بائع القبعات السحرية

بائع القبعات السحرية
قصة قصيرة لـ
محمد رضا عبد الله
" ليت الشباب يعود يوما "
قرأت (سعدية) تلك الكلمات على حاوية الشاحنة الكبيرة أثناء تجوالها فى المولد .. ثم تأملت صورة الفتاة الجميلة المرسومة تحت الجملة .. إنها تشبهها كثيرا عندما كانت فى مرحلة الشباب .. ثم قرأت جملة أخرى تحت الصورة بخط كبير ولون مختلف : " سحر الشباب الدائم " رأت ما يشبه الطابور يقف خلف الشاحنة .. ثلاث سيدات مسنات ينتظرن دورهن .. جذب الأمر انتباهها .. (ما الذى يبيعونه هؤلاء التجار ؟) .. إن المولد يضم تجار من بلدان مختلفة .. يبيعون مختلف أنواع البضائع .. لذا من الصعب إجابة السؤال . لقد تجولت فى المولد كثيرا واشترت الكثير .. وكانت قد قررت العودة للمنزل قبل أن تلمح تلك الشاحنة .. أثار الأمر فضولها .. وقفت خلف السيدات الثلاث تنتظر دورها .. سألتهن عن الأمر .. أخبرنها أنهن لا يعرفن شيئا . بعد دقيقة من الانتظار خرجت سيدة مسنة من الحاوية الكبيرة تحمل بيدها اليمنى قبعة غريبة الشكل وهى فى قمة سعادتها .. سألتها (سعدية) : ـ ما الذى يحدث بالداخل ؟ ما الذى يبيعونه ؟ ضحكت السيدة واحتضنت قبعتها ولم تجب سؤالها .. ودخلت السيدة التى كانت تقف فى أول الطابور الصغير إلى حاوية الشاحنة . فكرت (سعدية) فى هذا الأمر العجيب .. لماذا كانت تلك السيدة فى غاية السعادة ؟! وما معنى (سحر الشباب الدائم) الجملة المكتوبة على الحاوية ؟! ما الذى يبيعونه بالضبط ؟! .. هل يبيعون مستحضرات تجميل ؟ .. هل يبيعون وصفات سحرية تحوّل العجوز إلى صبية ؟ .. ولماذا لا يعرضون بضاعتهم على الملأ ؟ .. لماذا يُدخلون الزبائن واحدة بواحدة ؟! ما الذى يحدث بالداخل ؟! بعد دقائق خرجت السيدة من حاوية الشاحنة وهى تحمل قبعة أيضا ولكنها تختلف عن القبعة التى رأتها (سعيدة) مع السيدة الأخرى .. سألتها : ـ ما الذى يبيعونه ؟ ـ قبعات . أجابتها السيدة بتلك الكلمة وانصرفت على الفور .. وكانت فى غاية السعادة أيضا . مرّ الوقت بطيئا على (سعدية) حتى جاء دورها .. دخلت الحاوية الكبيرة وهى فى غاية الإثارة .. ستعرف الآن حقيقة الأمر والسر وراء تلك الشاحنة العجيبة وهؤلاء التجار وبضاعتهم الغامضة ! فتحت باب الحاوية ودخلت .. سمعت رجلا يقول لها : ـ أغلقى الباب خلفك . ألقت نظرة سريعة على الخارج قبل أن تغلق الباب .. كان هناك طابور صغير ينتظر الدخول وينظر لها بحقد لأنها سبقتهم . كانت الحاوية مضاءة جيدا بالداخل .. كان صاحب الصوت رجل فى الأربعين من عمره يجلس على مقعد صغير وحوله الكثير من القبعات مختلفة الأشكال والأحجام والألوان .. وهناك أيضا مرآة كبيرة . نهض الرجل وقال : ـ هل تعرفين ماذا نبيع هنا ؟ هزت (سعدية) رأسها نفيا وقالت : ـ لا . ابتسم الرجل بثقة وقال : ـ نحن نبيع سحر الشباب .. نبيع سر الجمال .. نبيع الرشاقة والحيوية .. هل حلمت يوما أن تعودى لسن المراهقة ؟ سعلت (سعدية) وقالت : ـ نعم يا ولدى .. كثيرا . ـ حسنا .. كم تدفعين لتحقيق هذه الأمنية ؟ ـ أدفع كل ما أملك . ـ حسنا .. اليوم سأحقق لك أمنيتك . ضحكت (سعدية) بسخرية .. لم تصدق طبعا ما يقوله الرجل لها . " اختارى قبعة " قالها الرجل وهو يشير نحو القبعات الكثيرة حوله فاختارت (سعدية) واحدة منها وقالت : ـ لكنى لا أحب القبعات . ابتسم الرجل بثقة وقال : ـ اليوم ستحبيها . لم تفهم (سعدية) سر هذه الثقة المفرطة .. ثم سمعته يقول : ـ هيا .. البسيها الآن . أطاعته السيدة العجوز وهى تشعر بخيبة أمل شديدة .. كانت تظن أن الأمر به سحر ما .. لكن يبدو أن الرجل يستغل كلماته المعسولة فى بيع القبعات للنساء .. يُوهم السيدات أن ارتداء القبعات هو سر الجمال .. أى سيدة ستبدو أصغر سنا حينما ترتدى قبعة شبابية .. وتذكرت إعلان التليفزيون الذى يخبرها دوما أن (سر جمال المرأة هو شعرها) .. وكأن الشعر أهم شىء فى جسد المرأة ! صاح الرجل فجأة وهو ينظر إليها : ـ يا إلهى ! ما هذا الجمال ! لم أكن أتخيل أنك ستصبحين بهذه الروعة .. إنك الآن أجمل من نجمات هوليود . ـ ما الذى تقوله يا ابنى ؟ اعترض الرجل قائلا : ـ (ابنك) !!! إنكِ الآن أصغر منى بعشرين سنة ! ـ كم عمرك ؟ ـ واحد وأربعين . ابتسمت (سعدية) .. فهى تعلم أنها أكبر منه بعشرين عاما تقريبا .. ولن تقتنع بالعكس .. وشعرت أنها أذكى من الأخريات اللاتى سبقنها .. لن يقنعها حديثه المعسول بشراء قبعة تافهة ! .. قال لها : ـ أنتِ لا تصدقينى ! أرى هذا فى عينيكِ .. حسنا .. تعالى .. انظرى لنفسك فى المرآة . وأشار الرجل إلى المرآة الكبيرة التى تقع فى نهاية الحاوية .. فاتجهت (سعدية) نحوها بخطوات متثاقلة فهى تعلم شكلها جيدا .. لن يتغير بلبس قبعة أبدا .. ثم نظرت إلى انعكاسها هناك .. و ... " ما هذا ؟ " ظنت (سعدية) أن هناك فتاة شابة تقف خلفها وتظهر فى المرآة بدلا منها .. لكن الشابة ترتدى نفس ثيابها ونفس القبعة ! .. إنها هى إذن ! لم تصدق (سعدية) ما تراه .. لقد تحولت إلى شابة فعلا ! هذا سِحر إذن ! تحركت أمام المرآة لتتأكد أنها هى .. رفعت ذراعها فرفعت صورتها فى المرآة ذراعها .. إنها هى حقا ! ـ ما رأيك الآن فى هذه القبعة السحرية ؟ قالت بمنتهى السعادة : ـ يااااه .. كأنى أرى نفسى عندما كنت فى الثانوية العامة .. لقد أعدتنى إلى سنوات بعيدة . ـ لو سرت الآن فى الطريق مرتدية هذه القبعة سوف يعاكسك الشباب وربما يتحرشون بكِ . تنهدت (سعدية) تنهيدة طويلة .. ثم تذكرت آخر شاب قابلها فى المولد منذ دقائق .. قال لها (انتبهى يا حاجة .. كادت الشاحنة أن تدهسك يا جدتى) .. ابتسم الرجل وقال : ـ والآن كم ستدفعين يا آنسة ؟ ضحكت قائلة : ـ آنسة ! ـ نعم .. فأنتِ الآن آنسة فى ريعان الشباب .. ولولا أنى متزوج لطلبت يدك الآن . ضحكت (سعدية) وضربته بكفها على كتفه بخفة .. ثم لاحظت التجاعيد على ظهر يدها فقالت : ـ ولكن .. هناك تجاعيد فى يدى ! ـ اطمئنى يا شابة .. كل هذا سيختفى مع الارتداء المستمر للقبعة . ـ إلى متى سأرتديها ؟ ـ كما تحبين .. يمكنك أن ترتديها للأبد .. إذا لبستها ستعودين لسن الشباب وإذا خلعتها ستعودين لسنك الحقيقى وهكذا .. لكن ستخلعيها الآن طبعا .. قبل خروجك من الشاحنة حتى لا يلاحظ أحد تحولك فى السن . ـ معك حق . ـ ولا تلبسيها مرة أخرى اليوم .. هذه نصيحة .. إذا خلعتها فى أحد الأيام لا تلبسيها فى اليوم نفسه . ـ لماذا ؟ ـ هذه شروط الاستخدام .. إن من لبسوها فى نفس اليوم الذى خلعوها فيه ندموا أشد الندم .. لذا إذا قررت فى يوم ما خلعها لا تلبسيها فى نفس اليوم .. والبسيها فى اليوم التالى .. الأمر بسيط . ـ حسنا .. كم تريد ثمنا لهذه القبعة ؟ ابتسم الرجل ابتسامة عريضة وقال : ـ ثلاث آلاف جنيه فقط . شهقت (سعدية) وقالت : ـ إن المبلغ كبير . ـ لقد قلتِ منذ دقائق أنكِ مستعدة لدفع كل ما تملكين .. ألا تساوى هذه القبعة السحرية هذا المبلغ التافه ؟ .. إن عملية التجميل الواحدة تتكلف آلاف الجنيهات ! غمغمت : ـ ولكنى لا أملك هذا المبلغ الآن .. هل يمكن أن تنتظر للغد ؟ وسوف أتدبر المبلغ . ـ كم معك الآن ؟ ـ لقد صرفت المعاش اليوم .. ولكنى اشتريت أشياء كثيرة من المولد .. أظن تبقى معى الآن ألف جنيه أو أقل . ـ حسنا .. أعطنى ما معك الآن .. وسوف أنتظر باقى المبلغ اليوم . ـ ألا يمكن تخفيض المبلغ ؟ بعد إلحاح طويل منها قال : ـ حسنا .. ألفان .. ولكن لا تخبرى أحدا بهذا التخفيض . أعطته (سعدية) المبلغ الذى كان بحقيبتها .. فقال لها : ـ هذا أقل من ألف جنيه ! ـ حسنا .. خذ ما اشتريته من المولد . نظر إلى محتويات الحقائب وقال : ـ حسنا .. سأقبل هذا من أجل خاطرك فقط .. وإن كانت كلها أشياء لا أحتاجها .. وسوف أنتظر باقى المبلغ اليوم . ـ اليوم ! ألن تكون موجودا هنا فى الغد ؟ إن المولد مستمر ليومان آخران . ـ المولد مستمر .. لكننا سنرحل اليوم وسيبقى الآخرون . رفعت (سعدية) يدها لتخلع القبعة فاحتج الرجل قائلا : ـ لا .. ليس أمام المرآة . ـ لماذا ؟ ابتسم لها وقال : ـ هل تريدين رؤية وجهك الأصلى مرة أخرى ؟ ضحكت قائلة : ـ معك حق . وابتعدت عن المرآة ثم خلعت القبعة .. وخرجت من الحاوية فى منتهى السعادة .. تحتضن قبعتها مثل السيدات اللاتى سبقنها .. كأنها تحمل كنزا ثمينا تخشى أن يستولى عليه أحد ! الآن فهمت سر سعادتهن ! سألتها واحدة من اللاتى تقفن فى الطابور منتظرة الدخول والفضول يقتلها : ـ ما الذى يحدث بالداخل ؟ ما الذى يبيعونه ؟ أجابت بنفس الإجابة التى سمعتها من قبل .. قالت باقتضاب : ـ قبعات . وغادرت المكان مسرعة وهى تتذكر ما قاله بشأن شروط الاستخدام .. إذا خلعتها فى أحد الأيام لا تلبسها فى اليوم نفسه . ـ إن من لبسوها فى نفس اليوم الذى خلعوها فيه ندموا أشد الندم .
***
دخلت إلى الحاوية امرأة تغطى وجهها .. نهض الرجل وقال لها : ـ هل تعرفين ماذا نبيع هنا ؟ هزت المرأة المنتقبة رأسها نفيا .. فأكمل : ـ نحن نبيع سحر الشباب .. قاطعته قائلة بصوتها العذب : ـ ولكنى بالفعل فى مرحلة الشباب .. إن عمرى خمس وعشرين عاما . اندهش الرجل مما سمعه .. لقد تعوّد على أن زبائنه كبار السن .. ومعظمهم نساء .. هذه أول زبونة فى هذا السن الصغير ! وصوتها العذب يوحى أنها ذات جمال خارق .. لا يمكن لصاحبة هذا الصوت الساحر أن يكون جمالها عاديا ! ما الذى تريده إذن طالما أنها فى ريعان شبابها ؟ كشفت وجهها له وهى تكمل بحزن : ـ ولكنى تعرضت منذ سنوات لحادث مأساوى جعلنى بهذا الشكل . كانت صدمة عنيفة للرجل .. رأى وجهها المشوه وعرف منها سبب إخفائها له .. كانت تخشى حديث الناس عنها فور رؤية وجهها .. الناس لا ترحم .. كانت تغضب من رؤية تعبيرات وجوههم وامتعاضهم واشمئزازهم ونفورهم منها . ـ لم يتقدم أحد للزواج منى .. كل صديقاتى وزميلاتى تزوجن .. إلا أنا .. وأظن أنك تفهم السبب . ـ ................ . ـ أنا لا أريد أن أكون شابة فأنا بالفعل شابة .. أنا أريد أن أكون عجوز لكن صاحبة وجه مقبول .. فهل هذا ممكن ؟ تحاشى الرجل النظر إليها ، وقال مبتسما : ـ اطمئنى .. الحل عندى .. ولكن كم تدفعين مقابل تحقيق هذه الأمنية ؟ قالت الفتاة غير مصدقة : ـ أدفع عمرى كله . ابتسم الرجل وقال : ـ اختارى قبعة . اختارت الفتاة قبعة حسب ذوقها ثم لبستها .. فقال الرجل ناظرا لوجهها : ـ يا إلهى ! .. ما هذا الجمال الخارق ! لم أكن أتخيل أنك ستصبحين بهذه الروعة .. إنك الآن أجمل من نجمات هوليود . نفس الجملة التى قالها لعشرات قبلها وسيقولها لمئات بعدها .. لم تصدق الفتاة ما سمعته منه .. إن آخر جملة غزل سمعتها كانت منذ قرون سحيقة ! .. لقد نسيت إحساس أن تكون جميلة فاتنة حسناء الوجه ويطاردها الشباب بعبارات الغزل أينما حلت . قال الرجل نفس الجملة التى يقولها دوما : ـ أنتِ لا تصدقينى ! أرى هذا فى عينيكِ .. حسنا .. تعالى .. انظرى لنفسك فى المرآة . اتجهت الفتاة نحو المرآة الكبيرة .. ثم صدمته بقولها : ـ لم يحدث شىء ! .. لم يتغير شكلى على الإطلاق !
***
نظر الرجل إلى المرآة ورأى انعكاس وجه الفتاة .. كانت مفاجأة كبيرة له .. لم يتوقع هذه النتيجة .. أبعد نظره عن المرآة بسرعة حتى لا ترى الفتاة انعكاسه . قالت الفتاة وهى على وشك البكاء : ـ هل كنت تخدعنى ؟ .. لماذا كذبت علىّ ؟ قال محاولا تصحيح خطئه والبحث عن سبب معقول : ـ آسف .. كانت الإضاءة سيئة ولم أركِ جيدا .. توقعت أن النتيجة واحدة مثل من سبقوكِ .. لكن يبدو أنكِ قد اخترت القبعة الخطأ .. حسنا .. ابحثى معى هنا عن قبعة أخرى . ـ لن أبحث .. ولن تخدعنى مرة أخرى . ـ اسمعينى جيدا .. أعدك أنى سأحل لك مشكلتك .. ولن تخسرى شيئا إذا بحثتِ معى عن القبعة المناسبة لكِ . اقتنعت الفتاة بحديثه .. مازال هناك أمل ! ـ عن أى قبعة بالضبط أبحث ؟ ـ إممممم .. ابحثى عن (القبعة المثالية) التى تندمج مع دهاليز عقلك وشرايين قلبك ونهر روحك وبحر كيانك ومحيط مشاعرك . لم تفهم الفتاة شيئا فسألته مندهشة : ـ ماذا ؟! تركها الرجل مشغولة فى البحث بين القبعات واتجه نحو المرآة وعبث بالعدّاد المثبت بجانبها وهو يسألها : ـ متى تعرضت لهذا الحادث ؟ ـ منذ سنوات . ـ كم كان عمرك وقتها ؟ ـ كنت فى التاسعة عشر .. لماذا تسأل ؟ ثبّت الرقم فى عدّاد المرآة عند (الثامنة عشر) ثم عاد للفتاة وقال لها : ـ هيا .. اختارى واحدة . قالت الفتاة بارتباك : ـ أنا حائرة .. لا أفهم معنى (القبعة المثالية) ! انحنى الرجل وأمسك أقرب قبعة ليده حتى لا يضيع الوقت .. دون أن ينظر لشكل القبعة حتى .. وقال : ـ هذه تصلح . لبست الفتاة القبعة وهى ليست مقتنعة بشكلها الغريب ولا لونها .. ولكنها كانت يائسة وتبحث عن أى أمل ! .. لا تريد الاعتراض .. تريد حلا لمشكلتها حتى لو اضطرت إلى لبس طربوش أحمر رجالى أو وضع شمعدان على رأسها مثل الراقصة فى الموالد ! نظر الرجل إلى انعكاسها فى المرآة ليتأكد قبل أن يقول أى شىء ثم .. ـ تعالى بسرعة .. لقد حُلت المشكلة . وجلس على مقعده مسترخيا .. كانت الفتاة مبهورة بشكلها الجديد .. كادت أن تبكى وهى ترى نفسها كما كانت منذ سنوات قبل الحادث .. رقصت من فرط سعادتها ونسيت أن هناك رجلا يشاهدها .. كانت تريد أن تحتضن الرجل وتقبله لأنه حقق لها أمنيتها بالفعل .. رأت نفسها جميلة للغاية .. بالضبط كما كانت منذ سنوات .. الآن سيطرق بابها عشرات العرسان .. بل مئات . ـ ما رأيك الآن يا آنسة ؟ لقد وعدتك ونفذت وعدى . قالت مبهورة : ـ أنت ساحر ! ساحر حقيقى ! ابتسم الرجل فى رضا وتواضع مصطنع .. وسألها : ـ كم ستدفعين مقابل القبعة ؟ أجابت دون تردد : ـ ما تريده ! ـ حسنا .. ألفين فقط .. من أجل خاطر عيونك الجميلة . قالت الفتاة بحزن : ـ لكنى لا أملك هذا المبلغ ! صاح الرجل بضيق : ـ منذ قليل كنتِ مستعدة لدفع عمرك كله .. أما الآن ترين أن المبلغ كبير .. هل تعلمين كم تتكلف عمليات التجميل ؟ اعترضت الفتاة قائلة : ـ أنا لم أقل أن المبلغ كبير ! فقط قلت أنى لا أملك هذا المبلغ . ـ حسنا .. سأنتظرك هنا .. حتى تعودين لبيتك وتحضرى المبلغ المطلوب وعندها أسلمك القبعة . ـ لا .. أنا لا أملك هذا المبلغ على الإطلاق .. أنا لا أعمل .. إنى أعيش مع أبى .. وهو الذى يصرف على أفراد الأسرة كلها .. وأنا أحصل فقط على مصروف ضعيف . ـ حسنا .. احضرى المبلغ بأى وسيلة وستحصلى على القبعة حينها . ومدّ يده يجذب القبعة من رأسها .. أبعدتها عن متناول يده وقالت بغضب : ـ لا .. لن أتنازل عن هذه القبعة أبدا .. خذ ما تريده منى .. إلا القبعة . شعر الرجل بالحرج فسألها : ـ كم معك الآن ؟ فتشت الفتاة جيوبها وقالت : ـ بضع جنيهات .. لقد أنفقت المصروف فى المولد .. ولكن يمكن أن تأخذ هذه السلسلة .. إنها من الذهب .. سوف تحصل على مبلغ كبير من بيعها .. يمكنك أن تأخذ هذه الاسورة أيضا .. إنها ذهبية .. يمكن أن تأخذ أقراطى أيضا .. انزعها من أذنى . ـ وإذا سألك والدك عنها ؟ هل ستخبريه أننا أخذناهم ؟ ـ لا .. سأقول أنها سقطت منى أثناء التجول فى المولد .. سأقول ضاعت .. اطمئن . ـ حسنا .. اعطنى السلسلة والأسورة فقط . " حرام عليك يا رجل " سمعت الفتاة هذه الجملة تنطلق من مكان ما .. تلفتت حولها وسألت بقلق : ـ ما هذا ؟ ـ لابد أن هناك من يتشاجر بالخارج .. أنسيت أننا فى مولد ؟ كان يعلم جيدا أن الصوت أتى من كابينة القيادة .. لابد أن صديقه (أمين) كان يسترق السمع كعادته .. ولم يعجبه تصرفه الدنىء مع الفتاة المسكينة . نصحها بأن تخلع القبعة وتلبس النقاب مرة أخرى .. حتى لا يظن المنتظرين بالخارج أنه أقنعها بخلع النقاب .. ولم ينس أن يخبرها بشروط الاستخدام : ـ ولا تلبسى القبعة مرتين فى نفس اليوم .. أى أنكِ طالما خلعتها فلا تلبسيها مرة أخرى اليوم .. والبسيها غدا .. لا تلبسيها قبل الساعة الثانية عشر ليلا . سألته ضاحكة : ـ وهل ألبسها قبل الأكل أم بعده ؟
***
اقترب بائع القبعات السحرية من الجدار المعدنى الفاصل بين الحاوية وكابينة القيادة وقال : ـ (أمين) .. لا تنطق بحرف أثناء تحدثى مع الزبائن . رد (أمين) السائق : ـ لقد كنت جشع للغاية يا (نبيه) .. إن هذه الفتاة مسكينة .. لم يكن من الضرورى أن تنصب عليها وتأخذ ذهبها . قال (نبيه) البائع : ـ لن نتناقش فى هذا الآن يا صديقى .. لدى زبائنى .. وإن كان عملى لا يعجبك .. لا تقاسمنى فى الأرباح .. واترك العمل فورا .. وسأجد بسهولة سائق للشاحنة . اتجه (نبيه) إلى الباب ليفتح للزبون التالى أو الزبونة التالية .. سمع صوتا أنثويا مزعجا يقول : ـ أيها اللصوص .. أيها الأوغاد .. لقد خدعتمونى . خشى (نبيه) أن يؤثر صوت المرأة الجهورى على سُمعته فى المولد ويؤدى إلى تقليل المبيعات .. فتح الباب بسرعة ثم قال لها بابتسامة صفراء : ـ مهلا يا سيدتى .. ماذا حدث ؟ ـ لقد خدعتنى .. لقد .. قاطعها قائلا : ـ فلنتحدث بالداخل وأنا متأكد أنى سأحل لكِ المشكلة . وبمجرد أن أغلق الباب صاحت المرأة : ـ لقد خدعتنى .. إن القبعة مزيفة .. لقد جربتها فى المنزل .. ولم يحدث لى أى تغيير . ـ ألم أخبرك بشروط الاستخدام ؟ .. ألم أنصحك ألا تلبسيها اليوم ؟ .. الحمد لله أن الموضوع مَرّ على خير .. ولم يحدث أى ضرر لوجهك . صاحت المرأة بانزعاج : ـ ماذا ؟ ـ لابد أن تلتزمى بالنصائح حتى لا تضيعى نفسك .. يجب عليك ألا تلبسى القبعة فى نفس اليوم الذى خلعتها فيه . ـ حاضر . ـ والآن .. هل تريدين استبدال القبعة ؟ أم استرداد أموالك ؟ .. أنا تحت أمرك فيما تريدين .. لدى زبائن كثيرون .. ويحتاجون هذه القبعات .. هاه .. ماذا تريدين ؟ قبعة بديلة ؟ أم مالك الذى دفعتيه ؟ بعد دقائق خرجت نفس السيدة من حاوية الشاحنة وهى تحمل ثلاث قبعات فى يدها وكانت فى غاية السعادة .. لقد اقتنعت بحديث (نبيه) وأدركت أنها فرصة ثمينة لا تعوض .. لذا اشترت قبعتين أخريتين منه .. واحدة لأختها وواحدة لأخت زوجها .. وقد جربت الاثنين أمام المرآة قبل خروجها . كانوا الواقفين بالخارج ينتظرون رؤية ما ستسفر عنه الأمور .. هل هذا الرجل نصاب حقا كما ادعت المرأة منذ قليل ؟ لكنهم عندما رأوها وقد خرجت سعيدة حاملة بضائع جديدة .. عرفوا أن الرجل يبيع بضاعة سليمة فى غاية الجودة ! استمر البيع لساعتين أخريتين .. حتى دخلت سيدة تدعى (بهيجة) إلى حاوية الشاحنة .. لم يتوقع (نبيه) أن هذه السيدة سوف تكشف لعبته الخبيثة .. واحتياله .. وتقلب الأمور رأسا على عقب .. وبدون تخطيط مسبق !
***
الجـزء الثـالـث
كان (نبيه) يشعر بالإرهاق الشديد من كثرة التعامل مع الزبائن .. لكن المال الكثير الذى جمعه كان ينسيه أى تعب أو إرهاق . دخلت (بهيجة) إلى الحاوية .. امرأة فى الخمسين من عمرها .. قال (نبيه) بآلية شديدة : ـ هل تعرفين ماذا نبيع هنا ؟ .. نحن نبيع سحر الشباب .. نبيع سر الجمال .. نبيع الرشاقة والحيوية .. هل حلمت يوما أن تعودى لسن المراهقة ؟ .. كم تدفعين لتحقيق هذه الأمنية ؟ .. هيا .. اختارى قبعة .. والبسيها . كان يتكلم دون أن ينتظر جوابا منها .. ربما لاختصار الوقت ومقابلة الكثير من الزبائن . ـ يا إلهى ! ما هذا الجمال ! لم أكن أتخيل أنكِ ستصبحين بهذه الروعة .. إنك الآن أجمل من نجمات هوليود .. أنتِ لا تصدقينى ! أرى هذا فى عينيكِ .. حسنا .. تعالى .. انظرى لنفسك فى المرآة . ونظرت (بهيجة) إلى نفسها فى المرآة وكانت المفاجأة المذهلة !
***
" يا إلهى ! ما هذا ؟ " قالتها (بهيجة) بدهشة شديدة وهى تقف أمام المرآة الكبيرة .. كان (نبيه) هادئا .. توقع أن المرأة مندهشة لأنها رأت انعكاسها فى سن الشباب .. لقد رأى الكثير من الاندهاش طوال اليوم .. لقد صار الأمر مملا جدا بالنسبة له . سألها بكل ثقة : ـ كم ستدفعين مقابل هذه القبعة السحرية ؟ .. ما رأيك فى ثلاث آلاف جنيه فقط ؟ ـ ولا مليم طبعا . كانت الإجابة صادمة .. لقد تعوّد على إجابات مثل (عمرى كله) أو (كل ما أملك) أو (أعز ما أملك) . نهض من مقعده وسألها : ـ لماذا هذا الـ .... بتر جملته عندما نظر إلى المرآة ورأى هناك رجلا يرتدى فستان .. فستان كالذى ترتديه (بهيجة) بالضبط ! إنها (بهيجة) فى هيئة رجل ! كيف هذا ؟!!! سألته (بهيجة) : ـ ما حكاية هذه القبعة ؟! كان (نبيه) مندهشا مما يراه .. وراح يلقى نظرة على العدّاد .. ويتحسس المرآة بقلق وتوتر .. لا يعرف أين الخطأ بالضبط ! خلعت (بهيجة) القبعة أمام المرآة دون أن ينتبه (نبيه) إلى ذلك .. فرأت نفسها فى نفس هيئة الرجل .. فصاحت : ـ ما هذا ؟! .. لقد خلعت القبعة ومازلت رجلا ! التفت (نبيه) لها وقال بغضب : ـ لماذا خلعت القبعة أمام المرآة ؟ ـ ما الذى حدث ؟ تحسست المرأة المنطقة المحصورة بين أنفها وشفتها العلوية .. لم تجد شاربا .. تحسست ذقنها .. لم تجد اللحية الخفيفة الظاهرة أمامها فى المرآة .. إن ذقنها ناعمة تماما .. ذقن امرأة . صاحت : ـ ما هذا ؟! كان (نبيه) حائرا .. لا يفهم سبب هذه المشكلة ! فكرت (بهيجة) بسرعة .. ثم تذكرت المرآة الصغيرة التى تحملها دائما بحقيبتها .. أخرجتها ونظرت فيها .. كانت مفاجأة جديدة ! وجدت انعكاسها الذى اعتادت أن تراه دائما فى المرآة .. فعادت لتنظر إلى المرآة الكبيرة فرأت الرجل ! سألته (بهيجة) وهى فى قمة غضبها : ـ ما حكاية هذه المرآة ؟ انهار (نبيه) على مقعده الصغير .. لا يعرف كيف يرد ! .. لقد تعطلت المرآة كما يبدو .. ولا يعرف كيفية إصلاحها .. يبدو أن الربح الحرام من ورائها قد توقف الآن . " إنها تذكرنى بنفسى عندما كنت رجلا " نهض (نبيه) من مقعده وقد فهم ما حدث فسألها مندهشا : ـ هل كنتِ رجلا ؟! أجابت بخجل : ـ نعم .. كنت ذكرا .. اسمه (بهيج) .. ولكن كان هذا منذ سنوات طويلة جدا .. ثم قمت بالعملية وتغيّرت وأصبحت (بهيجة) . ـ عندما كنتِ فى العشرين من عمرك .. كنتِ رجلا ؟ ـ نعم . صاح بكل سعادة وقد اطمأن قلبه : ـ الحمد لله .. إن المرآة سليمة . لم يدرك (نبيه) أنه قد اعترف أمام (بهيجة) بكل شىء دون أن يدرى .. قالت : ـ الآن فهمت .. إذن السر فى المرآة .. وليس فى القبعات .. إن من ينظر إلى المرآة يرى نفسه عندما كان شابا ولكن بنفس الملابس التى يرتديها الآن .. تنقل المرآة ما يحدث أمامها بالضبط ولكنها تغيّر فى سن الفرد الذى يظهر فيها .. وتبيع أنت القبعات على أنها سحرية وتخدع النساء .. بينما السحر كله فى المرآة فقط . كشفت (بهيجة) اللعبة كلها .. وخيل لـ (نبيه) أنه يسمع ضحكات (أمين) فى كابينة القيادة . توسل (نبيه) للمرأة قائلا : ـ أرجوكِ .. لا تخبرى أحدا . ابتسمت (بهيجة) وقالت : ـ كم ستدفع مقابل ألا أخبرا أحدا ؟ .. ما رأيك فى ثلاث آلاف جنيه ؟ ـ ولا مليم طبعا . ـ إذن .. سيكونوا أربعة .
***
خرجت (بهيجة) من الحاوية وهى تحمل فى حقيبتها مبلغ عشر آلاف جنيه . ظلت ترفع فى المبلغ وتساوم (نبيه) حتى وصلت لهذا الرقم .. كانت تحمل فى يدها اليمنى قبعة لتتظاهر بأنها قد اشترت أيضا مثل الآخرين . قال (نبيه) لصديقه (أمين) الذى يجلس فى كابينة القيادة : ـ ما رأيك ؟ ـ رأيى أن نرحل فورا . ـ ولكنى دفعت مبلغا كبيرا لإسكاتها . ـ أعلم .. ولكنك لا يمكن أن تضمن أبدا كتمان امرأة لسر . ـ فلننتظر قليلا حتى نعوض هذه الخسارة ! ـ إن هذه الخسارة جاءت كإنذار لكى نرحل .. لأنك ظلمت الكثير من النساء اليوم .. خاصة الفتاة ذات الوجه المشوه .. لقد لعبت بعواطفها وأملها فى الحياة السعيدة ! .. من الأفضل الرحيل الآن مع خسارة صغيرة .. قبل أن تكشف المرأة السر للجميع ونرحل بخسارة أكبر .. وقد يقبضوا علينا ويسلمونا للشرطة . اقتنع (نبيه) بما قاله صديقه (أمين) .. فخرج للسيدات قائلا : ـ سنرحل الآن .. ولكننا سنأتى غدا .. وكل يوم .. انتظرونا . كانت السيدات فى قمة الغضب لأنهم رحلوا فجأة .. دون أن يشتروا منهم سحر الشباب الدائم .. لكن إذا علمن حقيقة الأمر لفرحوا برحيلهم .
***
قاد (أمين) الشاحنة وخرج من البلدة وسأل صديقه (نبيه) الذى فضّل المكوث داخل الحاوية : ـ إلى أين ؟ ـ إلى أى بلدة أخرى لم نزرها من قبل .. نستقر فيها يوما كاملا ثم نرحل كالمعتاد فى نفس اليوم . ـ قبل أن يكتشف أحدا أن القبعات عادية . ـ أو يكتشف أحد أن المرآة فقط هى السحرية ! ـ لهذا لا تسمح لأحد بأن يلبس أو يخلع القبعة أمام المرآة .. حتى لا يرى نفسه فيها ويكتشف سرها . تذكر (نبيه) اليوم الذى اشتروا فيه هذه المرآة السحرية .. وعرف سرها .. وأدرك أن العدّاد الخاص بها فائدته تحديد السن الذى تريد الظهور به فى المرآة .. وقتها أعلن (أمين) أن المرآة بلا قيمة .. ما فائدة أن يرى المرء نفسه فى أعمار مختلفة ؟ لكن (نبيه) لم ييأس .. ورفض فكرة التخلص من المرآة .. وظل يفكر طويلا فى طريقة جيدة لاستغلالها .. طريقة مربحة تُدر عليهما الكثير من الأموال . إنهم يبيعون الآن قبعة عادية ثمنها الحقيقى بضع جنيهات إلى الزبون على أنها قبعة سحرية ثمنها آلاف الجنيهات . قال (أمين) وهو يقود الشاحنة : ـ إن أكثر ما يرعبنى هو أن يكتشف الرجال تلك الخدعة التى نقوم بها مع نسائهن .. والاستيلاء على أموالهن بالنصب والاحتيال . قال (نبيه) وهو يتأمل صورته فى المرآة وهو فى سن العشرين لأنه ضبط العداد عند رقم (20) : ـ بالنسبة لى .. إن أكثر ما يرعبنى هو التفكير فى السبب الذى يجعل المرآة لا تعرض انعكاسى إذا ضبطت العدّاد على رقم (42) .. بينما تعرض إنعكاسك فى شيخوختك حتى رقم (87) . بعد هذه المحادثة بنصف ساعة .. انحرفت السيارة عن الطريق .. لم ينتبه (أمين) للانحدار أمامه .. فتدحرجت السيارة مرات عديدة حتى استقرت فى الأسفل .. مقلوبة تماما . خرج قائدها بسرعة من الكابينة وراح يطمئن على صديقه (نبيه) .. ـ (نبيه) .. هل أنت بخير ؟ فتح باب الحاوية عندما لم يتلق ردا منه .. رآه جثة هامدة بالداخل وقد تحطمت المرآة تماما وانغرس جزء مكسور حاد منها فى رقبته انتزع منه الحياة .. ولم يصل لسن الثانى والأربعين .. وأدرك (أمين) الآن أن مخاوف صديقه كانت فى محلها .
***
تمت