ـ اسكت .. أنت حمار لا تعرف من هو ماركس ..
ـ بلى أعرفه ...
ـ أنت لا تعرفه .. لا تكذب ..
ـ أعرفه .. لديه لحية تُشبه لحية الحاج فؤاد