الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع

الدوامة
Storm Centre

الكاتبة : شارلوت لامب
---------------------------
الملخص
----------
الجراح تكون أكثر إيلاماً إذا كانت ممن نحب .. جينى التى عذبتها و دمرتها خيانة زوجها لها، عانت الكثير من هذه الآلام لكن .. هل يخبو حبها له بعد إنفصال خمس سنوات، ام يعود القدر ليجمعهما من جديد؟ و هل تتزوج من غرانت، الرجل اللطيف المحب، أم تعود لتشتعل بنار الحب و الغيرة مع روبرتو بوجود طفله الذى يذكرها بخيانته لها؟ إنها تحبه و تكرهه ، فكيف يمكن أن يجتمع الحب و الكراهية فى قلب واحد؟

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الفصل الأول : طوق من نـــار
-------------------------------------
رن جرس الهاتف بينما كانت جيني تضع اللمسة الأخيرة على رسمها لزي جديد . . . وتأففت بنفاذ صبر . أكــثر ما يغيظها أن يقاطعها أحد وهــي تعمل , مما يقطع عليها تركيزهــا . ووضعت القلم بين أسنانها وسارت بسرعة إلى الهاتف . ـ نعم . . ؟ ـ هل لــي أن أتحدث مع الآنســة جيني نيوهام ؟ في الصوت لكنة أجنبية , وشـــيء من التردد . بدا على وجه جيني القلق والصدمــة . فقالت وهي تنزع القلم من فمها : ـ هـي . من المتحدث . ـ جيني ؟ ـ من يتكلــم ؟ ـ إيفا . وسارعت المرأة لتضيف وكأنما خشيت أن تقفل جيني الخط : ـ أنا مضطرة للاتصال بك . . إن روبرتو . . . فقاطعتها جيني بخشونة : ـ لن أتحدث عنه . . . لا الآن ولا أبداً . . . لقد قلت لك من قبل إيفا . لا أريد جرح مشاعرك . . فانا اعرف أن قصدك الخير , ولكنــــي لم أعد أعير ابنك أي اهتمام . . وردت إيفا بصوت مختنق بدا و كأنه البكــاء : ـ لم تفهمي قصدي جيني . فردت جيني ببرود : ـ بل أفهم جيداً . . أوه . لا تبكـــي إيفا ! لا يجب أن تدعي الأمر يكدرك . روبرتو لا يستحق ذلـك مطلقـــاً . وعاد صوت البكاء أعمق من قبل , ومسحت جيني شعرها بيدٍ مرتجفة : ـ إيفا . بحق الله لا تبكــي ! أنا آسفــة . وهمس الصوت المرتجف المخنوق . ـ إنه يموت . . . يموت يا جيني . وللحظــات وقفت جيني شاردة تنظر إلى السماء الرمادية . . . وبدأ تأثير الصدمة يظهر , فتقلصت معدتها , واتسعت عيناها , وصــرخت غير مصدقة . ـ مــاذا تعنين ؟ بالكـــاد استطاعت أن تلفظ الكلمات , فقد خرجت وكــأنها همسة شبح من بين شفتيها الشاحبتين من شدة التأثر . وأصدرت إيفا نحيباً جديداً وقالت : ـ كان يقود سيارته عندما انزلقت وانقلبت به , إذ فوجـــئ بصهريج زيت منقلب على الطريق . وكان هو أول الواصلين ولم يلاحظ هذا إلا بعد فوات الأوان . . وأمضى المسعفون ساعتين لإخراجه . إنه شديد الشحوب لفقدانه الكثير من الدم . ـ اوه يا إلهــي ! هل هو فاقد الوعــي ؟ ـ لهذا أتصل بك . . لقد استعاد وعيه منذ لحظات وأول شــيء تلفظ به هو اسمك . ـ اسمي ؟ وأغمضت جيني عينيها بأسى . وتابعت إيفا الحديث بسرعة وكــأنها تخاف من أن تقفل جيني الخط : ـ سأل عنك , ومتى ستأتين . . . جيني إنه يعتقد أنك ما زلت زوجته . وطال الصمت بينهما , وأنفاس جيني تتقطع , والألم فــــي عينيها . ثم ســألت بخشونة : ـ لمَ تقولين هذا ؟ ـ إن الأمــر واضح . . لقد قال : أين جيني ؟ أين زوجتي ؟ فـــي البداية ظننته يهلوس . . وبعد حين أدركت أنني مخطئة . . . جيني لقد فقد ذاكرته , نسي أي شــيء حدث له خلال الخمس سنوات الماضية . . نســـي أندرو . . . وعندما ذكرت اسمه أمامه لم يعرفه فأصبت بالصدمة , إنني خائفة . ـ وهل كان واعياً للحادثة . ـ يقول الأطباء نعم . . . ولكن الإصابة في رأســه خطرة . لقد أجروا له عملية عند وصوله المستشفى , ويقولون إنهم خفضوا من الضغط على الدماغ . . ولكن من يعلم ؟ ورطبت جيني شفتيهــا : ـ قلت . . قلت إنه يموت . هل هذا رأي الأطباء ؟ ـ أنت تعرفين الأطباء جيني , إنهم لا يعطون الجواب الصحيح , ويراوغون دائماً . ولكنك ترين الأمــور بادية على وجوههم , ينظرون إليك فتعرفين كل شـــيء بوضوح . ـ ولكن ماذا قالوا ؟ ـ أوه . . . إنه ليس على ما يرام . . إنه مصاب بشكل خطير . . كما قالوا لي , والآن قالوا إذا استطعت المجيء . . سيكون هذا أفضـــل . ـ إذا استطعت ؟ واتسعت عيناها , وأصبح اخضرارهما شديداً مقارنة مع بياض بشرتها . . وعضت على شفتها وقال ببطء : ـ إيفا . . لا يمكنني الحضور . ـ إنه يسأل عنك طوال الوقت , يريد أن يعرف لِمَ لــم تزوريه . أوه . . جيني . . ألا تستطيعين فهمي ؟ إنه يعتقد أنك كنت معه في السيارة ساعة الحادثة , وأنك مُت , وأننا نخفي الخبر عنه . راقبت جيني عصفوراً طار من على شجرة قريبة , فارداً جناحيه دون صعوبة . يرتفع وينجرف مع الهواء الحار . . إنها لا تستطيع التفكير بروبرتو سوى إنه قوي وشرس , ولا تستطيع أن تتصور بأنه سيموت . فهو دائماً كان بالنسبة لها مفعم بالحياة . ثم تابعت إيفا : ـ أعلم أن معاملته لك كانت سيئة . الملاحظة جعلت شفتي جيني تلتويان بمرارة وقالت قبل أن تستطيع منع نفسها : ـ ما هذا التصريح المتأخــر ! ـ ولكنه يموت ! لا يمكنك رفض رؤيته . . جيني . . تعرفين أنه لا يمكنك . صحيح . . إنها تعرف , وهذا ما جعلها غاضبة , وقد غلف الحزن نظراتها , وهــي تتطلع من النافذة , وتابعت إيفا بســرعة : ـ ســأرسل لك سيارة . وكل ما عليك فعله أن تقفــي قرب سريره لبضع لحظــات ليرى أنك سالمة . . وهذا لن يؤذيك يا جيني . كان فــــي كلامها سخرية خفيفة , أدهشت جيني , فلطالما كانت إيفا لطيفة معها . . فقالت بقلق : ـ لا بأس . فتنهدت إيفا ارتياحاً . أقفلت جيني الخط , وأخذت تحدق في السماء . . المطر ينهمر , رذاذ خفيف ينقر الزجاج وكـــأنه الأصــابع . لم تر روبرتو منذ خمس سنوات . . ولقد عانت كثيراً لتتخلص من ذكراه ولتمسح طيفه من عقلها الباطن . . كانت تحلم به ليلة بعد ليلية ولسنوات . . كارهة نفسها لعدم قدرتها على السيطرة على مخيلتهــا . التقيا وكانت لا تزال صغيرة . . لا خبرة لها بالحياة . . وتقبلت طابع شخصيته الأكبر سناً والأقوى دون أن تدرك حتى ما كان يحدث لها . روبرتو , وبطرق كثيرة , كان يجعلها طيعة له . . يعيد قولبتها وكأنه النحات يقولب الصلصال الطري . يتمتع بفرض الغموض عليها . . ولقد مرت بنوع من الصراع الداخلي مع نفسها عندما حاولت التخلص من سيطرته . لقد كانا متناقضين . . . كان شديد السمرة بقدر ما هي شديدة الشقار . . مسيطر على نفسه بينما هي متقلبة . . هو متصلب شرس لا يلين بينما هي حساسة وسريعة العطب . . . ومن الجنون أصـــلاً أنها انجذبت إليه . . ولكنها أصيبت بالدوار لوجوده كالفراشة أمام الضوء الساطع , لا تهتم أن تحرق جناحيها . . و روبرتو اغتنم كل ما فيها من ضعف ليتمسك بها دون رحمــة . تستطيع أن ترفض الذهاب . . . بالطبع . . . و لكن إذا كان يموت . . فهل تستطيع الرفض ؟ قد لا تستطيع مواجهة عالم هو ليس فيه . حتى كراهيتها له تعطيها سبباً للحياة . تخلصت من دائرة أفكارها المجنونة القاسية , ونظرت إلى ثيابها . الملطخة بالدهان . . يجب أن تغير ثيابها وغطت رسومها , ثم دخلت الحمام , خلعت ملابسها واستحمت , ثم ارتدت فستاناً صوفياً أخضــر اللون قاتماً . عندما سمعت رنين جرس الباب كانت جاهزة , فتحت الباب فإذا بها أمام شاب صغير خطا إلى الأمام وقال مقطباً : ـ مرحبا جيني . ـ هل أنت جوليان ؟ لم تستطع أن تصدق أنه ذلك الشاب اليافع أين الخمسة عشرة سنة عندما قابلته آخر مرة . . . أين التصرفات الخرقاء , والبثور والبشرة الناعمة , من هذا الشباب ذي الأعوام العشرين , الأنيق الرقيق , بشعره الذي يصل إلى ياقة قميصه ؟ . . شبهه بأخيه أكثر بروزاً الآن من ذي قبل . . ـ كيف حالك جوليان ؟ ورد عليها بصوت خشن : ـ أنا بخير . كان دائماً متعلقاً بأخيه , فهم عائلة مترابطة . . الباستينو لهم علاقة متينة منسوجة بدقة . ولقد وجدت جيني صعوبة كبيرة في البداية في الانتساب لهذه العائلة . . وأحست في البداية بالمقاومة لها . . والعدائية . . وحتى الغيرة . . وبالتدريج أحست أنها تلبس ثوبهم , ولكن في النهاية لم تعد تستطيع الاحتمال . وأخذ جوليان منها المعطف الذي تحمله وساعدها على ارتدائه , وقال : ـ السماء تمطر . . ولدي مظلة , سنضطر إلى الركض نحو السيارة عندما نخرج . كان قد مضى زمن طويل لم تركب جيني فيه سيارة فخمة كهذه السيارة . ونظرت ساخرة إلى الفراش الأبيض المنجد , وإلى لوحة العدادات اللماعة وكـــأنها صنعت لطائرة حربية . وملس جوليان شعره الأسود إلى الخلف , واستدار لينظر إليها . ـ تبدين أكثر جمالاً ممـــا أذكرك جيني . كان في عينيه وميض إعجاب وهما تحومان حولها لتستقرا قليلاً عند الساقين اللتين برزتا من تحت حافة الفستان . وكان يمكن أن تجد اهتمامه الرجولي بها مثيراً لولا أنه ذكرها بأول لقاءٍ لها مع أخيه . وســألته : ـ كيف حاله وهل شاهدته ؟ ـ لقد رأيته . وماذا أستطيع أن أقول . . يبدو بحالة رهيبة . . لقد أحسست بالدوار عندما وقفت قرب سريره وشاهدت عن كثب ما حدث له . لطالما كان رجلاً قوياً , والآن قد أصبح حـطـــاماً . فارتعدت جيني ! ـ أنا آسفـــة ! ـ هل أنت آسفــة حقاً ؟ أتســاءل . فاتسعت عيناها : ـ وماذا تعنـــي ؟ ـ أنت تكرهينه وأنا لا ألومك , فلديك أسبــابــك , ولكن أرجوك , لا تدعـــي الحزن وأنت لا تشعرين به . لا بأس بذلك أمام أمــي , فهي رقيقة القلب لتصدق بأنك لا زلت مهتمة . . أما أنا فلا أطيق الكذب . فلو كنت مكان روبرتو , ولو كنت أموت , فلن أرغب في أن تبكـــي قرب سريري . فلمعت عيناها الخضراوان غضباً : ـ لم أكن يوماً ممثلة بارعة لأدعي أي شـيء جوليانو . . فأنا ذاهبة لأراه لأن والدتك توسلـت إلــي . . ولأجــل راحة نفســـي قبلت . . إنها فكرة سخيفة أن أراه ثانية . لو أنه في وعيه لما فكرت بالأمر . ولكن إيفا رجتني , وأنا مولعــة بأمك جداً . كان لجوليانو بقية من الذوق ليخجل , فاحمر وجهه , ووضع يداً معتذرة على ذراعها . ـ جيني . . . أرجوك . . أنا آسف حقاً . أنها الصدمة لرؤيته هكذا , جعلتني أعتقد أن لا شــــيء آمن , لاشــيء ثابت . . قد كان دائماً صخرة العائلة . . الأقوى بيننا كلنا , كان بالنسبة لــي الأب منذ وفاة والدي . أجفل جيني لهذه الذكرى . . فهي لا تريد أن يذكرها أي شــيء بأنطونيو باستينو . فقد كان عدوها منذ البداية , وآخر مرة رأته فيها أهانـها بمرارة وأذلها . ولم يخفف موته بعد ذلك بأشهر من شعورها بالكراهية له . ـ ألا يجب أن نذهب الآن ؟ ـ أوه . . أجل . بالطبع . بعد لحظات من انطلاقهما ســــألته : ـ ماذا تفعل الآن جوليانو . . . أتعمــل في المؤسســة ؟ ـ بالطبع . . وما غيره ؟ فرددت بسخرية : ـ وما غيره . . ـ أعمـــل هنا في نيويورك . ـ أوه . . لم أكن أعلم هذا . . منذ متى أنت هنا ؟ منذ سنة . أمضيت في لندن مع روبرتو ثم أرسلني إلى هنا لأكتسب المزيد من الخبرة . ـ وهل تعجبك السكنى في نيويورك ؟ ـ ليست مثل روما . وابتسم . . فابتسمت بدورها : ـ صحيح . ـ أنا مشتاق للشمــــس . ـ وهل ستعود إلى لندن أم ستقيم هنا ؟ فهز كتفيه : ـ هذا عائد لقرار روبرتو . . إذا عــــاش . وساد صمت متوتر , مرفق بأفكــار صامتة , ثم ردت عليه بغضــــب : ـ بالطبع سيعيش ! لا تستسلم جوليانو , فروبرتو لن يسمح لك بهذا لو عرف . يجب أن تؤمن بأنه سيتحسن . ـ ولكنك لا تصدقين هذا وإلا لما جئت . بساطة رده صدمتها , ونظرت إلى الطريق متنهدة والدموع تنهمـر من عينيها . إنه محق , إنها تتظاهر بالهدوء , لكن في الحقيقة . إنها تشعر بالبؤس يملأ نفسها ولا تجرؤ على البوح به . توقفت السيارة بهما خارج أبواب المستشفى الزجاجية , وخرج ليساعدها على النزول واضعــاً ذراع تحت مرفقها , وقـــال : ـ يجب أن أوقف السيارة بعيداً . انتظري هنا . . لن أتأخـــر . صحيح أن المطر توقف ولكن السماء ما زالت مكفهــرة , وكأن المزيد من المطر يتجمع تحت الغيوم , وعاد جوليان بسرعة ليمسك بذراعها ثانية . . وسارا عبر المدخل المكتظ نحو مصعد فــــي المؤخرة . ودخل وراءها جمهرة من الناس , وما أن توقف المصعد حتى بدأ جوليان يشق طريقه معتذراً ليخرجا . ولحقت به جيني , قلبها يدق بقوة جعلتها تظن أن كل من كان قربها قد سمعه . إنها لم تشاهد روبرتو منذ خمس سنوات . ودخل بها جوليان إلى غرفة الانتظار . أحست بالقشعريرة . . أسرعت إيفا راكضة نحوها , وذراعها مفتوحتان . ـ جيني . . أوه يا عزيزتي ! وتعانقتا . . الخد على الخد , رأس إيفا الأسود أقصر من رأس جيني الأشقر بقليل . كانت قد نسيت كم أن إيفا صغيرة الجسم , فبين ذراعيها بدت العجوز كالطفل لصغر بنيتها . وتراجعت جيني عنها لتنظر إلى البشرة السمراء والعينين البنيتين اللتين تحملان الحزن والألم . وبدت إيفا أكبر سناً , فمنذ خمس سنوات كانت متوسطة العمر تمضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة لتظهر أصغر سناً . أما الآن فهي تبدو مسنة . لقد انقض الزمن عليها كالذئب , فحرمها من حيويتها . وخسرت من وزنها , وتجور خداها , وأصبحت عيناها أعمق تحت حاجبيها السوداوين الكثيفين . . . وقالت إيفا مرتجفة محاولة الابتســام : ـ كم اشتقت لك . ـ وأنا كذلك . ـ كم هي الحياة ساخرة . . أخيراً عدنا والتقينا . . ولكن الأسبــاب مريعة ! ونظرت جيني إلى من حولها في الغرفة : آنا تعرفها , لم تتغير أبداً ولا شعرة منها تغيرت . كانت تجلس منعزلة , إنها الفتاة الوحيدة في العائلة . وجهها الممتلئ هادئ لا ينم عن شــيء وعيناها السوداوان دون أي تعبير . إنها أكبر ببضع سنوات من روبرتو , ومتزوجة من مهندس ايطالي . . زواجها سعيد , ولديها اربعة أولاد كما كانت تعرف آخر مرة . ثلاثة أبناء وبنت . ولكن الاولاد بكل تأكيد لا يحملون اسم باستينو ولذلك لا حساب لهم , وآنا تعرف هذا وتمتعض منه . كانت تكره جيني , لأنها لو حملت بأي طفل فسيحمل اسم باستينو . لويس كان يجلس قرب آنا . بدا سميناً و ضخماً . . كتفاه العريضان يتناسبان تماماً مع سترته المفصلة بدقة على قياسه . ولروبرتو علاقة تخلو من الود مع ابن عمه . فهو على كل الاحوال باستينو . ابن أحد ثلاثة اشقاء , عملوا جاهدين لبناء إمبراطورية باستينو . وباستمرار انتقال لويس الدائم من نيويورك إلى لندن , ومن لندن إلى روما , لم يكن عدواً لجيني . . بل على العكس فلقد حاول عدة مرات إظهار إعجابه بطريقة سمجة اضطرت معها إلى ردعه ببرود . . وها هو الآن يبتسم لها متمتماً بالتحية فردت عليه تحيته بهدوء . وجلس ولد صغير إلى جانب لويس , ويده في يده . عرفت من هو وخفق قلبهـــا ألمــاً . ولاحظت إيفا نظراتها إلى الصبي . . فقالت بنعومة : ـ إنه أندرو . انزلق الصبي من كرسيه ليأتيها راكضاً , ووضعت إيفا يدها على رأسه الأسود , وأدارته نحو جيني : ـ جيني هذا أندرو . . أندرو . . . هذه جيني . وأحست جيني وهي تنظر إلى الطفل بالغضب والتأثر معاً . إنه صورة عن أبيه . له عينا عائلة باستينو السوداوان المائلتان إلى الأعلى , يحيط بهما رموش سوداء كثيفة ترتفع إلى فوق . . وشعر أسود براق , أنف مستقيم متكبر , وجنتاه مرتفعتان . وحده فمه الزهري الناعم الملــيء بالحداثة والرقة ذكرها بذلك الفم الذي كان يجبرها يوماً على الاستسلام . ـ مرحباً أندرو . امتدت يده بأدب , وأمسكت بها . وأحست بالألم المفاجــئ للسرور الذي أحست به لملمسها . . وتفحصتها عيناه . . وكأنه يعرف كل شــيء عنها . . ولكن هل أخبروه بــشــيء بحق الله ؟ تقدمت آنا . . والامتعاض باد في كل حركاتها , وأدارته ثانية لتعيده إلى المقعد , ونظرت إيفا لابنتها , وتنهدت . . ثم استدارت إلى جيني وســألتها : ـ هل ستدخلين الآن لرؤيته ؟ عند باب الغرفة توقفت والتفتت بقلق إلى جيني . ـ ستكونين حــذرة . . ألن تفعلــي ؟ لا تدعيه يتكلم , ابتسمي له فقط . تبتسم ! وتنهدت بصمت , هل تعلم إيفا ما تطلب منها . . . ومررت يدها إلى شعرها , وحملقت عينا إيفا بالخاتم الماسي الذي لمع في يد جيني . . . فصاحت : ـ لا يمكنك وضعه . للحظات بدا عدم الفهم على جيني , ثم احمر وجهها ونظرت إلى الخاتم الماسي في يدها . وتأوهت إيفا : ـ لو شاهد هذا . . . فقاطعتها جيني : ـ ولكنني مخطوبة . . وسأتزوج قريباً . وبدا الارتباك على إيفا , وأخذت شفتاها بالارتجاف . ـ جيني . . أنت لا تفهمين . . إنه يعتقد أنك لا زلت زوجته . ـ إنه مخطئ إذن . ـ ولكن عليك أن تتظاهري لبضع دقائق . . ستسبب الحقيقة صدمة قاسية له . . . وأي شــيء يمكن أن يقلب توازنه . . فهل تستطيعين تحمل موته على ضميرك ؟ ـ أوه . . . يا إلهــي ! أنت تطلبين الكثير إيفا ! وببطء سحبت الخاتم من يدها وسألت : ـ والآن . . ماذا ؟ فتحت إيفا حقيبة يدها , وببطء مدت راحة يدها المفتوحة فأجفلت جيني مما رأته هناك : ـ لا . . لن أفعــل ! ـ إنه يموت . . . ولن تتمكني من الرفض . لن اسمح لك . وارتجفت جيني , ومدت يدها إلى الخاتم , خاتم زواجها القديم , ووضعته في اصبعها . . إنه خاتم وراثي للعائلة . . إيطالي قديم الصنع , له شكل أفعيان ملتفان , ولطالما أثار التعليقات بين صديقاتها . منذ خمس سنوات خلعته ورمته عبر الغرفة إلى والده . وانحنى أنطونيو يومها ليلتقطه , ويبتسم ببرود ويقول بلؤم : ـ سيعود الآن ليكون في اليد المناسبة التي يجب أن تضعه لولا أن تزوجك روبرتو . أمسكت إيفا بذراع جيني لتضغط عليها : ـ شكراً لك حبيبتي . هيا الآن . . إنه بانتظارك . وأمسكت بيد جيني لتقودها إلى الداخل . . التفتت الممرضة الجالسة عند الطاولة بفضول , وأخذ قلب جيني يخفق بجنون , و بدأت تحس بالتعرق في يدها وعلى مؤخرة عنقها عند أسفل الشعر . وعلمت أنها تتعمد ملاحظة تفاصيل ما حوله كــي لا تنظر مباشرة إلى عينيه السوداوين البارزتين من تحت الأربطة البيضاء . ـ جيني ! صوته كالهمس . . أخف بكثير من أن يسمع . . تقدمت من سريره . ـ كنت خائفاً من أن تكوني قتلت في الحادث ويخفون الأمــر عني . ـ كنت مسافرة . . . وعدت فور سماعـــي بالخبر . وتفحص وجهها بنظرته الساخرة المألوفة وتمتم : ـ لا بد أنك ذعرت . ولكنني أرفض الموت . عندما أخفوا عني أخبارك تساءلت اذا كنت ســأحتمل الحياة بدونك . . . ولكنني بعد رؤيتك أنا مصمم على الخروج من هنا , حبيبتي . والتفتت إلى إيفا , ثم عاودت النظر إليه , فرأته يقطب : ـ ألن تقبليني جيني ؟ انحنت فوقه مرتجفة , وقلبها يضرب بصوت مرتفع , ولامست خده بشفتيها . وكانت على وشك أن تستقيم , ولكن يده السليمة أمسكت بها , ثم لامست وجهها . . ووقعت يده فجأة وأغمــض عينيه . وأخرجتها إيفا من الغرفة وذراعها حولها : ـ إنه دائماً هكذا ! فجأة يصحو ثم فجأة يغيب . . . ولكن هذه المرة أظنه سينام مرتاحاً لعلمه أنك سالمة . شكراً لك جيني . ـ لا تشكريني . . بحق الله ! ـ أدرك أن الأمر كان محنة لك . ـ محنة ؟ كان كالجحيم . . . مم تظنين أنــي مصنوعة ؟ من حديد ؟ كنت مضطرة للوقوف هنا لتقبيله , وسماعه يناديني . . . حبيبتي . يا إلهــي . . كم أحسست بالدوار . . . وأنت تشكريني ؟ وانتزعت الخاتم الذهبي الثقيل من إصبعها وأعادته لإيفا : ـ خذي هذا . لا أريد أن تقع عيناي عليه ثانية . . أو على أي واحد منكم ! اندفعت في طريقها متجاوزة إيفا , وخرجت راكضة من المستشفى وكأنما الجن يلاحقها . . تنتحب صامتة . فــي موقف السيارات توقفت , لم تكن تدري كيف تذهب . . . وفكرت أخيراُ . . سيارة تاكسي . . يجب أن تحصل على تاكسي . واستدارت نحو مكتب الاستعلامات لتستخدم الهاتف كي تطلب سيارة تاكسي . ووجدت نفسها تواجه جوليان , الذي نظر إليها نظرة إشفاق غاضب قائلاً : ـ تبدين فظيعـــة . ـ دعني وشـــأنــي جوليان . . أرجوك ! ـ لا تكونـــي سخيفة . . ســأوصلك . وانتزعت ذراعها من يده . ـ ألا تفهم ؟ لقد اكتفيت منكم ! أريد الذهاب لوحدي . . لقد اكتفيت من عائلة باستينو . . ليوم واحد ! ضحكت بهستيريا وأكملــــــت : ـ ماذا أقول ! ليوم واحد ! بل للعمـــر كله ! وقال بهدوء جعله يبدو أكثــــر نضجــاُ من سنه : ـ أفهمـك . ولكنــــني لن اسمـــح لك بالذهاب وحــــدك , فحـــــالتك بائسة . . . ولا يجب أن تتركي لوحدك جيني . لقد أمرتني إيفا أن أبقى معك إلى أن تصلـــي شقتك . وحاولت الخلاص منه , ولكنه لم يتكرها تفعل . . . وقادها أخيراً إلى سيارته وادخلها إليها . . طريق العودة كانت أكثر صمتاً من ساعة الذهاب . خــارج شقتها , نظر إليها وهو يطفــئ المحرك . ـ جيني . . . أمــي ارادتني أن أقول لك . . . فصاحت يائســة : ـ لا أريد أن أسمع شيئاً . فتحت الباب وخرجت قبل أن يتمكن من ملاحظة ما فعلت . وخرج مستديراً أمام السيارة , ولكنها كانت قد اصبحت داخل المبنى ووجدت مفتاحها ودخلت الشقة , اقفلت الباب , واتــكأت عليه . . . تتنفس بعمق . وبدأت الدموع تنهمر على وجههــا . . وقرع جوليان الباب وناداها دون جدوى . . فهــي لن تستطيع التحرك حتى ولو أرادت . . . وأخيراً سمعت وقع أقدامه تبتعد . . . . وببطء , انزلقت على الأرض . . وغابت عن الوعـــي .
-------------------------------------
الفصل الثاني
-------------------------------------
ـ أقوى من النسيان
-------------------------------------
وقف غرانت في غرفة عملها مائلاً رأسه ينظر إلى رسوم الأزياء الملونة , بنظرات رصينة لطيفة . ـ أنت تتحسنين كل يوم . . ولسوف تلمعين في عالم الأزياء أكثر من دانــــي أتعلمين هذا ؟ ـ وهل يعلم دانــــي بذلك ؟ ضحكت ونظرات عينيها الخضراوين تتراقصان . ـ بالطبع يعلم . إنه يعرف أكثر من أي منا , دائماً يقول إنك ستصبحين رائعة . واقترب غرانت ليحدق بالخطوط الــدقيقة واللمسات الناعمة لرسم زي الفستان أمـــامه : ـ يعجبني هذا . . غريب كيف يبدو متماسكاً عن بعد , ويزداد غموضــاً عن قرب . ـ ليس من المفترض أن تنظر إليه وأنفك فوقه . واستدار لينظر إليها ضاحكاً , ثم تقدم ليحتضنها ولامس أنفه خدها مداعباً : ـ أنت لا تطاقين جيـــني . ـ ومــاذا تعني ؟ ـ جميلة , ذكية . . وهذا ليس عـدلاً . فضحكت : ـ ليس عدلاً ولمن ؟ ـ لكل إناث الأرض . ونظرت إليه بعاطفة , ومالت بطريقة كلها ثقة , ولفت ذراعيها حول وسطــه . . وهمست : ـ ولكننـــي أحبك . وارتفع حاجباه : ـ عندما أطريك ؟ ـ بل فـــي كل ثانية من اليوم . ـ هذا ما أحب سماعه . . . والآن يجب أن أذهب . . . فلدي زبون أقابله بعد قليل . ـ أيجب أن تذهب ؟ لم أراك كثيراً هذا الأسبوع . إنها بحاجة لرؤيته , وخاصة بعد زيارتها لروبرتو . . لم تكن قد ذكرت شيئاً أمامه بخصوص الزيارة بعد , فقد وجدت صعوبة في محاولة الشرح , والله يعلم أنها قصة بسيطة , ولكن أي ذكر لروبرتو باستينو يجعل غرانت يغضب . وقال لها بلطف : ـ بعد أن نتزوج ستتغير الأمور . . . ستصبح مختلفـــة . غرانت كان يحبها منذ سنوات طويلة , حتى وهي متزوجة من روبرتو . وكانت دائماً تعرف هذا . فهو لم يبقِ الأمر سراً , ولكنها لم تستجب له ســوى في السنة الأخيرة , إذ وجدت فيه الأمان الذي تحتاجه . قال لها وهو في طريقه إلى الباب : ـ سيعود دانـــي من باريس بعد يومين . ـ أعلم . . لقد أرسل لــي برقية . . لا بد أنها كلفته ثروة ! إنها رسالة أكثر منها برقية . فضحك غرانت : ـ أعماله رائجة , وباع كل التصاميم . ـ هذا يفسر الأمر . هل أبرق لك أيضاً ؟ ـ لا . . بل اتصل هاتفياً . . من هي لورين ؟ ـ لورين ؟ لا أدري . . . هل ذكرها لك ؟ ـ عدة مرات , ولكنني لم أفهم ما هي علاقتها به . ـ أنت تعرف والدي العزيز . . . ربما تكون عارضة أزياء . فابتسم غرانت : ـ آسف لـلسؤال . فلكمته : ـ ولماذا ؟ أنا فتاة كبيرة الآن , والأيام التي كان يخبئ فيها صديقاته عني قد ولت . أتساءل إذا كانت تعرف الطبخ . . أتذكر لينا ؟ كان طبخها كالحلم . ـ وكانت عارضة أزياء رائعة . . . تلك الأكتاف الرائعة . . . وضحكا معــاً . . . وقالت له : ـ أيها المحتال . . . كتفـيها هاه ! ففتح الباب وقال : ـ أنسى دائماً أنك لا تتأثرين بشــــيء . ـ بعد عيشي مع داني طوال حياتي ؟ كيف يمكن أن أتأثر من شــــيء ؟ وقطب وجهه : ـ ليس هناك شـيء من الغيرة في نفسك . . أليس كذلك جيني ؟ كلماته جعلتها تجفل واسودت عيناها . انحنى وقبلها على خدها ثم رحل . عادت إلى غرفة عملها , ووقفت قرب النافذة تتمتع بشمس الخريف الدافئة , لقد تغير الطقس في اليومين الماضيين . وتوقف المطر والريح . وحدها الأشجار العارية سوى من بضع ورقات كانت تذكرها بالخريف . ليس هناك شــيء من الغيرة في نفسك ! إن معرفته بها قليلة ! وفكــرت بالمشاعر الوحشية الطاحنة التي عذبتها مرة . . وامتدت يدها إلى معدتها وكأنمــا تلك المشاعر قد عادت لتعصرها ثانية . وأغمضت عينيها وصرخت . . يا إلهــي ! وبدا صوتها غريباً , مغايراً , في الغرفة المشمسة . لم تسمع شيئاً من عائلة باستينو منذ هروبها من المستشفى يوم زارت روبرتو . . لا بد أنه استعاد عافيته , فهي لم تشاهد أي خبر في الصحف عن موته . مجرد فقرة صغيرة تروي الحادثة وتقول إنه مصـــاب . حاولت مرة الاتصال بالمستشفى لتســأل عنه , وبالرغم من امتداد يدها إلى الهاتف , إلا أنها تراجعت . . فلو أنه مات لأبلغت بالأمــر . ولكن أحلامها كانت تفيض بذكــراه . كرامتها وحدها منعتها من العودة إلى المستشفى لرؤيته ثانية , ولو للحظات , و لتسمع صوته الأجش يقول (( حبيبتــي )) . واستدارت غاضبة عن النافذة لتجلس وتبدأ العمل . . وأخذت ترسم وجه فتاة ترتدي الزي الذي تصممه . . . ثم توقفت فجأة لتنظر إلى الرسم بذهول . . قسمات وجه أندرو الطفولية أخذت تبدو لها من خلال الرسم . فــأجفلت . ومزقت الورقة من دفتر الرسم , وكادت تقطعها لولا رنين جرس الباب الذي أوقفها فوضعتها من يدها وتوجهت لتفتحه . ووقفت إيفا بلطف , وقساوة معاً . وجهها النحيل ملــــيء بالتصميم . . وتنهدت جيني : ـ ماذا تريدين إيفا ؟ العينان السوداوان كانتا ثابتتين : ـ ألا تريدين معرفة ما إذا كان قد مات أم بقــي حياً ؟ ـ لو أنه مات لعرفت . . . العالم كله كان سيعرف . وهزت إيفا رأسهـــا : ـ كيف يمكن لك أن تكونـــي قاسية ؟ إنه بحاجة لك . اذهبـــي إليه . . لمَ ابتعدت ؟ رفعت جيني كلتا يديها لتمررهما على شعرها لتخرب تصفيفته الناعمة : ـ إيفا . . أشفقـــي علي لأجــل الله ! ـ كنت أتمنى أن لا أطلب هذا منك . . . ولكن روبرتو هو فــــي المقام الأول عندي يا جيني . ـ إنه هكــذا دائماً . . إنه الأول لدى الـجميع . فحملقت إيفا بها بعينين واسعتين : ـ ألهذا الدرجة مرارتك , لقد كان فاقد الوعي معظم الوقت منذ أن زرتيه . . ولكنه استفاق الآن . . وهو يسأل عنك ثانية . فشحب لون جيني واشتد بياضه : ـ أتعنين أنه لم يسترجع ذاكرته بعد ؟ فهزت إيفا رأسها نفياً . . . فاستدارت جيني إلى الشقـــة : ـ يا إلهــــي ! ولحقت بها إيفا , تنظــر من حولها بفضول , تلاحظ ترتيب غرفـــة العمل , وكيفية تعليق رسومات الأزياء فوق الــحائط وعلى الرفوف . ـ إذن . . هنا تعملين ! لقد بدأت تحققين النجاح . هكـــذا سمعت . ولا بد أن والدك فخور بك . ـ أجل . . إنه فخور بي . . إيفا . . لن أستطيع الذهاب . . إذا كان قد أصبح بصحة أفضل . . فيجب إعلامه بالحقيقة . ـ ونقتلــه ! ـ لن تقتله الحقيقة ! ـ لقد سمعت ما قاله . . بدونك لا يريد العيش . واستدارت جيني على عقبيها , مرتجفة , عيناها مليئتين بالاتهـــام : ـ كلانا يعرف إنه عاش من دوني خمس سنوات . ولن يموت الآن لمجد تذكره أننــي لم أعد زوجته . ـ ولكنه لا يتذكر, وصدمة إبلاغه ذلك قد تحدث له ضرراً لا يمكن إصلاحــه . بالرغم من اضطرابها , ضحكت جيني : ـ إنه أقوى من هذا . . . رأسه أقســى من الصلد . ـ كان هكذا . . . ولكنه الآن ضعيف , هش , يتمسك بالحياة بخيط رفيع , وأنا أرفض قطع ذلك الخيط بقولــي له ما يرفض سمــاعه . والتقت عيناهما . . فتنفست جيني بصعوبة : ـ لا يريد أن يسمعه ؟ ماذا تعنين ؟ فتمتمت إيفا : ـ أوه . . . جيني . . . أنت تعرفين بالضبط ما أعنــي . . . لقد حصلت على رأي أخصائي نفسي بهذا الأمر . . روبرتو لم يفقد ذاكرته فقط . . بل إن عقله الباطن يرفض أن يتذكــر . وأخذت جيني تتحرك بقلق : ـ ولماذا ؟ . . أعرف ما تحاولين عمله إيفا . . . ولكنك لن تنجحي . . يجب أن تتقبلــي أنني و روبرتو قد انتهى أمرنا معاً , وهكذا كان منذ خمس سنوات . وحادثته لن تغير من الواقع شيئاً . بعد ثلاثة أشهر ســأتزوج ثانية . وأنت تعرفين هذا . وتجاهلت إيفا ملاحظتها وقالت بخشونة : ـ روبرتو يحمي نفسه . . . هذا ما قاله الطبيب النفسي . . . إنه يعرف أنه مريض وقد يموت . . . لذلك عاد إلى أيامه السعيدة معك , وهذا يشعره بالأمان . ويعطيه سبباً ليعيش من أجلــه ـ أتعرفين ما تقولين ؟ إنها ليست الحقيقة . ـ يا عزيزتي . . أنا واثقة . . . روبرتو لم يفقد ذاكرته نهائياً , بل فقد الجزء الأخير منذ فقدك . لقد أقفل عليها الباب . حــتى أندرو . . ابنه . . . الذي يحبه . . . صدقيني . . . لا يذكره . ولا يمكن له أن يرفض تذكــر ابنه للاشــيء . ومع ذلك ينظــــر إلى الولد دون أحساس ويســأل : من هذا ؟ وعضت جيني شفتها . ـ يا للولد المسكين ! وهل تألم لهــذا ؟ فتنهدت إيفا : ـ لقد تكدر بالطبع . ولكنني أبعدته عن الجو , وشرحت له أن إصابة أبيه جعلته يفقد ذاكرته , وأظنه فهم الأمر . واستدارت جيني . . . تلف ذراعيها حول نفسها وكــأنها تكاد تتجمد من البرد . . . وقالت : ـ مهما يكــــن . . . لن أستطيع الذهاب . وتقدمت إيفا من الطاولة , حيث ورقة الرسم المنزوعة من الدفتر الكبير . . والتقطتها لـتنظــر إلى الرسم غير مصدقة : ـ هذا عظيم . . . عظيم جداً . . . كــم أنت بارعة يا جيني ! فــاحمر وجه جيني . ـ أوه . . . إنه مجرد خربشة من الذاكرة . ـ ولكنك التقطت ملامح وجهه ببراعة . هل لــي أن أحتفظ بها ؟ ســأحافظ عليها كأنها كنز . . . جيني . . . أرجوك ! ـ بالطبع . ـ شكــراً لك . ونظرت إليها إيفا بعينين دامعتين : ـ أرجوك اذهبي إليه . . أرجوك ! وتأكدت جيني أن لا مفــر لها . . وستبقى إيفا هنا إلى أن توافق فقالت : ـ أوه . . . حسناً . وفي السيارة سألتهــا إيفا . ـ مــاذا قال خطيبك عندما أخبرته عن روبرتو ؟ ـ لم أخبره بعد . ـ ألا يعرف شيئاً عن حالته ؟ ـ أشك في أنه يعرف عن الحادثة أصلاً . ـ وهل تظنيني سيمانع ؟ فضحكت ببرود : ـ تعرفين جيداً أنه سيمانع , فأنا خطيبته , ومع ذلك أذهب لأقف قرب فراش رجل آخــر وأتظاهر إننــي زوجته . . فماذا تتوقعين منه ؟ ـ مما أذكره عنه , مع ما قلته , كــــان دائماً لطيفاً واسع المخيلة . . . وبالطبع سيفهم . توقفت السيارة خارج المستشفى , ولحقت جيني بإيفا إلى الفناء الداخلـــي , ثم إلى المصعــد . . . خارج غرفة روبرتو توقفتا , ومدت إيفا يدها إلى جيني : ـ الخاتم . ارتجفت يد جيني وهي تأخذه . وفتحت إيفا الباب هامســة : ـ ســـأنتظر في قاعة الانتظــــار . بعد لحظـــات دخلت الغرفــــــة . . وكانت فارغـــــة وصامتة . . والطيف الملفوف بالأربطــة فوق السرير لم يتحرك وهي تتقدم إليه . ووقفت بهدوء إلى جانبه . . . ثم انحنت غير قادرة على مقـــاومة إغراء يدفعهـــا , ولمست بشفتيها جبينه . وعلى الفور امتدت يده لتلتف حول عنقها . فرفعت نظرهـــــــا لترى أن جفنيه قد ارتدا عن عيني السوداوين , وهمــس : ـ جيني . . . حبيبتي . . . أخيراً . . أين كنت ؟ وحاولت الابتعاد عنه دون جرح مشاعره , ولكــــــن يده كان لها قوة غريبة ولم تتركهـــا . . فقالت : ـ تبدو أفضـــل حالاً الآن . ـ قبلينــــــــي ثانية . . . كنت نائماً . . هذا ليس عدلاً . . أريد أن أكـــــــون مستيقظاً عندما تقبليني . وقبلته بخفة , ولكن يده ضغطت على عنقهــا , وأبقت وجههـــــــــــا قربه بينما كان يمرر فمه على خدهـــا . لم تكن تتصور مطلقاً أنها ستشعر ثانية بهذه المشـــاعر معه . وآلمها ذلك حتى أنها أرادت أن تهرب . وتخلصــــت من قبضته , ووقفت ويداها متشابكتان . . تتنفس وكــأنها كانت تركض . وتحرك بقلق . . ولاحظت الألم في عينيه , وســألها : ـ ما بك ؟ ـ يجب أن تبقــى دون حراك . . . فالتكدر لا ينفعك . ـ ولكنني ســأتكدر أكثر لبرودك معــي . . تبدين أكبر سناً . . . هل يجب أن تبقى هذه الستائر مسدلة فوق النافذة ؟ أريد أن أراك . . . اقتربـــــــــي منـي . واستدارت لتجر الكرسي وتجلس قرب السرير , مبقية رأسها بعيداً . . لا بد أنه سيلاحظ التغيير عليها , فذاكرته تفتش عن الفتاة ذات التسعة عشر سنة . وهي الآن امرأة في الرابعة والعشرين . ـ لا يجب أن أبقى طويلاً . ـ ولكنك وصـــلـــت لتوك . . ما الأمــر . . لماذا تبتعدين عنــــي هكــذا ؟ فاستجمعت كل شجاعتها , ومالت إلى الأمـــام مبتسمة : ـ آسفـــة لهذا . . . كنت قلقة عليك . فانفجــرت أساريره : ـ بالطبع ! يا عزيزتي المسكينة ! آسف لأنـــني سببت لك التعاسة . أنت صغيرة على وضع كهذا . . . يا حبيبتي . والأمــر صعب عليك . ولكن لست أدري ما حدث , ولا كيف حدث , كل ما قالوه لــي إننــي حطمت السيارة . وبدا مريضــاً , ضعيفاً , ولكن لم يبدُ أنه يموت . . إنه منطقــي , وواضح التفكير . ـ لقد انسكب الزيت من صهريج , وتزحلقت السيارة فوقه . فقطب : ـ ومتى كان ذلك ؟ آخــر ما أذكــره هو رحلتنا إلى لندن . أذكـــر عودتنا من مطار هيثرو . . وكنت معـــي في السيارة . . . يومها لم لم تحصل حادثة أليس كذلك ؟ و أحـــســت بألم في حلقها , وابتعدت بصعوبة . ـ لم أكن معك ســـاعة الحادثة . ـ لا . . أمــي قالت هذا . . أذكر . . . لماذا تأخرت عن المجيء ؟ أين كنت ؟ مع داني كما أعتقد ؟ ومع صديقك العزيز غرانت ؟ ووقفت بقوة عن الكرســـي حتى كادت الكرسي تقع . ـ يجب أن تنام الآن روبرتو . لقد وعدت الطبيب أن لا أبقى أكثر من دقائق . ـ أبقي هنا . . لم تردي على ســـؤالي . . هل كنت مع غرانت كراولــي ؟ ـ لا . . . لم أكن معه . . . كنت مع أبـــي في باريس . وبدت عليه الراحــــة : ـ أوه . . . أنا آســف حبيبتي . ـ والآن يجب أن أذهب . فهمـــس : ـ قبليني . وقبلته . رغـــم إحـــســـاسهــا بالعـــذاب , وداعبت يــده شعرهـــا الحريري . فارتجفت , ثم عاد إلى الاستقاء متنهداً , وبدا لها مرهقاً حتى أن مشاعر الحنان لديها تحركت نحوه . فقالت له متوسلة : ـ عــدني أن تنام الآن . فابتسم وتمتم بصوت ضعيف : ـ أعدك . وقبل أن تتركـــه كان يغط في سبات عميق . وكـــان مع إيفا رجــــل قصــيـــر ممتــلئ تبدو عليه الأهمــيــة . فابتسم لها ومد يده : ـ آه . . سيدة باستينو , سعيد جداً لمقابلتك . فردت جيني بحدة وهي تنظر إلى إيفا : ـ أن الآنســة نيوهام . وقالت إيفا : ـ هذا هو السيد كيلي , الأخصائي الذي سيتولــى معــالجة روبرتو . ونظرت إليه جيني دون اهتمام : ـ هل أنت طبيب نفساني ؟ فرد بسرور : ـ من بين عدة أشياء . . كيف وجدت زوجك ؟ فردت بحزم : ـ نحن مطلقان . فابتسم : ـ ولكنه لا يعتقد هذا . ـ مهما كان يظن . . فنحن مطلقان . ـ قانونياً أجل . . . ولكن إذا لم يكن يتقبل الأمــر . . . فأنت مجبرة . ـ هذا مناف للعقـــل ! فابتسم بخبث : ـ ولكنك هنا سيدة باستينو , وهذا يدل على أنك تتقبلين فكـــرة ارتباطه بك . بدت عليها الصدمـــة والشحوب . ـ لقد جئت لآن أمــه توسلت إلي . ـ وإن يكــن . . مهمــا كــان السبب الذي تبررين لنفسك به , فلقد جئت . وهذا مــا يقول لــي إنك ملتزمــة به . ووضعت جيني قبضتيها على جبينها : ـ لا ! وأدار الرجل القصير ابتســـامته نحو إيفا : ـ هل لــي أن أتحدث إلى السيدة باستينو على انفراد ؟ وأمسك بذراع جيني . ـ هل تسمحين أن تأتـــي معي إلى مكتبي ؟ فقالت إيفا : ـ ســـأنتظرك هنا عزيزتي . وقدم لــها كرسياً أمام طاولته , وجلس مبتسماً : ـ زوجك لا يذكــر الحادثة . . أتعرفين هذا ؟ ـ قال لـــي . ـ وهل قال لـك آخـــر ما يتذكر ؟ ـ أجـــل . ـ وهل تسمحين بقوله لــي ؟ فهزت كتفيها : ـ لست أرى حقـــاً . . . ـ أرجوك ! فــتـــنــهــدت : ـ آخـــر ما يذكره رجوعنا من رحلـــة إلى لندن . ـ ومتى كــان ذلك ؟ ـ منذ أكثر من خمـــس سنوات . ـ وهل لهـــذا أي ميزة لــديــك ؟ وجمدت الابتســـامة على شفتيها . . ميزة ؟ . . أجــل . . إنها تذكر : ـ بعد أيام من عودتنا تشاجرت معه وتركته وعدت إلى منزل أبــي . . . ولم تستطـع أن تكمــل , وارتجفت شفتاها , واندفعت الدموع إلى عينيها . ـ وبعدها . . . ـ لم يكن مخلصــاً لـــي . ـ وهل اكتشفت هذا بنفسك ؟ وهزت رأسها ايجابياً وهي تتذكر , لقد نامت عند والدها ليلة . . ثم في الصباح اكتشفت خطأها , فأخذت سيارة تاكسي إلى منزلها في الصباح الباكر , وبكل الحب والشوق ركضت لتصل إلى غرفة نومها , غرفتهما , وفتحت الباب لتجمد وكأنها تلقت رصــاصة في قلبها . من على الوسادة قرب رأس روبرتو الأسود , رفعت جيسكا رأسها ذي الشعر الأحمر مبتسمة , ولم تقل كلمة , بل تحولت البسمة إلى ضحكة . . . وأخذت العينان السوداوان تسخران منها . واستدارت جيني دون كلمة وخرجت من المنزل . . . فيما بعد ذلك اليوم جاء روبرتو ليراها . ولكن والدها رفض السماح له بالدخول . ومن غرفتها في منزل والدها سمعت الصراخ . . . وحاول روبرتو اقتحام طريقه إلى الداخل . . . ووصل غرانت . . . وكانت معركة قاسية , شهدت كل فصل منها وهي ترتجف وتحس بالسقم . و معاً . . تمكن والدها و غرانت من طرده . وفي اليوم التالي كانت جيني في طائرة متجهة إلى لندن للإقامة مع عمتها هناك . . . ومن هناك أرسلت وكالة لمحاميها لإجراء الطلاق . وأرسل روبرتو عدة رسائل لها . . لم تفتح أي منها . . . وعادت لتتم إجراءات الطلاق في أمريكا . . . وبعد أسبوع تزوج روبرتو من جيسكا . وبعد الزواج بثلاثة أسابيع ولدت له أبنها , أندرو . . الولد الذي وضع روبرتو كل دمغات العائلة عليه , ولا مجال له لإنكــار بنوته . ـ وهكذا تطلقتمــا ؟ ـ أجل . ـ وهل رأيته منذ تركتـــه ؟ ـ لا . . . ـ إنها قضية فتحت وأقفلت . . . أليس كذلك ؟ ـ صحيح ؟ ـ هيا الآن سيدة باستينو . . . فصاحت بشراســة : ـ لا تناديني بهذا الاســم ! ـ يا عزيزتي الشابة , وماذا في هذا الاسم ؟ لا يمكن الجدال حول الأمر , فزوجك بكل مرارة نادم على الطلاق . ويرفض كل ما مر به منذ يوم تركته . لقد أبعد تلك الفترة عن ذاكرته , لأنه فــي حالته الحاضرة , عقله الباطن يعف أنه لا يستطيع مواجهة تلك المرحلة من جديد . وإلى أن يستعيد عافيته سوف يستعيد ذاكرته . ـ وماذا إذن ؟ لا أستطيع الاستمرار في الادعاء . فأنا مخطوبة لـــرجل آخــر . ـ هكذا عرفت . . . منذ متى أنتما مخـطوبان ؟ ـ منذ أكثر من أسبوع . واتسعت عيناه بخبث . ـ حقــاً ؟ هذا مثير للاهتمام ! وحـــدقت به جيني . . . لماذا يبتسم هكذا ؟ ـ هل أعلنت خطوبتكمـــا في الصحف ؟ ـ طبعــاً . . . شهرة داني في عالم التصميم , وشهرة دار الأزياء التي يملكها غرانت , جعلت نشر الأمــر محتماً . حتى أن عدة صحف نشرت قصصاً صغيرة حول الأمــر . ـ هل تذكرين تاريخ ظهور تلك القصص ؟ ـ يوم الخطوبة بالضبط . . . أوه . . . لا في اليوم التالي . . . وتوقفت عن الكلام فجأة وحدقت بالرجل . . . ثم قالت ببطء : ـ يوم . . حصلت . . الحادثة . . لــ روبرتو ! فابتسم , وبدا الرضى على وجهه . ـ بالتحديد . . . هذا مــا كنت أرتاب فيه . . . وكما قلت قضية فتحت وهي مقفلة . . . وواضحة جداً . ـ بل أكثــــر من واضحة . . . وأنا لا أصدقها . وضم يديه معاً وكأنه يصلي . . . وابتسم دون أن يخفي رضــاه : ـ وهل لديك تفسير آخـــر ؟ فوقفت : ـ ليس في الوقت الحاضر . . . ولكنـــني ســأفكــر بتفسير آخــر . وانفجــر ضاحكــاً . ـ افعلـــي هذا أرجوك سيدة باستينو . فحملقت به غاضبة , وقالت بعد تفكيــر : ـ ألم يتبادر إلى ذهنك لو أن ظهور خبر خطوبتي هو سبب حادثة اصطدام سيارة روبرتو . . فقد يكون فقدان الذاكرة شيئاً متعمداً ؟ فاتســعـــت ابتســـامته : ـ بالطبع . . . ولكن ليس بالضــرورة كمــا تعنين أنت . فهو لا يدعـــي سيدة باستينو . . لقد فقد الذاكرة حقاً للخمس سنوات الماضية . لقد جاهد عقله بكل طاقته ليقفل الستارة عن الذكريات المؤلمة لحماية نفسه . وكما قلت , عندما يستعيد عافيته الجسدية , سيسمــح عقله للذاكــرة أن تعود . ـ وحتى ذلك الوقت ؟ فهــز كتفيه . ـ يجب أن أصــــر على أن لا تحرريه من هذا الوهم إلى أن أسمح أنا بذلك . فقد تكون الصدمة مؤذية جداً له . وحدقـــت بالأرض تعض شفتيها : ـ لن يموت . . . وأنا واثقة من هذا . لقد كـــان أقوى بكثير اليوم عمــا شاهدته أول مرة . ـ ولكن الصدمــة قد تقتل أي إنســـان وهو بصـحــة كــاملة , صدقيني ! وعندمـــا يصــاب شخص كــزوجــك سيكــون الخطــر مضاعفاً . وأغمضــت جيني عينيها . . . وهمست بيــــأس : ـ أوه . . . يا إلهــــي ! . . . لست أدري كـــم أستطيع أن أتحمــــل بعــد .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الثالث
-------------------------------------
3 ـ القلب الخائن
-------------------------------------
كان الخريف قد بدأ يولــي ممهداً لقدوم فصل الشتاء الذي يبطــئ بنعومة متمثلاً بضباب صباحي , وطقس مكفهر بارد , وزخات من المطر . بقيت الحرارة مرتفعة أكثر من المعتاد , فترى النساء والرجال يسيرون في نزهاتهم باللباس الصيفي الخفيف . بالغرم من كل حكمتها , استمرت جيني بزيارة روبرتو في المستشفى . . وكانت تمضي معه يوماً نصف ساعة جالسة قرب سريره . . تمسك بيده . . تراقب النور الساطع في عينيه وهو يتأملها . كان يمازحها بلطف , كما كان يفعل في الأشهــر الأولى لزواجها . . مظهراً لها الحنان الدافئ . الذي تتذكره بحزن وأسـى . تلك الأشهر الأولى كانت أكثر اللحظات سعادة فــي حياتها . . فروبرتو مُحب مثير , حساس , يعــي تماماً براءتها . يحبها ويحميها , وإن كان يجرفها معه في لجج رغبته الحارة , العقبة الوحيدة التي كانت تعكــر صفو تلك السعادة التامة كان والد زوجهـــا أنطونيو وعدائيته نحوها فهو لم يكن يخفي عن أحد رغبته في أن يتزوج ابنه من ابنة عمه جيسكا . بعد عودتهما من رحلة إلى لندن , كمحاولة يائسة لاستعادة سعادتهما , عادت المشاكل حـــال وصولهما إلى نيويورك . فقد كان موعد حفلة عيد ميلاد جيسكا ليلة وصولهما . . وكانت جيني حينها متعبة من السفر , فآوت إلى الفراش باكراً , بينما بقي روبرتو ليحضر الحفلــة . لم تستيقظ جيني إلا بعد منتصف الليل على صوت موسيقى منبعثاً من الأسفل . نهضت من فراشها ومن على فسحة السلم تطلعت إلى المرآة الضخمة التي تعكس ما في الصالون الطويل , فشاهدت جيسكا , مغمضة العينين , تسبح مع الموسيقى بين ذراعي روبرتو . فعادت إلى فراشها متوترة , والغيرة تنهشها . . . ولم تغط في النوم إلا حوالي الرابعة صباحاً ولم يكن روبرتو قد عاد بعد إلى فراشه . . . مع أن المنزل كان خالياً يسوده الصمت . وكان هذا بالطبع سبباً لخلاف آخــر . وتدخل أنطونيو باستينو بعنجهيته وكبريائه , مقطباً وجهه قائلاً لها : ـ إذا كنت تغارين من جيسكا فاسألي نفسك عن السبب ! ألست تغارين بسبب معرفتك أنها هي امرأة من طبقته , وليس مجرد فتاة جميلة جاهلة نكـــرة . عندهــا خلعت جيني خاتم الزواج من يدها لترميه له بينما ظل روبرتو صامتاً لا يفوه بكلمة . وسارعت إلى منزل أبيها , معتقدة أن لروبرتو نفس وجهة نظر أبيه , وأنه قد ندم على زواجه منها , لكنها مع بزوغ أول شعاع لضوء الصباح سارعت إلى منزل باستينو لمحاولة كسب ود زوجهــا , مهما يكن الثمن . ما شاهدته يومها لم يكن ليفارق مخيلتها ليلاً ونهاراً ولأشهر طويلة . . . روبرتو غافٍ في فراشه . . وإلى جانبه جيسكا يعلو وجهها بسمه انتصــار . لم تزل هذه الذكرى تحز في نفسها حتى هذه اللحظات . . لم لم تستطع النسيان , كانت تعرف بالطبع , أن هناك الكثير من النساء قبلها . . ولكنها آمنت بكــل سذاجــة , أن روبرتو بعد قســمه بالإخلاص , لن يفعل ما قد يســــيء إليها . لم تخبر غرانت بالأمر بعد . . بغريزتها أدركت أنه سيغضب . . . وربما يمنعها من زيارة روبرتو . وهــي تعرف أنها لن تستطيع أن تمتنع عن ذلــك . هذا ووضعها النفسي السيء أثر في نتاج عملها , وبدا أنها فقدت الدافع للعمل . كانت مضطرة لإجبار نفسها على التقاط أقــلام التلوين , إذ إن يديها بدتا لها متخشبتان مترددتان . وصــل غرانت بعد ظهر ذلك اليوم وهي تروح وتجــيء متنهدة أمام رسوم تصميماتها , فوقف قربها مقطباً : ـ هل هناك شـــــيء مــا ؟ فنظرت إليه متوترة : ــ ولم تســأل ؟ فضحك مشيراً بإصبعه إلى الصورة : ـ يا فتاتي العزيزة ! لم أعهدك خرقاء في عملك . . أرى أنك هنا أعدت الرسم فوق الرسم أكثر من مرة . . . ومـع ذلك فهو لا يزال سيئاً . . أليس كذلك ؟ ولم يكن هناك جدوى من الإنكار , فهو يعرف عن فن التصميم الشــيء الكثير أكثر مما يعرفه كبار الرسامين . فقالت له بعد تردد : ـ أظن أنه قد حان الوقت لأقول لك شيئاً . أجلس يا غرانت . فنظر إليها متوتراً مقطباً وسألها مازحاً : ـ وهل ســأحتاج إلى ما يعيدني إلى الصحو إن أغمي علي . فضحكت جيني وأخبرته القصة بشكــل سريع بكل صراحة , وخشونة وشـــاهدت وجهه يتصــلــب ويسود , وبدأت الشعـــلات الحمراء تغشى عينيه : ـ يا للجحيم . . . لا بد أنك فقـــدت عـقــلــك . . أنت تزورنه يومياً منذ أسابيع دون إعلامــي بالأمـر ؟ أتكذبين علي ؟ تغشيني ؟ لا أستطيع أن أصــدق أنك فعلت هذا يا جيني ! فقالت بـــأسى : ـ لم أكن أتصور أن الأمر سيستمر طويلاً . لقد أخبروني أول الأمر بأنه سيموت فلم استطع الرفض ! ثم قال الأخصائي النفسي إن هو اكتشف أمر طلاقنا قد يصاب بصدمة . . فكيف يمكن أن لا ألبي طلبهم وألعب الدور المطلوب منــي ؟ ـ أخبريني بالأمــر على الأقل , كنت استطعت التعامل معهم . هذا إن كنت راغبة في تدخلي , ولكن يبدو أنك لست راغبة . أليس كذلك جيني ؟ أظن أنك تودين الذهاب لرؤيته , رؤية ذلك الوغد الإيطالي السافل ! لم تتمكني أبداً من التخلص من ذكراه . . أليس كذلك ؟ ظننت لفترة أنك نسيته تماماً . . . ولكن لحظة أشـــار لك عدت زاحفــة إليه كالبلهاء وتركته يستغلك كمـــا كان يفعل من قبل . ـ ولكنه مريض للغاية ! فضحك بخشونة : ـ كم هذا مقــنــع ! ـ غرانت . . إنه مريــض ! كــان على شفـــير الــمــوت ! لو أنك شــاهدته في اليوم الأول . . كم كان شاحباً ومتلاشياً كالأموات . بالكاد كـــان يصدر حركة أو صوتــاً . والتوت شفتا غرانت بتكشيرة غضب : ـ إذاً أصبحت ملمة بكـــل ظروفه وجميع احتياجاته , أليس كذلك ؟ لقد أجبرك على الحضــور . . ألم يفعل ؟ ـ غرانت , كان علي الذهاب , اللياقة تقتضي ذلك ! وأمسك كتفيها بكلتا يديه وهزها بعنف , فتصلب وجهها وهـــي تنظر إليه مذهولة وعيناها الخضراوان شاخصتان وصــاح بها : ـ أنت أردت الذهاب ! اعترفـــي بذلك ! واشتد غضبها , منه . . . وأصبحت شرسة . وفقدت السيطرة على تفكيرها , فافلت لسانها وصاحت به . ـ حسن جداً . . هذا ما أردته . . أردت رؤية ثانية . . . لأنــي أحبه ! وقطعت الكلمات بصمت متوتر , وأغمضت عينيها لفترة قصيرة . ثم نظرت بحزن إلى غرانت : ـ آسفة يا غرانت . ليس الأمر بيدي . . . لم أرد ذلك . . ولكن هذا هو الواقع . . . أنا مجنونة به . فقال غرانت بوضوح وبرود : ـ أجل . . . أجل . . أعرف هذا . هذا ما عرفته دوماً . كان واضحاً منذ البداية . . نظرة واحدة منه أوقعتك في غرامه . . وكنت غبياً إذ ظننت أنك قد شفيت من حبه . أخفضت جيني رأسها باستسلام , وقد انتابها الندم المرير . ثم سـحــبــت خــــاتـم الخطوبة من أصابعها وأعطته إياه : ـ أنا آسفــــة جداً لهذه النهاية بيننا . تنفس غرانت بحدة , ناظراً إلى الخاتم وكأنه يراه لأول مرة . . . ثم تنهد : ـ اسمعـــي يا عزيزتــي . أنا آســف لعدم سيطرتــي على أعصابــي . فهل تستمعين إلى بهدوء للحظات ؟ ـ بالطبع . فحـــــبي لروبرتو لن يؤثر مطلقــاً على تعلقــي بك . ولم يكن يوماً ليؤثر . . لقد تعارفنا منذ زمن طويل . . . فابتسم وشعرت أنها آلمته بهذا الكلام أكثر مما أرضته : ـ لا تعيدي إلى الخاتم الآن . أبقيه في الوقت الحاضر . ولا تخبري أحداً أن علاقتنا قد انتهت . وبدا عليها الارتباك وعدم الفهــــم : ـ ولمــاذا ؟ ـ لأجـــل حمايتك . فأنا لا أثق بعائلة باستينو , كمــا لم أثق بهم من قبل . ولا أصدق ادعاء روبرتو بفــقدان ذاكرته . . . إنه خنزير ذكــــي . ـ أوه غرانت ! أنت لم تره حقـــاً ! فابتســـــم بقلق : ـ أوه . . أنا لا أشك فــي أنه مريض بعد حادث تحطم سيارته . . ولكن ليس هناك من طريقه لمعرفة هذا الادعــاء بفــقدان ذاكرته كمــا هــي الحال مع عظم مكســور مثلاً . ربمــا هو يحتال على الجميع . ـ ولمــاذا يفـــــعل ؟ فهز كتفيه : ـ لقد نجح . . . ! واستعادك , ألم يفعـــل ؟ فاحمـــر وجههـــا : ـ لو كان يريدنــــي لحاول سابقاً أنسيت أن زوجته قد ماتت منذ سنتين . . . ولم يحـــاول التقرب منـــي بعدها مطلقاً . . . فلماذا انتظر هذا الوقت كلــه ؟ ـ ومن يعرف لماذا بحق الشيطان ؟ إنه خبيث مــاكر . . . رجــل أعمال له تكتيكات ناجحة . جيني . . أنت تقرأين الصحف وتعرفين كم عدد النساء اللواتـــي شوهد معهن . . . علاقاته بالنساء قذرة . . هل هو من نوع الرجل الذي ترغبين فيه ؟ رجل لا يمكنك أن تثقــي به ؟ وأحست جيني بالغثيان , ووضعت يدها على معدتها , وارتجفت شفتاها . . وهي تقول بصوت هامس : ـ لا . . ليس هذا ما أريده . . لا . . بالطبع لا . ـ إذن . . لمــــاذا ؟ ونظــرت إليه عاجـــزة . ـ فـــي هذه اللحظات , لأنه يحتاجني ! فضحــك . . وصاحت غاضبة : ـ إنه بحاجة لــي وطالما عرفت هذا فأنا لن أخيب أمله . لقـــد حاولت , وكتمت مشاعري , ولكنني . الآن لم أعد اقدر . أنا ضعيفة غبية , ربما . لكن لا حيلة لي حيال هذا الأمــر . ـ حسناً . . ولكن , ولأجــل حمايتك استمري فـــي ارتداء خاتمي . . وانتظري . . لا تلتزمــي مع هذه العائلة ثانية قبل أن تعرفي حقيقة الموقف , ولا تعرضي نفسك لأي خداع ثانية . ـ أنت رجــل رائع يا غرانت , وكنت أتمنى من الله لــــو أنني أحببتك كمـــا أحببتنــــي . فضحــك عميقـــاً : ـ وكذلك أنا يا عزيزتي . فأنت جميلة , يا لأســف أن باستينو هذا لم يقتل فـــي تلك الحادثة . ـ غرانت . . . لا تقـــل مثل هذا ولو على سبيل المزاح . ـ ولكني لا أمزح . لو لم تلتقي به لكنا تزوجنا منذ زمن بعيد . . . وأنا واثق أنه سيرفسك على أسنانك مرة أخرى يومــاً ما . وســأكون يومئذ بانتظـــارك . واستدار ليغادر المنزل دون كلمة وداع . . . فوقفت مكانهــا . . ترتجــف ضائعة بين رفضها لقوله وتصديقها له . كانت الرباطات قــد أزيلت عن رأس روبرتو يوم زارته . ضحكت وهي تنظر إلى خصل شعره الأســـود المبعثرة فوق جبينه . ـ تبدو كــالطفــل . . فرد بمرارة . ـ بل أبدو كــــالأبله . وأخــذ يتحدث عن مشاريعه , ممسكاً أصابعها في يده , يـــعــبث بها ملاحظاً كيف تختفي في راحة يده الكبيرة . ـ فكــــرت أن نذهب إلى ايطاليا . واستوت فــي جلستها لتتحسس جسدها الذي تجمد من هول المفاجـــأة . ـ ايطاليا ؟ ـ نيويورك باردة في الشتاء , ولقد اشتقت إلى أجواء بلادي . . يمكن إعادة فتح الفيلا وتهويتها في مدة قصيرة . . ويمكن أن نطير إلى هناك فور مغادرتي المستشفى . كــان قلبها يضرب كطبول الغاب , شفتاها جافتان من شدة التوتر . . يجب أن يعــــرف . . . لن تستطيع السفر معه . . هذا أمر لا يمكن التردد فيه . وســـألها متعجباً : ـ لمــاذا تصمتين ؟ ـ كنت أفكــر . السفــــر قد يكون متعباً لك . وسيصيبك بالإرهــــاق . ـ هــــراء ! ونظــــر إليها بوجه ضاحك وابتسامة ســاخرة تذكرها جيداً , جعلتها تمسك أنفاسها وترتعش ثم همـــس : ـ أعتقد أنك تشعرين بالخجل . . ربما لأن فراقنــــا قد طـــال ؟ فكــــرت بسرعة . . مــاذا يعني ؟ وأكمـــل برقة : ـ هل نسيت وأنا مريض أنك امرأة متزوجــة , وأنك زوجــــتي ؟ ســأغير هذا الوضع قريباً يا حــــبي . . . وســأكون مسروراً بأن أذكــرك بأنك ملكـــــي . ودفعها الذعــر لمحاولــة جذب يدها من يده , ولكنه شد قبضته على أصابعها , موجهاً نظرة حادة إلى وجههــا المضطرب . ـ كنت أظن أن هذا التمنع اللذيذ قد ولى زمنه . . . ولكنني أرى العكــــس . اقترب منها , رفع راحة يدهــا وقبلها , ثم أحاطها بذراعه ملامســاً بشرتها الزهرية , وأخذ يقبل باطن كفيها مرات ومرات . أحست بقلبها يخفق خفقاً متلاحقاً ثم ضمها إليه بقوة فشعرت أنه سيحطم عظــام صدرها , أبعدته عنها ونظرت إليه . . تكرهه . . وتحبه فــي آن . وســـارعت إلى إبعاد نظراتها عنه عندما أحست بثقل نظراته عليهـــا . ـ ربما سنتمكن من السفر إلى ايطاليا فيما بعد , ولكــن ليس الآن روبرتو . سحبت يدهـــا من يده وتابعت : ـ يجب أن اذهــــب الآن . وســارعــت إلى الباب وعيـنــاه الغاضبتان تلاحقانها . وصـــاح بحــدة : ـ عــــودي إلى هنا جيني ! ولكنها تابعت جريها إلى الخــارج , متظـــاهرة بعدم سمـــاعه , وكـــل جسدهــا ينتفض . اتجهت من المستشفى إلى منزل باستينو مباشــرة لمقابلة إيفا . فاستقبلها الخادم القديم الذي تعرفه جيداً . . ولم يكن في وجهه مــا يدل على أنه من البشر . سمعته يقول بعد أن أدخلهــا إلى غرفة الجلوس بصوت خال من أي تعبير : ـ سيدتي . .. الآنســـــــــة نيوهام هنا ! وتقدمت إيفا لتقبلهــا . ـ حبيبتي . . كم رائع أن أراك فــي هذا المنزل ثانية ! ولامست خدها بخد جيني التي ســارعت للتأوه . ـ إيفا . . أتعلمين أن الطبيب سيسمـــح له بمغادرة المستشفى قريباً ؟ ـ أجـــل . . . ما رأيك لو تتناولــيــن القهوة معـــي ؟ اجلســـي يا حبيبتي . ونظرت إليها جيني يائســـة : ـ أصغــــي إلي إيفا . . روبرتو يريد السفر إلى ايطاليا ! ـ فكــرة رائعة ! أنا واثقة أنه سيتعافى بســرعة أكــبر هناك . وبدا واضحــاُ أن إيفا لم تفهم معنى قولهـــا . ـ عندما يصــل إلى المنزل , يجب أن تخبروه يا إيفا . ـ نخبره مــاذا ؟ وجلست إيفا على الكرســـي بقربها ونظرت إليها ببراءة . ـ أنت تعرفين ما أعنــي . . ! يجب إخباره بــأمـــر طلاقنا ! حينها أمسكت إيفا بيدها , ولامست خاتم الزواج الذي نسيت أن تخلعــه عندما غادرت المستشفى : ـ ولمــاذا ؟ فــأجفلت جيني : ـ أنت تعرفين جيداً لمــاذا لا أستطيع الذهاب معه ! لأنــي لست زوجته وعاجــلاً أم آجــلاً سيعي ذلك . فقالت إيفا بنعومــة : ـ طبعاً عاجلاً أم آجـــلاً . . . ولكن ليــس الآن يا جيني . . . ليس بعد . شهقت جيني . . . وحدقت بإيفا . ـ ألا ترين أن هذا الوضع مستحيل بالنسبة لــي ؟ لـــم أعــــد قادرة على الاحتمال . . وأنا أدعــــي كل يوم وأذهب إليه . . وأراه . . وأكذب عليه ! فردت إيفا بهـــدوء : ـ ولكنك بذلك تجعلينه سعيداً , يا عزيزتي سيكون الأمـــر أفضل بكثير لو تركناه يستعيد ذاكرته بنفسه . . ألا تعتقدين هذا ؟ وبما أنه بدأ يستعيد عافيته تدريجياً فلن يطول الأمر حتى يستعيد ذاكرته . ـ ولكنـــني لا أستطيع السفر معه إلى ايطاليا ! لا أستطيع , إيفا ! أنا لست زوجته . . نحن لسنا متزوجين ! كيف يمكنــني السفر إلى إيطاليا والعيش معه تحت سقف واحد ؟ فابتسمت بخبث : ـ لا بأس يا عزيزتي . . وأي ضرر فــي هذا ؟ أتظنين أنه بكــــامل عافيته ليطالبك بحــقــه الزوجـــي ؟ فــاحمر وجه جيني وهمست : ـ ولو فعــــل ؟ ضحكت إيفا : ـ لا أظن . . أنسيت كم هو مريض ؟ مثل هذه الأفكـــار لن تخطر بباله يا عزيزتي قبل أسابيع طويلة ,وحتى ذلك الوقت لا بد أن يكــون قد استعاد ذاكرته , كمـــا إنك بحاجة لإجــازة . . لقد مررت بفترة عصبية . . وتبدين متعبة يا عزيزتــي ! ـ لا أقـــدر . ـ وهل سيعترض خطيبك ؟ فوقفت غاضبة , فـــي نفس اللحظة التي دخــــل فيها الخادم . . . فقالت : القهوة . . عودي للجلوس يا عزيزتــي . وبينما هما ترتشفان القهوة , قالت جيني لإيفا : ـ يبدو أنك نسيت كم كان لدي من الأسباب لأكــرهه ! فزواجنا كان محكوم عليه بالفشل . . وكـــان فراقنا محتماً . فتغير وجــه إيفا : ـ لا أريد مناقشة ما حدث . فــالزواج عــلاقة شخصية بحتة ! فضحكت جيني بسخرية , ونظــــرت إليها واضعة يديها على خصرهـــا ووقفت قائلة : ـ ولكن الطلاق ليس أمـــراً شخصياً إطــلاقاً . . أليس كذلك ؟ وأنت تعرفين تمــاماً لماذا تطلقنــــا . ـ جيني أرجـــوك ! كانت جيني غاضبة بشدة أحســـت معها بعدم قدرتها على التراجع . . . وأصبح وجهها شاحباً مائلاً للبياض وقالت بمرارة : ـ لقد حدث ذلك فـــي هذا المنزل . . أتذكرين ؟ لقد دخـــلــــت غرفــــتي ووجدته على فـــراشــــي مع عشيقته . وبدت الصدمة على إيفا . . وشحب وجههـــا . . ـ أنـــا . . أنــا آســفــــة . . ـ آســـفة ؟ قالتها بسخرية وكــأنها تقصد الإهانة وأكملــــت : ـ أيمكن أن تتصوري كيف كــان الأمــر بالنسبة لــي ؟ في نبرة صوتها , ألم غاضب , وجهها مشدود متشنج , مع محــاولاتها الجاهدة للسيطرة على البؤس الذي يشتعل في داخلهــا . وتمتمت إيفا : ـ أوه . . يا عزيزتي . ـ أيمكنك أن تنســــي ما حدث لو كنت أنتِ مكــانــــي ؟ أحست إيفا أن السؤال كــالخنجر المصوب إليها , فــأجابت بصوت أجـــش : ـ أنت لم تسمحــي لــ روبرتو أن يشرح لك حقيقة الوضع . ـ يشرح لــي ؟ يشرح ماذا بحق الله ؟ مــاذا يمكنه أن يشرح إيفا ؟ أيشرح لــي لماذا أخذ جيسكا إلى فراشـــي ؟ لقد رأيتهما معاً . . أتذكرين ؟ تلك الصورة لم تفارق مخيلـــتي قط منذ ذلك الوقت , عشت بعدهــا في جحيم . صدقيــني . ليس هناك عذر يبرر مــا فعـــله . وردت إيفا بصــوت مرتجف بائس وهــي تنظــر إليها بحزن : ـ الأمــــور ليست دائماً كمــا تبدو . فضحكــت جيني بمــرارة : ـ ما حصــل كــان بسيطــاً إيفا . . واضــح كــوضوح الشمس . فبــدا الألم فــي عيني إيفا : ـ لا تتحدثي هكذا ! أكــره سمــاع ما تقولين . ـ ولست أحب أن أقولـــه . ولكنــني لن أصغـــي إليك وأنت تدافعين عن الشيطان . . عن روبرتو . . . لا شـــيء تفعلينه يمكن أن يزيل أندرو من الصورة , ولا أنت تريدين هذا . . أعــرف أنك تحبين الصــــبي . . إذ إنه ولد صغير طيب , ولكــن كل مرة أسمع اسمه فيها , أتذكــر واقع أن روبرتو أصبح أباه وهـــو في فراشـــي أنا مع أمه تلك الليلة . وســارت بخــــطى ثابتة نحو الباب وخرجت . . . تاركـــة إيفا العجــوز تحدق بهـــا بعينين دامعتين
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الرابع
-------------------------------------
4 ـ تتــبع قلبهــا
-------------------------------------
نظــر دانيال نيوهام نحو ابنته بذهول وقال صراحة : ـ إنه وقح . . وهذا أكيد . . جيني . . لا يمكن أن تفكــري بالسفر معه إلى إيطاليا . . مرت سنوات لتتخلصي من آثار الكارثة الأخيرة التي سببها لك , والأبله وحده يذهب بقدميه ليتلقى المزيد من العقـــاب . والتوى فمه وأكمـــل بسخرية : ـ أو يكــون معقداً منحرفــاً . . أهذا ما أنت عليه جيني ؟ وهل تتمتعين بالمعاملة التي كنت تتلقينها منه ؟ وشحب وجهها . . واتسعت عيناها ثم هزت رأسهـــا : ـ بالطبع لا ! ـ لماذا إذن ؟ لمـــاذا تتركين هذا يحدث لك ثانية ؟ وضمت يديها إشــارة عجــز : ـ لــم أكــن أنوي ترك الأمور تصل إلى هذا الحد . أول مرة جرتــني إيفا للذهاب . ثم اعتقدت أنه سيموت . . فكيف يمكن أن أرفـض يا دانــي , وهو على وشــك الموت ؟ فرقع والدها بلسانه , ودفع يده فــي شعره الخفيف المشعث . ـ حسناً إنه لن يموت الآن . وإذا كان قوياً كفــاية للسفــر إلى إيطاليا فهوى قوي بمـــا يكفــي ليعرف الحقيقة . ولم تستطع إنكار هذا , فــأحنت رأسهـــا وتنهدت : ـ إيفا تريده أن يسترجع ذاكرته بشكـــل طبيعي . فبدت السخرية على وجهه : ـ ولا يهم كم يطول الأمور ؟ هل ينوون إبعاد كـــل الصحف عنه ؟ والأمور العملية ؟ لأجل الله جيني , ألا يمكن أن تفهمي ما أقصد ؟ يجب أن يــعرف . . يجب أن يخجل من نفســه . . . ألن يطــرح الأسئلــــة ؟ فاتسعت عيناها : ـ الصحف ؟ أنا أقرأهــا له عندما أزوره . فــابتسم ســاخراً : ـ صحيح ؟ ألم يعلق أبداً على ما تقرأينه له ؟ ألم تظهر عليه الدهشــة ؟ لقد تغير الكثير منذ خمس سنوات في العالم ! وجلست على مقعد وراءها وكأن ســاقيها لم تعودا تحملانها : ـ فهمت مـــا تعنـي . . . وهذا لم يخطــر ببالــــي . ـ نظرة واحدة لتاريخ صحيفة تجعله يتذكـــر . ألا تظنين أنه سيســأل عن هوة خمس سنوات فــي ذاكرته ؟ نظــر إليها لحظــات بلطف وأكمــل : ـ حبيبتي . . ألم تلاحظـــي كم تغيرت أنت خلال الخمس سنوات . آخــر مرة شاهدك فيها كنت صغيرة . . . وأنت الآن امـرأة . . تسريحــة شعرك , زينتك , ثيابك . لا بد أن يكــون كــل هذا غريب عليه . . . ومع ذلك لم يعلق مطلقــاً ؟ أتصدقين هذا ؟ ذكـاء داني الحاد الدقيق كان دائماً يتفوق على ذكائها . إنه دائماً يضع إصبعه على قلب المشكــلة , لا تمنعه قلة تعقلها التي تحد من تفكيرها . وبتركيز دقيق فعل هذا الآن , وأحـــس على الفور بالتناقض الذي كان يجب عليها هي أن تراه , ولكن تورطها العاطفي مع روبرتو منعها من ذلك . بالطبع والدها على حق , من المستحيل أن يكون روبرتو قد أمضى الستة أسابيع الماضية دون أن يتساءل, ولو لمرة , عن هذه الهوة في ذاكــرته . واتسعت عيناها الخضراوان , وســألت بصوت خفيف : ـ ولِمَ يفعل هذا ؟ ـ لماذا ؟ أنت لست عمياء لهذه الدرجة جيني . أنت تعرفين لماذا تماماً . . . إنه يريد استرجاعك . فــاحمر وجهها , وأحست بأن قلبها نســي أن يدق عدة دقــات : ـ هل لا يزال يحبني ؟ وحملقت بأبيها منتظرة الرد مقطوعة النفس . . . فتجهم وجه داني : ـ حب ؟ إنها ليست الكلمة التي قد يستخدمها . . إنه يريدك . . . إنه رجل يحب التملك , ويدرك مدى قوته . وأنت هربت من بين يديه . . . ولقد أدهشني يومها لأنه تركك بسهولة . . . يوم جاء إلى هنا وراءك كان كالحيوان المجنون , واستلزم الأمر وجود غرانت معي لإخراجــه . أمر واحد علق في ذهني حتى اليوم , وهو قوله (( إنها لــي ! )) ولطالما ارتعشت كلما تذكرت كيف قالها . إنني لا أطيق الرجال أمثاله , رجال ينظرون إلى المرأة كنوع من الممتلكات . كلماته أعادت تدفق الذكريات المؤلمة المريرة التي مرت بها . وتركها هذا غير قادرة على الكلام للحظات طويلة , تحدق في الأرض . وعندما استعادت القدرة على النطق , قالت : ـ مـــاذا ســأفعل ؟ والدها رباها بعد موت أمها . . . وكان مقربان من بعضهما جداً . ورثت عنه موهبته , ذكــاءه , حبه للجمال . علمها كيف ترى الجمال في أشياء لا علاقة لها بالجمال . فتح عينيها على الحياة بكل ما فيها من تسامح . علمها أسس فلسفة هادئة لتبني عليها نظرتها إلى الحياة . لم تشك لفترة طويلة , أن علاقته بالجميلات من العارضات اللواتــي مررن في حياته , لها أكثر من الطابع العملي . . وعندما كبرت لتفهم أنه يحب النساء , كانت قد توصلت إلى مرحلة تقبلت فيها هذا الواقع دون أن تنزعج . . كمـــا تقبلت تماماً لورين التي عاد بها معه من باريس , الصغيرة الحجم , الصريحة , الأمريكية الأصل , ذات الشعر الأحمر البني , والابتسامة الواسعة . على الأقل تجيد الطبخ . . . ومع أنها على الأقل تبلغ نصف عمره , فلديها إخـلاص وصدق جعلها محبوبة . . . وأجابها داني بقطــع حبل أفكــارها : ـ ماذا تفعلين ؟ افعلي ما يحلو لك . . ولكني أحذرك . . . إنه يخدعك . وأنت تعرفين هذا . . . وإذا استمريت في مقابلته فستتعرضين للألم مرة أخـــرى . هذا أمــر ممكن . . . إنه يأمل بأن يتمكن من محو الماضــي . . ومن الممكن أيضاً أنه يعتقد بقدرته على جعلها تقابله حتى يتسنى لها نسيان ما حــصل . . . وبألم , أحست أن الأمر حقيقــي . . . وشعرت بغضب يقطع أنفاسها . إذا كان كل هذا ادعاء منه , فهو شرير خبيث , كذاب قذر . أقنعت نفسها مئات المرات بأنها لن تذهب لزيارته ذلك اليوم . . . ولكنها فـــي النهاية ذهبت , توبخ نفسها على ضعفها , وتتجادل مع نفسها في كل خطوة من الطريق . حتى وهي واقفة خارج غرفته , ترددت . . . لقد تجاوزت ساعات زيارته المعتادة بكثير , ولا تزال أمامها فرصة للرجوع , وهي تقف هناك . . سمعت صوتاً غريباً في الداخل . . . آهة مخنوقة . إنه يتألم . . وفتحت الباب على الفور , وعيناها تطيران إليه وشاهدت رأسه مدفوناً في الوسادة . ولم يتحرك , تاركــاً وجهه مختبئاً عنهــا . فركضت نحوه , ولامست كتفه , وهمست : ـ روبرتو . . . مــا بك ؟ بقــي جامداً للحظات . ثم , ودون أن يرفع رأسه تمتم : ـ لا شـــيء . . رأســــــي . . . فجلست قربه , تداعب خصلات شعره البادية من تحت الرباط , وتدلك له مؤخرة عنقه : ـ هل يؤلمك ؟ أأستدعــي لك الممرضة ؟ فتنهد : ـ إنه أفضل الآن . . . استمــري فــي التدليك . وأحست بعضــلات عنقه تسترخــي . وتنفس بعمق : ـ آه . . . هذا رائع . . . لك يدان شافيتان يا جيني ! ارتفع الدم إلى وجهها وقد أدركت ما تفعل , وما تشعر . . . كل نواياها السابقة تلاشت . . كيف يمكن أن تواجهه بعد هذا ؟ استدار ليتمدد على ظهره , ورفع عيناه إلى وجههـــا . ـ لقد تأخــرت . . . ظننتك لن تأتــي . ـ كنت أعمــــل . ـ ترسمـــين ؟ كان وجهه هادئاً , لا قلق فيه , ولو أنه يمثل فهو ممثل ممتاز . . ماذا لو كان داني و غرانت مخطئان ؟ ماذا لو أنه لا يخدعها ؟ وهل تستطيع , أو هل تجرؤ , على إجباره ذاكرته على العودة , لتصدمه وتسبب له نوعاً من الانهيار ؟ أتستطيع أن تعيش مع ضميرها المعذب لو أضرت به ؟ ونظر إلى أصــابعه التي تمسك بالملاءة البيضاء , والهدوء بادٍ على وجهه : ـ هل ترين كراولي كثيراً ؟ فتنفست بحدة , ونظر إليها متسائلاً , فأجابته : ـ أراه بين حين وآخـــر . أدار وجهه عنها دون أن يرد . وجهه تعب , شاحب أشفق قلبها عليه . . . وقالت : ـ أنت تعب . . الأفضـــل أن أذهب لا تركك تستريح . مد يده ليمسك بيدها وقال بلهجة لم يكن فيها رجــاء , بل أمر : ـ ابقي . . . لقد قامت أمـــي بكل الترتيبات لسفرنا إلى ايطاليا . فــأجفلت وشعر بها , وشد بأصابعه على يدها . . فقالت : ـ روبرتو . . . فتحت فمها لتقول إنها لن تذهب معه , لن تستطيع , لن تستطيع الاستمرار بكل هذا الإدعاء . . . ولكنه قاطعها : ـ ستكون الممرضة معنا , ولا حاجة لك للقلق علي . أظنهم سيخدرونــي . . ولا يبدو أنهم مقتنعون بسفري . . ولكنني سئمت من البقاء في هذه الغرفة , و أريد الإبتعاد عن جو المستشفى , أن أرتاح في محيط أحبه , لقد سئمت من حياة المستشفى جيني . ستة أسابيع وقت طويل ويكفــي . وأنا واثق من شفائــي بسرعة أكبر في ايطاليا . ـ هل هي ممرضة ممن كن يعتنين بك هنا ؟ فضحك وأكمـــل كلامه والابتسامة على شفتيه : ـ لا . . لقد حصلوا عليها من وكالة خارجية للتمريض , وجــاءت هذا الصباح لتتباحث مع الأطباء . . . انتظـــري حتى تشاهديها . لم أكن أدري أن هناك ممرضات جميلات هكذا . ـ وكيف تبدو ؟ لا فائدة من كتمان الأمــر . . . إنها تغار , لقد أحست بالعوارض المألوفة للغيرة في معدتها . فقال ضاحكاً : ـ إنها حمراء الشعر , ولها جسد كممثلات السينما . يجب أن انتبه إلى ضغط الدم وهــي معــي . لمعت عيناها بالغضب , ونظر متسلياً إلى وجهها الغاضب . . ولكن ما حدث غير مزاجها . . فهو لو كان يذكر الماضي لما حــاول المزاح وإثارة غيرتها هكذا . ولن تصدق أنه يستطيع فعل هذا الآن لو أنه يتذكر ما حدث , لو أنه يتذكــر جيسكا , والطـــلاق . قبل أن تتركــه بعشر دقائق . لم يكن قد عاد لذكر الرحلة , ولكنها كانت تعرف أن إرادتها تضعف , وســارت لمدة ساعة في الجو البارد المثلج . أفكارها المشوشة منعتها من التفكير بتعقل . يوم فاجأته في الفراش مع جيسكا . . فكرت بالانتقــام , على نفس طريقة خيانته . فكانت تستطيع أن تستسلم لــ غرانت لولا أن والدها أســرع بإرسالها إلى لندن . ليلة سماعها بزواج روبرتو من جيسكا , ذهبت إلى حفلة راقصة , وعادت إلى شقتها مع شاب , كادت تستسلم له لولا أنها فــي اللحظة الأخيرة لم تستطع . عندما التجأت أخيراً إلى غرانت , لم تكن تتوقع أن يكون لها معه ذلك الشغف الذي عرفته من قبل . لم تكن قادرة فــي الواقع أن تقدم له الكثير حتى ولو حاولت . صحبتها له عميقة , ولكنها فاترة فيما لو قورنت بمشاعرها العنيفة تجاه روبرتو . أخيراً , توصلت إلى قرار قاطع حول ذهابها معه وقدرتها على تحمل بضعة أسابيع معه فــي ايطاليا لوحدهما . ذهبت إلى منزل والدته , وجلست إيفا تمسك بيدها بحنان تصغي بهدوء إليها وهي تحاول سرح مشاعرها المعقدة . وقالت إيفا بهــدوء : ـ تجعلين الأمــر يبدو معقداً جداً يا عزيزتــي . . . هناك سؤال واحد عليك الإجابة عليه . . هل تريدين حــقــاً الذهاب معه ؟ فــتأوهت جيني : ـ تعلمين جيداً أننــي أريد . . . إيفا . . . منذ سنتين عندما اتصلت بي بعد موت جيسكا . . . لترتيب لقاء معه , هل كان يعرف أنك تتصلين بــي ؟ ترددت إيفا بشكـــل ظاهر , واستطاعت جيني أن تلاحظ في عينيها رغبتها بالكذب . . . ثم تنهدت تهز رأسها : ـ لا . . . لم يكن يعرف . كان يرغب فــي رؤيتك , وعرفت هذا . . كنت في أفكاره على الدوام , وكان هناك مئات من الأمور الصغيرة تدل على ذلك . ولكنه كان يخاف . يخاف أن ترفضيه بطريقة تعمق جرحه أكثر . ـ جرحه ؟ أي جرح ؟ توحين لــي أحياناً بأنه كان بحاجة لمن يشـفق عليه مني . مـــــا حدث كـــان فعـلـتــه وليــست فعلـــتي . . . مجروح . . ؟ كنت يومها أود أن أراه يحترق بنار جهنم . . أكرهه يا إيفا . نظرت إليها إيفا بهدوء تهز رأسها وكأنها لا تصدق كلمة مما تسمع . . . وأحست جيني أنها سئمت من كل شـيء . . . من نفسها , من روبرتو , من كل شــيء , وأكــملت : ـ لقد بدا منذ شهــر أن كــل شــيء قد انتهى . . . لقد كرهته , لدرجة أنني كنت مستعدة لأمر من فوقه وهو جريح ينزف حتى الموت دون أن أنظر إليه . . ولكن هذا الأسبوع الأخير نسف كل شــيء , وأحياناً أشك في أنه يفعل هذا متعمداً , وبدأت أشك في أنه فقد ذاكرته . . أظنه يلعب لعبة خبيثة معي . ـ إذا كان يفعل هذا , هل سـتفهمين دوافعـه ؟ وأجفلت جيني . . . هل تعترف إيفا بالأمــر ؟ ـ وهل يفعــل ؟ ـ الأطباء يقولون لا . إنهم واثقون من أنه أغلق ذاكرته على الماضي . . ولكن دعي هذا جانباً . . لو أنه يتظاهر فهل ستفهمين حاجته للتستر قبل إعادة التقرب إليك , لأجل كبريائه ؟ روبرتو من آل باستينو , وكبرياؤه لا يوصف . . . كان دوماً هكذا . وستكون إهانة لرجولته لو اعترف بضعفه , وخاصة أمام امرأة . ألا يمكنك الغفران له لأجـــل هذا ؟ ـ ولكنه داس على كرامــــتي . . فلماذا أسامحه لحماية كرامته ؟ ـ كرامة المرأة في أن تضحي . . . وكلانا يعرف هذا . . نحن لا نعير كرامتنا الكثير من الاهتمام . . الرجــال هم من يقدسونها , يحاربون لأجلهــا , ومستعدون للموت في سبيلها . . . أما المرأة فلديها التفكير العملي أكثر كــي لا تضحي بشعرة من أجل الكرامة . ـ أنت تتحدثين عن الإيطاليين . . أما الرجال في أميركــا فلا يتحدثون عن الموت لأجل الكرامة صدقيــني ؟ ـ الأميركيون ؟ ولكن نحن نتحدث عن روبرتو , زوجك , ابني . . . ـ لم يعد زوجــــي ! ـ ولا حتى في قلبك ؟ ردت عليها جيني بنفس لهجتها الدرامية : ـ عندما شاهدته مع جيسكا تحطم قلبي ! لفترة طويلة بقيت أشعر بالفراغ وكأنني ميتة . وعندما شفيت أصبحت لدي الحكمة الكافية كــي لا أفرط بقلبي ثانية . . . لا يا إيفا . . . روبرتو لم يعد زوجي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . ـ لماذا إذن الرغبة فــي السفر معه ؟ بدا الانتصـــار على إيفا وهي تسأل , وأحست جيني باحمرار وجهها من الغضب فوقفت على قدميها وقالت بخشونة : ـ لأنني حمقــاء . . . وهذا ما أنا عليه . . . وإلا لمــا فكرت بالأمــر . فابتسمت إيفا : ـ ولكنك ستذهبين . . . أليس كذلك جيني ؟ ولم تستطع الرد , بل وافقت وقبضتاها مطبقتان وعلى وجهها تتصارع مختلف المشاعر . . . وبعد لحظات طويلة أجابت : ـ إذا ذهبت , فلت أريد تلك الممرضة الحمراء الشعر يا إيفا . فاتسعت عينا إيفا : ـ مــاذا ؟ ـ الممرضة التي استخدمتموها , يقول روبرتو عنها إنها صاعقة الجمــال . كانت وبكل طفولية قد أعمت الغيرة أبصارها . . . ونظرت إلى إيفا وشفتها السفلى بارزة إلى الأمام كالأطفــال : ـ استبدليها . . استخدمــي ممرضة مسنة . لن أتحمل أن يزعجــني بمزاحة عنها ونحن هناك ! فضحكت إيفا مسرورة : ـ وهل فعل هــذا ؟ ـ أوه . . ومتعمداً, مع أنه أظهر الأمــر وكأنه مزاح , ولكنــني لن أتحمله . فلمعت عينا إيفا : ـ سأستخدم ممرضة تشبه التنين . . . أعدك . ـ قبيحة مثل الخطيئة . هكــذا أفضل , ولأرى حينها كيف سيتغزل بها ! ـ ســأختار أكبر وأقبح ممرضة لديهم . وضحكت عالياً , ثم رافقت جيني إلى الباب , وقالت : ـ وتدعين أنك لا تهتمين به ؟ ـ أتمنى هذا . ولكن هذا لا يعني أنني سامحته . . . لن أســامحه أبداً . بعد مرور أربعة أيام على هذا اللقاء , كانت جيني فــي طائرة خاصة تملكها إمبراطورية باستينو , مع روبرتو وامــرأة في الخمسين تعنى بالمريض . ونظــر روبرتو إلى جيني : ـ أعتقد أنه علي أن أشكرك على هذا الغول . . . أم إن هذا عمــل أمــي ؟ رفعت جيني ذقنها متحدية : ـ لست أدري عما تتكلم . فابتسم لها ساخــراً : ـ صحيح ؟ واضطربت الطائرة بحدة , فشهقت وسارع إلى تغطية يدها بيده . ـ لا تقلقــي . . . الطائرة تستدير لتدخل في المسار العالمي للطيران . بعد لحظات , انخفض جفناه , فقد بدأت الحبوب المنومة التي أعطيت له قبل الإقلاع تعطي مفعولها وببطء استغرق في النوم . حطت بهم الطائرة في مطار لشبونة للتزود بالوقود قبل متابعة الطريق رأساً إلى نابولي . . . ومن ثم أقلعت إلى جزيرة صغيرة مقابل خليج نابولي يملكها كبار الأغنياء في إيطاليا . شواطئ الجزيرة الصخرية بدت واضحة المعالم والطائرة الخاصة الصغيرة تدور حولها , ثم ظـهرت أمامهــم أنوار المــدرج الذي ستنزل فيه الطائرة . الفيلا , كانت تبعد بضعة أميال عن المطار , وجلس روبرتو يحدق من النافذة متذكراً مرتع طفولته . قاد جوزيبي السيارة بهم وهو يتحدث إلى روبرتو عن آخــر أخبار الجزيرة وعائلاتها العريقة , ولكن جيني أحست بالنعاس , ولم تستيقظ إلا بعد توقف السيارة , لتجد نفسها ملتصقة بروبرتو , وذراعه عل كتفيها , وحرارة صدره تحت خدها . ساعد جوزيبي روبرتو الذي أصر على السير نحو المدخل . . . وسار ببطء , يرتاح بعد كل خطوة , ولكنـه أخيراً نجـــح في الوصـــول , ترافقه ابتسامة جوزيبي واستحسانه . ولاقتهما زوجته ماريا , تعلو وجهها ابتسامة السعادة وهي تبكي بكلمات الفرح , وتحتضن روبرتو , الذي عرفاه منذ طفولته , وأخذت تقبل وجنتيه مراراً . ماريا كانت لا تزال ترتدي السواد حزناً على أبنها الأكبر الذي مات غرقاً في قارب صيده , ولا زالت حتى الآن تشعل له الشموع في كنيسة الجزيرة الصغيرة . ابنها الآخر , الاندو , لديه بستان زيتون في الجبال الداخلية للجزيرة . ويعيش مع زوجته وأولاده الأربعة في منزل ابيض اللون داخل بستانه , ويزور أبويه يوم الأحد من كل أسبوع , وســأل روبرتو عنه وتبسم لسماعه لهجة المرأة الفخورة بابنها بالرغم من اختلافها الدائم معه . وقفت جيني منتظرة أن تلاحظ ماريا وجودها , وتتساءل عن ردة فعل المرأة المسنة عندما تراها . وأخيراً استدارت العينان السوداوان إليها . . ولكن لم تظهر الدهشة على ماريا لرؤيتها بل مدت ذراعيها بحرارة , فاندفعت جيني إليهما , وأخذتا تتبادلان القبل . بدا روبرتو شاحباً , فتدخلت الممرضة طالبة إليه أن يتوجه إلى سريره . . . وقادتهم ماريا إلى الطابق العلوي . . . هذه الفيلا بناها جد روبرتو منذ أربعين سنة , ومنذ ذلك الحين لم تلق إلا القليل من التجديد . . . في طرازها القديم وغرفها الواسعة المرتفعة السقوف , ونوافذها العالية والشرفات الواسعة المطلة على جزء كبير من أرض الجزيرة . أخيراً تُرك روبرتو لرعاية ممرضته , وانسحبت ماريا على مضض تظهر بوضوح عدم رضاها على ترك مريضها المحبوب بين يدي امرأة غريبة . لم تنجُ جيني من عدائية ماريا للغرباء بل قد شملتها هي أيضاً فيما مضى . ولكنها كانت قد بدأت تلين قبل الطلاق بقليل , وهي تبدو الآن متلهفة لجعل جيني تحس أنها في بيتها . وأخيراً تركتها لوحدها في غرفتها , لتفاجأ بأن إيفا قد أعطت تعليماتها الصارمة لجوزيبي وماريا بخصوصها . وترحيبهما المتوقع لوجودها أبرز ذلك بوضوح . تعبها الشديد الليلة منعها من إعطاء هذا الأمر أهمية كبرى . فغطت في نوم سريع لحظة أغمضت عينيها , واستمرت هكذا طوال ذلك الليل الدافـــئ الطويل . عندما استيقظت , كان نور الصباح قوياً , واستلقت تصغــــي إلى هدير أمواج البحر البعيد وهي تتكســر على أقدام الصخور . تتأمـــل شمس الشتاء وشعاعها الذي يتراقص على جدران غرفتها . . إنها تشعر براحة غريبة في هذا المكان المنعزل الهــادئ . بدت لها كل الانفعالات والتوترات التي مرت بها فــي الأســابيع الماضية وكــأنها ذكرى بعيدة . . . وأحست بقلبهــا يخفق بوعي مفاجـــئ . . إنها الآن مع روبرتو لوحدهما تحت سقف واحد . . . بعد خمس سنوات من الفراق .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الخامس
-------------------------------------
5 ـ جزيرة المفـــاجــآت
-------------------------------------
لمدة يومين بعد وصولهما , أصرت الممرضة على ملازمة روبرتو للفراش , فالرحلة كانت مرهقة له أكثر مما يبدو , وبالرغم من إقراره بتعبه , فقد أصرت بعناد , وكان إصرارها محقاً إذ أن جيني كلما ذهبت لزيارته تجده بين النوم واليقظة , فينظر إليها مترنحاً من النعاس ويقول : ـ يبدو أن السفر قد أنهك قواي . . . آسف يا جيني . فتقف قرب سريره تمرر أصابعها على وجهه : ـ لا بأس روبرتو . . . سوف تستعيد قوتك عما قريب . بينما هو مستلق ومتعب , كانت تتجول في حدائق الفيلا وكأنها تستعيد ذكرى ما مضى . . . كلما أطلت على منظر جديد كان يذكرها بحدة بلحظات من الماضي , وكانت تتخيل نفسها كما كانت منذ ستة سنوات . ومن نظراتها الناضجة الآن , استطاعت أن تدرك كم كانت صغيرة , دون خبرة , دون أي معرفة بأخلاق الرجل الذي تعيش معه , غير واثقة لا منه ولا من نفسها , شديدة الحساسية ورقيقة . لذلك كانت هدفاً سهلاً لـ جيسكا , ولا عجب أن تلك الفتاة الايطالية ضحكت عليها ! صباح اليوم الثالث , أصبح روبرتو بصحة جيدة سمحت له بالوقوف مستنداً إلى الممرضة , وهو يصر بأنه قادر على الوقوف . وكم كانت تتمنى أن تبقيه في فراشه لبضعة أيام أخرى لو استطاعت , ولكن طباعه المستبدة تغلبت على عنادها خاصة بعد استعادته لنشاطه . صاح بها وعيناه السوداوان شرستان : ـ سوف أقف ! كانت جيني في غرفتها عندما سمعته يصرخ , واستدارت لتنصت وشبح ابتسامة يتراقص على شفتيها . إنه روبرتو الذي تذكره . لم تسمع هذه اللهجة في صوته منذ الحادثة . خرجت لتدق باب غرفته , وتقدمت الممرضة لتفتح لها , والانزعاج بادٍ عليها , وهمست بغضب : ـ إنه يتلاعب سيدة باستينو . وكأنمــا روبرتو ولد صغير عنيد يلعب حيث لا يسمح له باللعب وبحاجة إلى ضرب على قفاه . . آه كم تتمنى لو تفعل . لو أنها تجــــرؤ . وحدق روبرتو بهما وصـــاح : ـ لِمَ كل هذا الهمس ؟ جيني تعــالي إلى هنا ! لن أسمح بالتــآمر علي من خلف ظهــري ! فابتسمت جيني للممرضة , وكأنها تعتذر . . ثم تقدمت نحوه وعيناه مثبتتان عليها . . . وأحست بالغضب للاهتمام الذي يظهر في نظراته . . وأحست أكثر فأكثر برغبة في ضربه . وتجولت عيناه في بلوزتها وسروالها الأســـود . ـ لِمَ ترتدين هذه الملابــس ؟ أكره النساء اللواتــي يرتدين الســــروال . . . اخلعيهـــــا . فنظرت إليه ببـــرود وقد رفعت حاجباً واحداً : ـ أعصابنا متوترة هذا الصباح . . . أليس كذلك أيتها الممرضـــة ؟ فردت الممرضــة بارتياح : ـ نحن هكــذا دائماً كلما أحسسنا ببعض التحسن . ونظــر إليهما روبرتو بغضب : ـ لا تتحدثا عني هكذا ! وكــأني طفل . . . لأجل الله . . . ! لن أحتمل هــذا ! فردت عليه جيني بعذوبة : ـ إذن عليك الاستلقــاء والراحة . أنت لا زلت ضعيفــاً على الوقوف . فقال من بين أسنانــه : ـ جيني . . . ســـأقف ! فهزت رأسها مبتسمة , وهي تعلم أن لا شـــيء يثير جنونه أكثــر مما تفعــل : ـ لا يا حبيبي . . . يجب أن تفعل ما تقولـــه الممرضــة . وصــر على أسنانـه بصوت مسموع , وبرزت عظام فكيه . . وبدا الحبور على الممرضة التي روعها من قبل بعصبيته , وقالت له : ـ زوجتك محقة . . . سيد باستينو . وأردفت جيني بصــوت ناعم خافت : ـ الممرضة تعرف ما هو أفضــــل لك . وبدا عليه السكــون , يداه ممدودتان إلى جانبيه وقبضتاه مشدودتان . ثم تمتم : ـ يا إله السمـــاوات ! واستدار ليستلقي على جانبه كــي لا يراهما . . كل حــركه فــي جسده تنم عن الغضب . فغمزت الممرضــة لـ جيني وخرجت . ووقفت جيني تنظر إلى الرأس الأسود . تراقب التوتر البارز على عضلات عنقه من خلال تجاعيد شعـــــره : ـ هل ستبقى مقطبــاً طوال اليوم ؟ فاستدار بحدة : ـ ومن المقطــب ؟ فـسـخــرت منه وعيناها تضحكان : ـ أوه . . . روبرتو . . . ! ـ لقد سئمت البقاء مقيداً في السرير . . . وفكرت بقضاء بضع ساعات معاً . شـــيء ما في طريقة كلامه جعلها تجفل , وتتراجع خطوة إلى الوراء , وتندفع نبضاتها متسارعة . وبطريقة ما استطاعت أن تقول ببرود : ـ لا زلت مريــضــاً روبرتو . . . أعلم أن الأمــر صعب عليك , ولكن يجب أن تواجه الواقع . الرحلة كانت مرهقة لك . فــأعطِ نفســك فرصة للراحــة . ـ ابقــي معــــي إذن . في لهجته دعــــوة أكثــر مما تعني الكــلمــات , فــأحسـت بالــحرارة تشتــعــل داخــــل جسدهـــــا , فــأشــاحت بنظــرهــــا عنه . ـ لــو بقيت معـك فلن تــرتاح . . ستستــمر في الكلام . . . يجب أن تتعلم كــيف ترتاح . . . يجب أن تمــضــي ســاعات يومياً دون أن تفعل شيئاً على الإطلاق . فتمتم : ـ هــذا يبدو مضجــراً للغاية . فــاستدارت عنه متجهة إلى الباب : ـ مهما يكن , هــذا ما يجب أن تفعله . جلس روبرتو فوراً في فراشه , عيناه تلمعان , ورأسه مرتفع بكبرياء : ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟ ـ ســأتمشى قليلاً . . أراك لاحقــاً . ـ عــودي إلى هنــا ! ولكنها تجاهلته وتابعت طريقها , حيث التقت بالممرضــة التي ابتسمت لها شاكرة فقالت لها جيني : ـ راقبيه جيداً , فهو سيحاول الخلاص . ـ لا تقلقي سيدة باستينو . . ســأفعل . أحست جيني بلذة الانتصار , وخرجت من الفيلا عبر الحديقة المتدرجة باتجاه البحر . وهبت ريح لاذعة لعبت بشعرها , وأعادت اللون الزهري إلى خديها . . لقد أحست بسعادة ولذة أكبر في إجباره على الطاعة , وأحست أنها قادرة على التعامل معه . . . إنه رجل اعتاد على إصــدار الأوامر , أفسدته سنوات من الثراء والسلطة , ومع أنه دللها فــي أول أشهر زواجهما , إلا أنها كانت دائماً تشعر بأنها العبدة وهو السيد . لا يسمح لها أبداً بأن تنسى أنه المتفوق عليها بكل ما فــي الكلمة من معنى . يعاملها بترفع حتى وهو يحبها وكأنما هي قطة خائفة تائهة التقطها من الشارع وجاء بها إلى بيته . تعمدت جيني البقاء بعيدة عنه لما تبقى من اليوم , مع أنه أرسل عدة رسائل مع ماريا تفيد بأنه يرغب في رؤيتها , إلا أنها كانت تشكر المرأة , وتستدير مبتعدة تحت أنظارها الفضولية المليئة بالدهشة والاستغراب . آوت إلى الفراش باكراً بعد تأكيد الممرضة لها أنها أعطت روبرتو دواءً منوماً , وأنه نام بسرعة . نزهتها الطويلة على الشاطئ أتعبتها وغطت في النوم على الفور تقريباً . في الصباح التالي كان روبرتو يقرأ جريدة إيطالية عندما وصـــلــت إلى غرفته . ونظــر إليها ببرود كما نظرت إليه . وعلمت على الفور أن تصرفاته تغيرت . وقال لها بصوت ملــيء بالشر : ـ تعالي إلى هنا . فردت متظاهرة بأنه لم تسمعه : ـ ســأتمشى قليلاً على الساحل الصخـــري اليوم . وقال لها وعيناه تضيقان بتهديد : ـ تعالي إلى هنا , وإلا ســأنهض لآتــي بك . فاستدارت تتظــاهر بالدهشة : ـ مــا الأمــر َ؟ أتحس بالتوتر ثانية ؟ الممرضــة تقول أن هذه علامات التعافــي . . . وســرعان ما ستشعر بالراحــة . وكشــر عن أسنانه بوحشية وتمتم : ـ يا إلهــي ! أنت ترغبين بالمشاكــل . . تعالي إلى هنا . وتقدمت إلى السرير تحدق به . . هل تتخيل , أم إنها تشاهد أمامها روبرتو القديم , تلك الشخصية القاسية , المتسلطة , القوية , التي لم تظهر منذ مرضــه ؟ وقالت بصوت خافت : ـ لا تكلمني هــكــذا روبرتو . ومد يده ليمسك بيدهـــا ويجرهـــــا لتجلس على الـــسرير , بحيث لا يمكن لها أن تتخلص إلا إذا قاومت بعنف وآذته . فــصـــاحــت تتلوى لتتجنب فمه الذي اقترب منها ليمر فوق خدهــا باحثاً . . . ـ اتركـــــني ! ولكنه لم يرد , وتابع محــاولاته للسيطرة عليها وأحست بغضــــبه لمقاومتها , وسمعت أنفــاسه المتحشــرجة , وحركات يديه عليها . وأدارها إليه بالرغم من مقاومتها وعندما نظرت في عينيه عرفت . . ســألته والذهــول في صوتها ونظراتها : ـ أنت . . . تتذكــــر ؟ فابتسم ابتســامة متجهمة , ولم يرد . تصــاعد غضبها ليماثل غضبه . غضب مرير محرق ســرى في شرايينها وكأنه النار في الهشيم , وبرز في عينيها الخضراوين . وأطبق فمه عليها قبل أن تستطيع الانسحاب , دون عاطفة , ودن اهتمام . إنه يظهر لها غضبه ويطلب منها الخضوع . ووضعت يديها على صدره , محاولة صده رافضة أن تلين أمام قوته , وأخيراً سمح لها بأن تبتعد . . . أخذت أنفاسها تتسارع وهــي ترتجف ونظرت إلى عينيه الساخرتين . ـ متى استعدت ذاكرتك ؟ ـ بعد ثانـــي زيارة لك إلى المستشفـــى . وجمدت , تحدق به غير مصدقة , وجهها شديد الشحوب من جراء الصدمة التي تلقتها ثم همست بخــشـونة : ـ أيها الخنزير الكــاذب . وقاومته لتترك السرير : ـ اتركني ! لن أبقــى هنا بعد الآن . إني راحلة . ـ سباحة كمــا أعتقد ؟ وســخــرت منها عيناه . . أوه يا إلهــي . . . بالتأكيد , كيف سترحل ؟ وصاحت به : ـ ســـأجد مركب صيد يوصني إلى نابولـي . فرفع حاجباً واحداً : ـ أتعتقدين هذا حقــاً ؟ ليس هناك رجل في كل الجزيرة يجرؤ على المخاطر بتلقي غضب روبرتو باستينو . . . وكلاهما يعرف هذا . وتصاعد غضبها بعد أن عرفت المأزق الذي رمت نفسها فيه . . . لقد ســارت بقدميها إلى هذا الكمين وعيناها مفتوحتان . ونظرت إليه بمرارة . ـ ولِمَ كــذبت علي طوال هذه الأســـابيع ؟ ـ هل تعنين أنه لم يخطــر ببالك أنني استعدت ذاكرتي ؟ ـ لقد فكرت بهذا طبعاً . ـ إذن ؟ ـ لم أكن أعتقد أنك ستكون خنزيراً قذراً هكذا . كـــان علي أن أعرف , فهذا يتوافق مع أمثالك , ولكنني لا زلت أجد صعوبة في التصديق أن هناك من بإمكانهم التصرف هكذا دون تردد أو خجل . وأصابت الهدف . . . ضاقت عينا روبرتو و وأصبحتا كالبـركان الثائر , واشتد فكاه , ولكنه استمر في الابتسام , وكأن كلامها مثل الماء على ظهر بطة . وعندما عادت لمحاولة الخلاص منه شدها إليه أكثر وقال بنعومة فائقة : ـ لا . . لن تفعلـــي . فقالت بقســوة وهي تنظــر إلى وجهه باحتقار . ـ لا أطيق أن تلمســـني . ارتجفت شفتاه , ولكنه استمر في الابتسام , وزاد ضغط يديه على ظهرها , وأحست برغبة الأذية تغطيها تلك الابتسامة , وقالت , وهي تتمنى لو أنهـــا تثق بمــا تقول : ـ لن تستطيع استبقائي هنا رغمــاً عني . ـ ألن أستطيع . ـ ســأجد سبيلاً للهرب من الجزيرة ! فضحك عالياً : ـ كما قلت لك . . بإمكانك السباحة , وأرجو أن تكون سباحتك قد تحسنت . آخر مرة رأيتك في البحر كنت تعومين كالـكـلب , ولم تستطيعي اجتياز مسافة قصيرة . وكان الغضب قد استبد بها حتى لم تستطع أن تجيب , فأشاحت بوجهها عنه . وبعد لحظات قالت : ـ لا بأس إذن . بإمكانك حجزي هنا . . ولكنك لن تجبرني على رؤيتك . وتمتم بكلمات إيطالية ثم قال : ـ لا ؟ . . . وبعد كل هذه الأسابيع من اللطف والمحبة ؟ لقد تمتعت حقاً بوجودك إلى جانبي كل يوم . . . حلوة مطيعة . بالكاد تعرفت إليك . لقد ظننت حقاً أنك تغيرت ! ـ ولكنك كنت مخطئاً . ـ هذا ما يبدو , لأسف . لقد أحببت تمثيلك المحتشم . . حقاً . . كدت تخدعيني . ـ كدت أخدعك ؟ وتقولها بأعصاب باردة ؟ ـ كان يجب أن تكونـــي ممثلة . ـ أنا لست من صنفك , فتمثيلك متقن , لقد أحسـســت فعلاً بالأسف عليك . لقد أقنعتني كمــا أقنعت أمك بأنك ستموت . وظهرت الحدة في عينيها : ـ ولكن هل هذا ما حدث حقاً ؟ أم أن إيفا كانت تشاركك ؟ هل كانت تعلم بأنك تمثل ؟ أعتقد هذا ! وأحست بألم لا معنى له . . لقد كذبت عليها إيفا . وهذا يؤلمها والجواب ظــاهر على وجهه . . . ـ يا إلهي . . لم يكن بمقدوري تصديق هذا عنها . . . كيف يمكن لها أن تفعل هذا بي؟ وتراجعت يداه عنها , وقال ببرود : ـ لقد فعلت هذا لأجــلــي . وإذا كنت تريدين لوم أحد . . فلوميــني أنا . فأنا منعتها من إخبارك بأنني استعدت ذاكرتي . . لقد كانت معي عندما عاد كل شــيء إلى رأســي . وكانت ستقول لك لولا أنــني توسلت إليها . واستدار لينظــر عبر النـافــذة . . فــســألته , كــارهة نفسها لهذا الســـؤال : ـ لماذا ؟ لمــاذا أردت إخفاء الأمــر عني ؟ لماذا استمــريــت بالتمثيل يوماً بعد يوم ؟ فهــز كتفيه ببطء : ـ كــنت أتمتع بالأمور كــمـــا هي . ـ لقد استغفلتــني . وكذلك إيفا . لطالما أفســدتك . . . واحمــر وجههــا ذلاً . فضحك ضحكــة متوترة : ـ أنــا ؟ . . أنت من أفــســدك الدلال يا جيني ! فـــحــدقت به غير مصدقة مــا تسمع : ـ ومــاذا تعني بكلامك هــذا ؟ ـ لقد ترك لك والـــدك حرية العيش كما يحلو لك . كان لديك الكثير من الحرية . . . فنــشــأت غير مبالية وعنيدة , أمــــام حاجات ورغــبات الآخــرين . ـ أنت تعـــني حـــاجــاتك . . ورغباتــك ! ـ كــنــت زوجــك ! ـ بل سجاني . كنت تمتلكــني كما تمتلك قطــة أعجبتك من الشارع . . . أوه . . . لقد أعطيتــني الحرير والفرو والمساحيق التي أرغب بها , ولكن لم يكن لـي مكان حقيقي في حياتك روبرتو . كانت عائلتك تهمك أكثر منــي بكثير . لم أكــن سوى مجرد دمية تمتلكهـــا . تحركت لتقف , ولكن يداه أمسكتـــا بها , بقــوة لم تستطع مقاومتها وجذبها هذه المرة فوقه حتى أصبح جسدها مستلقياً فوق جســده , وقال بخشونة . ـ دمية لها مخالب . لقد تركت مخالبك آثــاراً عل جســدي مراراً . ـ فقط عندما كنت تعاملــني بقسوة . ـ ولكنك لم تكونـــي مستاءةً من قسوتــي . . . أليس كذلك ؟ فهمست بصوت كــالفحيح : ـ أكـــرهك . فاقترب منها : ـ قد يتحول هذا إلى تحدٍ . . . ألم يخطــر ببالك هذا ؟ قد أجــد حقدك ورفضك محفــزاً لـي أكثر من الإذعان . ـ هذا يحدث مع متوحش يتمتع بأذية النساء . أزعجــه هذا الكلام , وسمعت صوت تنفســه الحاد . واشتدت قبضة يديه عليهــا , وحجزها بعنف : ـ لا تجعليني أغضب , وإلا ستكتشفين كم أستطيع أن أكـــون متوحشـــاً . ـ لست بحــاجة إلى درس آخـــر . . فأنا أعرف . صمت للحظــــات . . ثم تمتم : ـ وهل كراولي متوحش يا جيني ؟ وأحســت بخديها يحترقان : ـ غرانت ؟ ـ هل هو متوحش ؟ لطالمــا اعتبرته كلباً مدللاً أكثــر منه رجلاً . . . فلا تقولــي إنك وجدته العاشق الملائم يا حلوتي ؟ فردت بصــوت متوتر : ـ أنا أحب غرانت . . ولن أتحدث عنه معك . ـ وهل تستخدمين مخالبك عليه ؟ أم إن الأمــور تجـــري بلطف بينكما ؟ ـ أوه . . أخــرس ! غرانت رجــل صبور وكريــم و . . . وقاطعها بلهجة فيها غضب غريب محــرق : ـ صبور ؟ أوه . . أجــل . . . إنه هــكــذا . وسيبقى دائمــاً موجوداً . . . ينتظرك أليس كــذلك ! حتى خــلال زواجنا . . كنت تتسلليــن ســراً إليه . ـ كنت أذهب لأســاعد أبــي في تصاميمه , وكــان غرانت يزوره من وقــت لآخـــر . فضحك بخــشــونة : ـ تساعدين أباك . . كم أنت مقنعة بهــذا العذر ! وصــدمها هذا الكلام بقســوة , وارتفع غضبها , فنـظــرت إليه : ـ صدق أو لا تصــدق . . . فأنا رســامة أزياء ممتازة . . . فاستبقِ سخــريـتـك لنفسك . . فلقد بدأ اسمـــي يظهر فــي عالم الأزياء , واللعنة علــيــك ! ـ أنت تعنين أن كراولي يصنع لك ذلك الاسم . . لقد قلت لـــي مرة أن صاحب دار الأزياء هو من يصنع أو يحطم المصمم الفنان . وهو يتأكــد من فع تصاميمك للتنفيذ كلما سنحت له الفرصــة . . فأنت من صنعه فـــي عالم الأزياء . فردت صــارخة : ـ هذا كذب ! أنت تكــره الإقرار بأن المرأة يمكن أن تكـــون ناجحة في أي شــيء . ـ بالعكــس . . . فالمرأة ممتازة . . . لشـــيء وحد . ـ أنت الخبير . . فلديك مـا يكفي منهن ! فرفــع رأسها إليه قبل أن تستطيع منعه : ـ ليس ما يكفــي . . لا يا جيني . وحدقا ببعضهما , ثم حاولت إرجــاع رأسها إلى الوراء ولكن يده خلف عنقها منعتها , وعندما لامس فمه وجهها كــان في عناقه نوايا عديدة . فقد جعلها عن قصــد تشعر بمــا يشعر به . ولكنها لم تستجب , بل تمــاسكت متصلبة رغم أن أحــاسيسها كانت تشتعل بحركاته المغرية . ورفع رأسه ليقول بلؤم : ـ كراولي لم يعلمك الكثير . ـ لقد علمني أن العلاقات العابرة تثير الاشمئزاز . فــأجفل لكلامهــا الجارح , فاغتنمت الفرصــة لتتخلص منه وتهرب خــارج الغرفة . ثم سعت إلى الحرية عند الــشــاطئ والصخور , لتجد في تغريد الطيور , وهدير الأمواج , راحة النفس التي تحتاجها . إنها غلطتها . . لقد حذرها داني و غرانت . . . وكذلك حذرها تفكيرها السليم . . . ولكنها وقعت في حبائل خداعه كالغبية , أطبق عليها فخ ضعفها أمام الرجــل الذي يـجب أن تكــره . وغطت وجهها بيديها . . أوه . . يا إله السمــاوات , كم دخلت الفخ بكــل إرادتها , وكــأنها نعجة تساق للذبح . ليس هو من جعلها تعمى عن الحقيقة , بل هي أرادت لنفسهــا هذا , وتعاونت معه بصمت . . . وإيفا كذلك . . ولكن لا عجب فــي هذا بعد وضوح رغبتها هي في ذلك . مشت فوق الصخور تلوم نفسهــا . . ماذا ستفعل ؟ الطريقة الوحيدة هي على متن قارب وما من أحد من الصيادين سيأخــذها مهما عرضت عليه من ثمن . فـروبرتو رجل له نفوذ , ومصالح كبيرة في إيطاليا . . . وستكون عاجزة عن القيام بأي عمل إذا ما استخـدم هــذا النفوذ . وتذكرت أن هناك ممراً بين الصخور يفضي إلى الطريق العام ثم إلى الفيلا دون أن تضطر للعودة أدراجها من حيث أتت . وهكذا استدارت لتسير عبره فوق الصخور الخشنة غير المستوية تحت قدميها . . . هناك بضع سيارات في الجزيرة , ولكن أهل الجزيرة إما يسيرون أو يستخدمون الحمير الصغيرة الحجم التي تتسلق الوعر وكأنها المــاعز . صوت محرك أجفلها حتى أنها للحظات جمدت من الدهشة . ثم ركضت عبر الدغل المنخفض , تلوح , وتنظر إلى الطريق لترى غيمة كثيفة من الغبار لا بد أنه ناتج عن مرور سيارة . كانت السيارة مســرعة , فزادت هي من سرعة ركضها , خائفة ألا يراها راكب السيارة , كانت تركز انتباهها بشدة , حتى أنها لم تشــاهد الصخور البارزة أمامها إلا بعد فوات الأوان . واهتز جسدها كله وهي ترتمي على معدتها فوق الصخور . وصرخت من قوة السقطة , ثم لاذت بالصمت على أثر الألم الذي صدمها واستلقت بين الشجيرات الصغيرة الشائكة , لا تحس بـــشــــيء سوى الألم في عظامها . ما هي إلا لحظات حتى شعرت بيدين ترفعانها عن الأرض , وتديران وجهها إلى فوق . ومرت يدان مرتبكتان بسرعة على جسدها , تبحثان عن إجابات محتملة . وفتحت عينيها , تتأوه من الألم , ليطل عليها وجه أسمــر يتوج رأسه شعر أشقــر ملون بالغبار بعينيه الزرقاوين المتلألئتين المليئتين بالقلق . ـ أنت بخير ؟ كان يركع إلى جانبها يسند رأسه بيده بعد أن تفحصها باحثاً عن إصابات . . . ويتكلم الانكليزية . فأجابته غير واثقة : ـ أجــل . . . هل أنت إنكليزي ؟ فــابتسم : ـ بل أميركي . . . وأنت كذلك . . ما هذه الصدفة ! ـ وماذا تفعل هنا ؟ ـ ألتقط الصـــور . وأحست فجأة أن يده الأخرى ترتاح على خصرها بطريقة حميمة جعلت الاحمرار يعلو خديها البيضاويين . وحــاولت الجلوس , فدارت الدنيا حولها . فقال لها بصوت مفعم بالاهتمام . ـ هــاي . . لا يجب أن تتحركــي . . سقطتك كانت قوية . فلفت جيني ذراعيها حول ركبتيها وأراحت رأسها عليهما , تتنفس ببطء وعمق . وتركها هكذا لبضع لحظات , وعندما توقف الدوار . رفعت رأسها ببطء , فســألها مبتسماً : ـ هل أنت أفضــل حالاً الآن ؟ فهزت رأسها وردت تأدباً : ـ شكــــراً لك . ـ لقد ظننت نفســـي أتخيل عندما خرجت نحوي راكضــة . ـ وهذا يجعل منا أثان , فآخر شــيء كنت أتوقع رؤية هو سيارة . فضحـــك : ـ هذا يوضح ما حصل . فالسيارات نادرة هنا . . أليس كذلك ؟ السيارة الوحيدة الأخرى هي لباستينو . ولكن , لا بد تعرفين هذا . . فأين يمكن أن تقيمي في هذا الجزء من الجزيرة سوى في فيلتهم ؟ سمعت أنه هنا . . . لا بد أنك ممــرضته . فــأجابت بسرعــة ودون تفكــير : ـ ممرضــة ؟ . . . لا ! ـ لا . . ولكنك تقيمين في الفيلا التي يملكها أليس كذلك ؟ أوه . . أنا آسف لم أقصــد أن أطرح أسئلة ذات مغزى . وفهمت جيني ما يجول في ذهنه . نظرته السريعة إلى يدها اليسرى أوضحت أنه يفكر بوضعها , وأنه قرر أن روبرتو قد جاء بإحدى عشيقاته معه . وبدا عليها الغضب . . . فتراجع الرجل إلى الوراء لرؤيته بريق اخضرار عينيها . ووقفت . . . فتحرك لمساعدتها بعد أن رآهــا تترنح . . وقال : ـ ســأوصلك إلى الفيلا . . . أهذا مــا كنت ستطلبينه ؟ ـ أجل . . . شكــراً لك . وســـار إلى جانبها نحو السيارة وعيناه تحدقان بها باهتمام . . وقال لها بعد قليل : ـ يجب أن نعرف عن أنفسنا . . أنا تومــاس مارشال . ـ وأنا جيني نيوهام . ـ جيني . . . اسم غير مألوف . . ولكنه يناسبك . فتح لها باب الروفر . . فصعدت إليه , ثم انضم إليها . أدار المحرك فانطلــقت السيارة , وســألته : ـ مــاذا تفعل على الجزيرة ؟ ـ أنا عالم اجتماعات . ـ يا إلهي ! ـ ولماذا يجيب الناس هكذا على نوع عملي , ما الخطـــأ في دراسة الجنس البشري ؟ ـ أهذا ما تفعله هنا . . . تدرس أهــل الجزيرة ؟ ـ أجول في الجزر أدرس حياة الناس الاجتماعية , فأنا اخضر لأطروحة التخرج , التي تتناول مجتمعات الجزر . ـ يبدو الأمر مذهــلاً . ـ هذا صحيح . ـ وأين تقيم ؟ ـ فــي الفيلا . ـ ماذا ؟ ولكنني لم أشاهدك هناك . ـ آه . . هذا لأنني لم أكن موجوداً . لقد ذهبت إلى الجبال لأزور ابن جوزيبي , الانرو . وبقيت هناك لبضع أيام للتعرف على نمط حياته إنه شاب طيب , وقد اتفقت معه بشكــل جيد . ـ وهل يعلم روبرتو أنك تقيم في الفيلا ؟ ـ لقد اتفقت معه منذ أشهــر . في الواقع هذه السيارة له . وهل ظننت أنني ســأستخدم بيته كفنــــدق دون إذنه . ـ آسفة . . . بالطبع لا . كل ما في الأمر أن أحداً لم يذكرك لـي . ولم يكن لدي فكرة عن وجود غريب . وكم ستبقى هنــا ؟ ـ ليومين آخــرين . عندها فقط خطرت فكرة لها , فتنفست بحدة , فالتفت تومــاس مارشال متسائلاً , فبادرته بالسؤال : ـ وكيف ستغــادر ؟ فضحك : ـ بالمركب طبعاً . وســأذهب إلى محطتي التالية . . لقد رسمت خط رحلتي منذ سنة . ولا يزال أمــامي رحلة طويلة . ـ وهل سيأخذك أحد الصيادين ؟ ـ بل صديق في الواقع . إنه يعمل في (( سودينية )) ويملك مركباً . وهو يحب الإبحــار إلى حد الجنون . . . سيأخــذني من هنا ويوصني إلى محطتي التالية , ثم يغيب بضعة أيام قبل أن يعود ويلتقطني ثانية . ـ وهل هو أميركــــي ؟ ـ تقريبــاً . ـ وماذا يعني هذا ؟ ـ لديه جواز سفر أميركــي , ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ سنوات طويلة . التقيته في اليونان منذ خمس سنوات ومنذ ذلك الوقت سكن في إفريقيا , ثم الخليج العربي , وأخيراً في تركيا , قبل أن يستقـــر مؤخراً في سردينيا . وتنفست جيني ببطء : ـ وهل يمكن أن يأخذ معه راكباً ؟ فاستدار تومــاس إليها وحاجباه يرتفعان : ـ أنتِ ؟ ـ أنا . . . أريد الهرب من الجزيرة . ـ وهل يعرف باستينو ؟ ـ لا تقل له أرجوك . لا يجب أن يعرف . . ولكن يجب أن أهرب من هنــا . يأسها كــان واضحاً في صوتها , مما أوضح له الأمــر . فصفر : ـ أوه . . فهمت . . لقد سمعت عنه أنه ذئب كــاسر . . . لماذا جئت معه وأنت تعرفين هذا عنه ؟ ــ لابد أنــني فقدت عقلــي . أتساعدني ؟ كانت لهجتها شديدة الإقناع ولم يتردد : ـ بالطبع , ويجب أن تسافري خـفيفة , دون حقائب , فالمركب ليس كبيراً . كل ما يمكنك أخذه حقيبة صغيرة . وتعلمين أنك يجب أن تعملي للمساعدة . . أتجيدين الطبخ ؟ فهذه مساعدة جيدة . وأجابت بارتياح وحبور : ـ أجيد الطبخ . . . شكــراً لك . لن تستطيع تصور كم أنا شاكرة لك . فضحك لهــا : ـ هذا سيعلمك أن لا تسيري في أماكن خطرة . . . لا بد أن أمك علمتك أن لا تتعاملي مع رجال من أمثال روبرتو باستينو ؟ ـ لم يكن لــي أم . فلانت عيناه , ونظــر إليها بلطف : ـ آسف . . . انسي ما قلته . وصلا الفيلا , أوقف السيارة خارج الباب الرئيسي . . فنزلت متصلبة تنفض الغبار عن ثيابها . وانفتح الباب , وحدقت ماريا بهما , فابتسم لها توماس وقال : ـ لقد عدت ثانية . الاندرو يرسل لكما حبه . . . ولدي أربع قبلات لك من أحفــادك . فابتسمت ماريا ابتسامة خفيفة . . . ثم تحولت عيناها السوداوان إلى جيني . ـ أين كنت ؟ لقد قلقنا عليك , قد غبت ســاعــات . وتحركت جيني داخــل الباب وتوماس إلى جانبها : ـ لقد ســرت طويلاً على الشاطئ . ـ من الخطــر الابتعاد عن الفيلا سيدة باستينو . كانت تستخدم الاسم متعمدة , وأحســت جيني أن توماس أجفل . وسمعت صوت تنفسه العميق . وأعماها الغضب , فقالت ببرود لاذع محــدقة إلى ماريا بتحدٍ . ـ أنا لست السيدة باستينو . وسمعت صوتاً بارداً من خــلــف ماريا يقول : ـ ستعطين السيد مارشال فكــرة خاطئة عنك جيني . وخفق قلبها لرؤية روبرتو يقف هناك . . . وتابع بسخرية : ـ أحببت هذا أم كرهته , فلـدي صورة زفافنا تثبته . أمـا الباقــي فأعطني قليلاً من الوقت بعد . احمــر وجه توماس مارشال , وبدا عليه الغضب . ونظــرت إليه جيني يائســة وهي تعرف تماماً ما يفكر به . قال وهو يفرك مؤخرة عنقــه : ـ عذراً . . فأنا بحاجــة لحمــام وحلاقــة ذقن . صعـد السلم , واختفت ماريا , فنظرت جيني إلى روبرتو بمــرارة : ـ يا إلهـــي كم أكرهك ! وبدت القســوة على وجهه : ـ حقــاً ؟ حسناً . . لـدي أخبار سارة لـك يا حبيبتــي . . . مــا تشعرين به لــي هو بسيط جــداً بالنسبة لمـا أشعر به نحوك .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل السادس
-------------------------------------
6 ـ لــم يكن لهـا
-------------------------------------
فاجأها التصريح وحملقت به وفمها مفتوح , فـابتسم لها ابتسامة باردة قــاسية : ـ لقد فاجأك هذا . . . أليس كذلك ؟ أحست بردات فعل متضاربة من جراء ما سمعته , ألم , غضب وحقــد متأجج . ـ أنت تكرهني ؟ ولكنـني لست أنا من . . . فقاطعها رافعاً حاجبيه السوداوين بتحدٍ ســاخر : ـ ألم تكوني أنت . . . وهل مر وقت طويل , قبل أن تعطي كراولي ما كان يرغب به منك ؟ اقترب منها , وفقدت الإحساس بمكان وجودهما . . . وقال لها بهمــس كالفحيح : ـ متى كان ذلك جيني ؟ تلك الليــــلة ؟ هل هربت من منزلـــي لترتمــي بين أحضانه ؟ العجرفــة في عينيه الباردتين اخترقت تظاهرها بعدم الاكتراث . فابتعدت عنه كطفل خائف مرتعب . ـ ليس لك الحق لتسأل , و أنا لن أجيب عن أي سؤال . لماذا كذبت على السيد مارشال ؟ أنا لست زوجتك , وسأخبره بأمر الطـــلاق . ـ أعرف أنك ستفعلين . ـ بكــل تأكيد ســأفعل . وحــاولت جذب ذراعيها من قبضته , إلا أن أصابعه اشتدت أكثر على لحمها . ـ ولكنك لن تفعلــي . . . لأنك لن ترينه ثانية . ســأطرده من الجزيرة الليلة ! ـ لن تستطيع هــذا ! ولكنها تعرف أنه قادر . . سيأمر أي صياد بأخذه إلى أي مكان وسيفعل دون تردد . ولن يستطيع توماس أن يعترض على أوامره . ـ ألن أستطيع ؟ بل أستطيع فعل أكثر من هذا . . كلمة واحدة مني في المكان المناسب وسيطير من إيطاليا كلها , وستذهب دراسته إلى الجحيم . وسيجد نفســه غير مرغوب به أينما ذهب في هذه المنطقة , وسيكون على أول طائرة عائدة إلى أميركا قبل أن يعرف إلى أين هو ذاهب . تمتمت بكــراهية وصوتها يرتجف : ـ أيهــا الخنزير القذر . وشــد يده بقسوة على ذراعها ليمنعها من الابتعاد , محدقـاً بوجهها الغاضب : ـ قد أكون أكـثر ميلاً للأذية . . . وتذكري هذا عندما تفكرين مرة أخرى باستخدام ذكاءك للهرب جيني ! فصـــاحت : ـ لست أدري عم تتكلــم . ـ أوه . . بلى . تعرفين . . أنا لست غبياً . . . لحظة أن التقيت بمارشال شــاهدت فيه سبيلاً لخلاصك . ـ لن تستطيع منعه من أخــذي معه . فضحك ضحكــة قبيحة : ـ حاولــي . . . حـاولي فقط . ســأخرجك من المــوكـب في ثانيتين . ـ لن تستطيع حجــزي هنا رغماً عن إرادتي ! ـ إرادتك ؟ ابتسم بسخرية قاسية , وامتدت أصابعه إلى حنجرتها , يضغط عليها , وبدأت نبضاتها تتسارع تحت أصــابعه . ـ سنرى كم هي قوية هذه الإرادة . . هل نفعل هذا جيني ؟ ـ لا ! وشدها إليه , وغرز أصابعه في عنقها من خلف لتجبر رأسها على الاقتراب منه , وأطبق عليها بقسوة , وضغط بقسوة عليها فأخذت تتلوى وتدفعه عنها , ولكنها كانت عاجزة أمام قوته . . ومع ذلك فقد فات أوان هذا . . فهناك شــيء ما في داخلها قد حدث . كتلة جليدية عمرها خمس سنوات بدأت فجــأة بالذوبان , ومشاعر طال نكرانها بدأت تنطلق من عقالها وأحس روبرتو بذوبانها , واستجاب عناقه لهذا الذوبان , وارتفعت ذراعاها حول عنقه , واندفعت أصابعها إلى شعــره الكث الأسود . وتصلب جسدهــا كله ليلتصق به . . . وأخذت تتأوه وانفجرت شفتاها , فتمتم روبرتو وهو يمرر يداه على ظهــرها مداعباً : ـ يا إلهـــي ! وقع خطوات فرقتهما , فقفزا معاً إلى الخلف . ونظــر إليهما توماس مارشال بحرج . . . ـ أوه . . كم أن آســف . لست أدري مـا . . . استعاد اتزانه . . . وابتســم : ـ أوه سيد مارشال . . تفضل معنا لتناول القهوة . لا بد أنك جئت طلباً للغــداء . ماريا ستحضره قريباً . ـ شكــراً لك . تأمل توماس بجيني مرتبكاً . فأشــاحت بوجهها عنه وهي تعلم أنه يظنها كــاذبة . وقالت : ـ يجب أن أذهب لأبدل ملابســي . فقال روبرتو بصوت ضاحك , ونبرات صوته توحـــي بأنه يتسلــى : ـ افعلــي هذا يا حبيبتي ! ركضت إلى غرفتها , ووقفت تتأمل نفسها في المرآة , منتقده نفسها , تشاهد بأسى ونفاذ صبر بشرتها المشتعلة بالحرارة وعينيها المحمرتين . . . ماذا يحاول روبرتو أن يفعل بها ؟ لماذا جـاء بها إلى هنا ليخدعها ويوقعها في الفخ , ويجعلها سجينته ؟ لقد اكتشفت أنها لا زالت تذوب تحت وقع عناقه , وقبلاته . ولكن عليها أن تجبر نفسها على تذكر أشياء أخرى , وأن روبرتو يستجيب لكل النساء هكذا , إنها مجرد استجابة جسدية لديه , ولن تتركه يستغلها ليرضي نفسه للحظات . رفعت رأسها الأشقـــر بتصميم . . . ونزلت إلى الطابق الأرضــي , لتواجه نظرات روبرتو المعجب بها , ببرود دفعة إلى الابتســام . ووضع فنجان القهوة من يده واستدار إلى توماس مارشال يقول بفخـــر : ـ زوجتي فنانة . . . وهي موهوبة جــداً . ومرت عينا تومــاس فوقها , وسحبهما بســرعة : ـ أوه . . حقاً ؟ هل هي محترفة أم . . . ؟ فانزعجت جيني للســؤال : ـ أنا محترفة بكل ما في الكلمة من معنى سيد مارشال . وتمتم روبرتو : ـ جيني تحب أن تنظر إلى فنها بجدية . . أليس كــّلك جيني ؟ فالتفتت تواجهه بنظرة باردة متحدية إياه أن يسخر : ـ أجل . . هذا صحيح ! فقال توماس بشكل أخرق . . محاولاً الاسترضــاء : ـ وهل تدربت ؟ أعني هل ذهبت إلى كلية الفنون ؟ ـ أجــل . . ســارعت لإخباره بشوق عن مدى تدريبها , وفي عينيها كل الطموح الذي تشعر به . . وصــاح توماس فجأة , محدقــاً بها : ـ يا إلهي ! هل أنت . . . لقد قلت إن اسمك نيوهام . . . هل لك قرابة بدانييل نيوهام . . . مصمم الأزياء الشهير ؟ ـ إنه والدي . فردد الشاب : ـ إنه . . . إنه فنان رائع . ـ أجل , فوالدي مصمم رائع . وأنا فخورة به . وتدخل روبرتو ليقول ببرود : ـ ولكن زوجتي أفضــل منه . . . فردت نظرها إليه غير مصدقة . ولكنه لم ينظر إليها بل إلى وجه توماس مارشال النحيل , وأكمل : ـ . . . تعال وأنظر بنفسك . وقاده تتبعهما جيني , إلى غرفة جلوس صغيرة تستخدمها إيفا , وأمام ذهولها أشار إلى رسم بالأسود والأبيض , لوجه طفل . . . إنه أندرو . . . الرسم الذي أخذته إيفا منها يوم كانت في شقتها . . لماذا ؟ لماذا يعلق الصورة هنا ؟ أمن أجل ولده أم من أجلها ؟ وأدار روبرتو رأسه إليها . ـ أمــر مثير للاهتمام . . . أليس كذلك ؟ ربما يكون كلامه موجه إلى توماس , ولكنه في الواقع كان يتحدث إليها . . . واستدار توماس مارشال وابتسم لها والإعجاب بادٍ فــي عينيه . ـ زوجك على حق . . . أنت فنانة جيدة . . . وإذا كنت فخورة بأبيك , فلا شك أنه فخــور بك أكثر . أطلت ماريا فجأة من الباب معلنة : ـ الغــداء جـاهز . وأضافت بالإيطالية أنه سيفسد إذا لم يتناولوه على الفور , ثم أضافت بلهجة لاذعة أنه مجنون لخروجه من سريره , فهو ليس قوياً كفاية . فرد عليها روبرتو بفظاظة بالإنكليزية : اخــرسي ! ولكن عيناه كانتا تضحكان لها , متقبلاً أنها قلقة عليه . . . فقالت جيني : ـ أظن أن عليك تناول عشاءك في الفراش . أعتقد أن الممرضة هي من سمح لك بالخروج . ـ سمحت لـــــي ؟ لن تستطيع تلك المــرأة أن تملــــي إرادتهـــا علي . المرأة الوحيدة , التي تستطيع إجباري على الصعود إلى الفراش هي أنت حبيبتي . فاحترق وجههــا خجـلاً . . وغضبت منه , وهــي تدرك أن هناك أكثر من زوج من الآذان تستمع وأن ماريا تبتسم , وأن توماس بدأ وجهه يحمــر . فقالت تستخدم مزاحـــه ضده : ـ إذن ســأقول الكلمة الآن . . اذهب إلى فراشك روبرتو . . ما كان يجب أن تخرج أصلاً . فرفع حاجبيه مبتسماً : ـ لوحدي ؟ فاستدارت غاضبة , محرجة , واتجهت نحو الباب دون كلمة . غير قادرة على التفوه بشــيء قد يحدث انفجاراُ أمام ماريا وتوماس . . . كيف يجرؤ على هذا الكلام . . كيف يجرؤ ؟ مرت ساعة الغداء ببطء . . وأحست بالأسى على توماس . وتعمدت دفعه للكلام عن عمله . فاندفع بلهفة للشرح . . . ولم يحدث خلال هذه الساعة أي تصادم بينها وبين روبرتو . وبدأ الشحوب يظهر جلياً على روبرتو , وهم يقفون بعد الوجبة فقالت له بجدية . ـ يجب عليك أن تذهب إلى الفراش . تبدو مريضاً جداً روبرتو . لا بد أنه كان يشعر فعلاً بالضعف فقد هز كتفيه واعتذر ثم تحــرك نحو السلم , قائلاً بحدة : ـ تعالي معي جيني . أود الاستناد إلى ذراعك وأنا أصعد السلم . وصاحت به بعد أن وصــلا إلى غرفته وانهار فوق سريره : ـ لماذا تركت فراشك بحق الشيطان ؟ فقالت الممرضة ببؤس : ـ لقد قلت له هــذا . واستلقى على الوسادة ويده تفك ربطة عنقه , جفناه نصف مغمضتين , يحدق بها بابتسامة ســاخرة : ـ لم تأتي إلي فجئت إليك . ـ حسناً ستبقى الآن في الفراش لما تبقى من الوقت . فقالت الممرضة : ـ بالطبع يجب أن تبقى . وإذا رفضت نصيحتي سيد باستينو , فلا فائدة من بقائي هنا . كنت مريضاً جداً والراحة ضرورية لك . ـ لا تفتعلي ضجة يا امرأة . تركته جيني بين يدي الممرضة لتحضره للنوم , فســألها : ـ أين أنت ذاهبة ؟ فوقفت عند الباب : ـ أظن أننــي سأنام قليلاً . . . فتلك النزهة صباحاً أتعبتني . فقالت الممرضة : ـ هذا هو التعقل بعينه . فأردف روبرتو سـاخراً : ـ وهل بدأت تضعفين يا جيني ؟ مشوار صغير وأحسست بالإرهــاق ؟ فردت بخشونة : ـ هــذا صحيح . وتسللت من الغرفة لتسمعـه يضحك وهي تقفل الباب . فــي الواقع كانت مرهقة أكثر مما تصورت , فما أن أسدلت الستائر , واستلقت فـي الفراش حتى غطت في نوم عميق . عندما استيقظت كانت الغرفة غارقة في ظلام حالك . لا يوفره سوى الريف حيث لا أضواء صناعية فيه . . ناعسة , تحس بوجههـا الحـار وشعرهـــا المشعث , نهضت من الفراش , وأضــاءت المصباح قرب سريرها , فشعشعت غرفتها بأنوار ناعمــة . نظرت إلى ساعتهــا , وأدركت بـــذهول أنهـا نامــت خمس سـاعات . ولقد فات وقت العشــاء . . . أحست بالجــوع لدى تذكرهـــا الطعام . فسرحت شعرها بسرعة , وتركته منسدلاً حول وجهها , ورشت على بشرتها قليلاً من المـاء , وصبغت شفتيهــــا بقليل من أحمـــر الشفاه الزهــري . توقفت لحظة عند باب غرفة روبرتو , متسائلة ما إذا كــان قد نام أم لا . . وأكملت المسير , لتفاجــأ به يفتح باب غرفته ويقف فــي بيجامته الحريرية السوداء فوقها الروب الأسود . وسألها ممازحاً : ـ استيقظت أخيراً ؟ اعتقدت أنك لن تستيقظــي . ـ كنت تعبة . ـ كنت تبدين كفلة صغيرة متكورة على جانبيها . خفق قلبها كــالرعد وقد عرفت أنه دخل غرفتها . . . وأغضبها هذا , حتى احمرت وجنتاها , ولمعت عيناها الخضراوان وقالت : ـ ابتعد عن غرفي روبرتو ! واختفى عن وجهه تعبير المزاح , وتحولت عينــــاه إلى البرود . . . فأمسك بذراعها وجذبها إلى غرفته فصرخت وهي تقاومه : ـ اتركــني ! فتجاهلها : ـ لقد تركت لك ماريا بعض الطعام هنا . ـ ســـآكل في غرفة الطعام . ـ ستأكلين حيث أقرر أنــا . ـ اللعنة عليك , توقف عن دفعـــي هكذا ! أقفل الباب بقدمه , وتركها مستنداً إلى الباب : ـ اجلســي وتناولــي عشاءك . أعلنت معدتها الإنذار بأنها جائعة , فرفعت الغطاء الأبيض عن الصينية . . رائحة الطعام لا تقاوم , ومع أنه بارد . فجلست وبدأت تأكــل . واستدار روبرتو إلى فجوة في جدار غرفته وأدار الكهرباء على إبريق القهوة . . . وما هي إلا دقائق حتى تصاعدت الرائحة الذكية لتملأ الغرفة . وصب لنفسه ولها فنجانين من القهوة التركية الثقيلة الخالية من السكر . فقالت له : ـ إنها قوية عليك . فرد عليها بتقطيبة . ـ أنا كبير بما يكفي لأقرر ما هو صالح لي وما هو غير صالح . لقد كان دائماً مدمناً على هذا النوع من القهوة الثقيلة . يحتسي كوباً وراء كوب منها . . . فقالت : ـ إنها مضرة لأعــصــابك ! ـ الإحباط هو الســـيء للأعصــاب . ـ لن أصـغي إلى ترهات كهذه . . كيف تجرؤ على الحديث معي بهذه اللهجة , خــاصة بعدما فعلت معــي ؟ ـ وماذا فعلت ؟ ـ تعرف جيداً ما أعنـــي ! وبدا على وجهه براءة الملائكة : ـ أخبرينــي . . . كادت تقذفه بالقهوة الساخنة , وأخذت يداها ترتجفان راغبة في صفع ذلك الوجه البارد وقالت ساخـــرة : ـ لا تتظـــاهر بأنك فقدت الذاكرة ثانية . فضحك : ـ ذاكرتي كــاملة . . وكيف حال ذاكرتك ؟ ـ أوه . . . كل التفاصيل فيها كنور الشمس . . . أتعتقد أنني نسيت مقدار ذرة مما رأيته بعيـني ؟ ورد بخشــونة : ـ لا . . . لا أعتقد أنك نسيت . الاعتراف آلمها بوحشية وكأنه سيف يغرز في قلبها . . . لم يكونا قد تحدثا عن الأمر من قبل . فهي لم تشاهده منذ مغادرتها لغرفة نومها بعد أن شاهدت جيسكا بين ذراعيه , ونظرت إليه بكراهية : ـ وكيف يمكن لك أن تواجه الأمر بكل هذا البرود ؟ أكنت تتوقع أن أتجاهل ما فعلت ؟ لو كنت أنت من دخل وشاهدني بين ذراعي رجل آخـر . . . هل كنت ستقول (( آه . . . أن آسف )) وتعود للخــروج ؟ و نطقت شعلة النار في عينيه قبل أن يتكلم . ـ ألأنني لم أشاهدك مع كراولي , هل تظنين أن هذا أسهــــل عـلي ؟ ـ ولكنــني لم . . . ولم يفته معنى كلامهــا , فسأل بحدة : ـ ألم تفعلــي ؟ كل هذه السنوات وأنت معه طوال الوقت , وتتوقعين أن أصـــدق أنكما بريئان . ـ علاقتي معه ليست من شأنك . . . وعل كل الأحوال أنا ســأتزوجه . أتذكر هذا كما أرجو ؟ نحن مخطوبان . ارتدت شفتاه عن أسنانه مكشراً تكشيرة الغضب : ـ أوه . . بل أذكر . . . فهذا ما كان يشغل بالي وأنا أقود السيارة . ـ عندما حصل الحادث ؟ ـ أجل عندما حصل الحادث ؟ فقالت له ساخرة : ـ لسوء الحظ أنك لمــرة واحدة لم يكــــن تركيـزك الـــرائع يعمــــل . علــمــت أنها تـمــــادت , وهـــي تلاحظ الشرر يتطاير من عينيـه . . وقفت بسرعة ولكن متــأخـــرة , فقد قبض عليهــــا روبرتو بعنف , وعندما أطبق بفمه عليهـــا أحست بأنهـــا كانت تنتظر منه هذا مـنذ دخلت غرفته , لقد تجاوزت مرحـلة الادعـــاء . . . أرادت أن تحـس بجسده القاسي يجبرها على الالتصاق به . حتى إنها لم تقاومه وهو يفعل , وتعانقا بجوع , والحرارة تكـاد تشعل جسديهما . وأدركت كم تتلهف لأن تكون له ثانية . وسمعته يهمس في أذنها : ـ قولــي لــي . . الحقيقة . . . هل أنت وكروالي . . ؟ هـــل كنتمــــا . . . ؟ السؤال شتت مزاجها وكأنها تلقت صفعة . . وعــاد إليها وعيها , فكرهت نفسها على الجنون الذي استولى على جسدها وجعلها تنسى ما فعله روبرتو بها , وما سيفعل بكل سهولة مستقبلاً . فشهقت , لتقاوم لتحرر نفسها : ـ اتركنـــــي . . . ! ـ أجيبي أولاً ! فنظرت بمرارة إلى عينيه وصــاحت : ـ أجل . . . أجــل ! وضربها , وكــادت الصفعة تطيح برأسها عن رقبتها , فحدقت به مصدومة وفي أُذنيها طنين حــاد . ـ أيها الخنزير ! فضربها ثانية , وقفزت الدموع من عينيها , وأخذت ترتجف , وذعرت فجأة , فقد ظهرت في عينيه غيرة متوحشة , وأصبح غريباً تماماً عنها . . . بربري بدائي , عدواني قد يفعل أي شيء . وقفت تنظر إليه بذعر , وكأنها حيوان خائف . كان ينظر إليها وهو يتنفس بقوة وكأنه يفكر بما سيفعل تالياً , أو كأنه يكافح كي يستعيد السيطرة على أعصابه . إنه يحاول السيطرة على مشاعره التي تجعل دمه يغلي . . ثم قال بأنفاس متقطعة : ـ لم أكن أنوي أن أراك ثانية . ـ وأنا تمنيت من الله أن لا أراك . فتنهد بخشونة . . ثم قال بعد صمت : ـ صحيح . . لقد آلمنا بعضنا بعمق حتى أننا لن نستطيع أن نغفر لبعضنــا . وغلى دمها لكــلامه : ـ آلمنا بعضنا ؟ ماذا فعلت أنا لك ؟ لقد ارتكبت الخيانة الزوجية , ولست أن من ارتكبها روبرتو ! ـ لقد اعترفت لتوك أنك هربت من منزلي إلى ذراعي كراولي . ـ لقد ذهبت إلى منزل والدي . . و غرانت لم يكن هناك . ـ ولكنك رأيته تلك الليلة ؟ ـ لا ! ـ لا تكذبي علي . أعرف أنك فعلت هذا جيني . كنت فــي فراشه تلك الليلة . وصــاحت بغضب : ـ لا ! ـ أيتها الكاذبة العينة ! لقد اعترف هو بهــذا . واجتاحتها موجــات من الصدمة : ـ عم تتحدث ؟ متى قال لك غرانت . . . ؟ ودفعها عنه ثم ســار إلى الطرف الآخر من الغرفة : ـ لقد جئت إلى منزل أبيك في اليوم التالي . حينما أخبرني ! وأحست ببرودة الثلج . . . وتذكرت العراك الذي سمعته , وصوت غرانت الغاضب المرتفع , ولهجة روبرتو الخشنة المتسائلة , لقد كذب عليه غرانت . . ولكن لماذا ؟ أم إن عليها أن تكون شاكرة لهذه الكذبة ؟ إنها تدرك الآن أن غرانت كان يحاول إنقاذ كبريائها , ويرد الصاع صاعين لـ روبرتو , بعد معرفته بأنها وجدت جيسكا في فراشها وتنهدت . . . تنهيدتها دفعت روبرتو للتحديق بها , ثم قال : ـ كــان يجب أن أسـتــدعــي كراولي للــشهــــادة في محكـمة طلاقنا . . . ولكن هذا كان سيعطي الصحف مادة فضائح إضافية للنشــر . ـ لقد كان لديهم مـا يكفــي لنشره عندما تزوجت جيسكا , خــاصة أنها كانت على وشك أن تلد لك ابناً . التوى فمه وعاد إليها متوتراً : ـ لم يقــل لــي كراولي متى . . . فهل ذهبت إليه مباشــرة بعد أن شــاهدتني . . . عرفت بالطبع ما يعني , وسمعت لهجته المكبوتة فقالت ببرود : ـ لست أنوي مناقشــة الأمر معك . فــأمسكها بكتفيها وهزهـــا : ـ أوه . . بحق الله ! الأمــر مهم لــي , ألا تفهمين , يجب أن أعــرف ؟ فنظرت إليه ببرود وازدراء . ـ غرورك بنفسك بحاجة ليعرف أنــني ذهبت إلى غرانت لأنــني وجدتك غير مخلص لــي . . أليس كذلك ؟ ـ أيتهــا العاهر ! وردت وهي تكافح لتظهـــر البرود : ـ على الأقل . . لم أحمــل بطفل لأثبت لك هذا . فهمس بألم : ـ أوه . . يا إلهي . . يا إلهـــي . . أكاد أقتلك ! ورفعت حاجبيها ببرود وتعالٍ : ـ تكاد تقتلني ؟ لطالما نظــرت إلى كل شــيء من زاويتك أنت . . ولكنني لم أكن لأتصور أنك أعمى لدرجة أن تلومني أنا على فعلتك . ودفعته في صدره وقالت ببرود وأدب : ـ هل لــي أن أنصرف الآن ؟ أرجوك ؟ فهذا النقاش يضجرني . فابتسم , وكانت الابتسامة سلاحاً بحد ذاتها . فقد أغضبتها وأرسلت قشعريرة رعب فــي أوصالها , لتذكر على الفور أنها تحت رحمته , ولا يوجد من تطلب العون منه . وقال بنعومة , نعومة زائدة : ـ لا . . حبيبتي . . لم أنته منك بعد . فهمست بصوت خافت مذعور , وقد تخلت عن كل كبريائها : ـ لو لمستني فـســأكرهك أكثر . ضحك , وبدت الرغبة واضحة في نظراته . لم ينظـر إليها من قبل هكذا . . صحيح أنه كان ينظر إليها دائماً برغبة , ولكن ممزوجة بالحب . . أما الآن , فلم يكن هناك شـيء دافئ أو ناعم في تعبير وجهه . . لم تشاهد مثل هذا التعبير على وجه رجل من قبل . ولكنها أصبحت تعرفه الآن . . . إنها الشهوة . إنها كلمة قبيحة لشعور أقبح . ولكن هذا ما شاهدته في وجهه . . في عينيه بريق شيطاني , غير إنساني , وفتحتا أنفه ابيضتا . فهمست : ـ لا تفعل هذا ! أرجـوك ! وراقبت يداه تتحركان ببطء , ولم تكن تتمكن من الحراك , فقلبها كان يضج في حنجرتها , وتسمرت في مكانها . وسمعته يقول : ـ كان أمامك خمس سنوات لتتعلمي فيها كيف تسعدين الرجل . أريد أن أعرف كم علمك كراولي في هذا المجال . وأفلتت من الرعب الذي جمدها . . وصاحت به . ـ أفضــل أن أموت . ـ بإمكانك الموت بعد أن أنتهــي منك . وأجبرها على الاستلقاء فوق السرير , ودفع ذراعيها فوق رأسها حتى أصبحت عاجزة , مثبتة بفعل جسده . وأخذ يراقبها وهي هكذا وكأنه يتمتع بإذلالها مـراقباً محاولات خلاصهــا . وواجهت عقم مقاومتها فصاحت به من بين أسنانها : ـ أوه . . . كم أكرهك ! ـ عظيم . . هذا يجعل الأمــر ألذ بالنسبة لـي . وأطلق أحد ذراعيها , وأمسك بالبلوزة الحريرية , وتعالى صوت تمزيق الحرير الرفيع وقالت بطفولية : ـ لقد أفسدت فستاني . فضحك وهمس : ـ ســـأشتري لك آخر . . . يا حبيبتي . وقاومت المشاعر التي بدأت تظهر كما قاومت تماماً يديه , حتى لم تعد تستطيع الادعاء بأن هذا لا يحصل لها , أو إنها تحلم كمــا كانت تحلم من قبل . وأخذ يتنفــس بصعوبة , وغطست جيني داخل أمواج الـرغبة التي تدفقت من بحر ذكرياتها . . ومنذ اللحظة توقفت عن المقاومة غير المتساوية . واعترفت لنفسها أنها لم تعد تهتم حتى . فقد ذابت بنعومة بين يديه , مع علمها الوثيق أنها تركب موجة قد تدمرها . ولكنها كذلك تعرف , أنها عــادت بعد خمس سنوات إلى روبرتو روحاً وجســداً .
***
الفصل السابع
-------------------------------------
7 ـ لحظة اعتراف
-------------------------------------
استفاقت في اليوم التالي منهكة , رأسها يؤلمها , ووجهها شاحب . نظرت إلى الساعة الذهبية الدقيقة التي وضعتها على طاولة قرب سريرها , فوجدت أن الساعة قد أصبحت العاشرة , وعلى مضض نهضت واغتسلت , وارتدت فستاناً من الحرير الأبيض الرائع التفصيل . ومشطت شعرها , ولفته حول رأسها وثبتته بأصابع مرتجفة . عندما نزلت إلى أسفل , نظرت إليها ماريا وسألتها بصــوت عميق : ـ قهوة وكرواسان ؟ ـ شكراً لك . عندما أحضرت لها طعام الفطور , جلست إلى الطاولة وصبت لنفسها فنجان قهوة دون سكر عل قوتها وسخونتها تعيد إليها شيئاً من قوتها . ولم تستطيع لمس طعامها . فقالت ماريا : ـ روبرتو لم يأكل شيئاً كذلك ! احمر وجه جيني . وارتعش جفناها . . وأكملت ماريا : ـ إنه في فراشه . . لقد تعب البارحة . انفجرت جيني بضحك هيستيري , لم تستطع السيطرة عليه , وعلمت أن ماريا تحدق بها بفضول . . واستجمعت ما استطاعت من قوة لتسيطر على نفسها . . . وأحنت رأسها على فنجان القهوة . ودخل توماس مارشال بعد دقائق وحياها بأدب : ـ صباح الخير سيدة باستينو . ـ صباح الخير . وقال لها بلهجة غريبة : ـ أنا مسافر اليوم . وأحــســت أن روبرتو قد دبـر أمر رحيله . ـ حسناً . . سعيدة بلقائك . أتمنى لك رحلة موفقة . ونظــر إليها : ـ البحر هادئ تماماً اليوم . ـ وهل سيأتي صديقك أم ستستقل قارب صيد ؟ ـ لقد اتصل زوجك بصديقـــي . ـ أتمنى أن تكون قد أنجزت دراستك . وأتمنى لك التوفيق فيها . ـ شكــراً لك سيدتي . واستدارت عنه لتخرج من المنزل . . . سارت فوق صخور الشاطئ , تراقب لمعان البحر الفضي تحت شمس الشتاء الباهتة الأمواج كانت هادئة ساكنة . بينما كان الأفق متشحاً بالزرقة الموشحة بالغمام الأبيض هنا وهناك . عندما عادت إلى المنزل , وجلست تتناول الغداء لوحدها قالت ماريا : ـ لقد ذهب ! علمت أنها تقصــد توماس , وتذوقت قطعة من لحم الحمل الذي طبخته ماريا بالأعشاب البرية وابتسمت لها : ـ أنت طباخة ماهرة . وبدا السرور على ماريا . ـ على الأقل أنت تأكلين الآن . ـ وهل أكـــل روبرتو ؟ فأجــابت ماريا بابتسامة : ـ أجل قد أكــل . لقد نام طوال الصباح . لقد كان متعباً . . يا للمسكين . ـ أراهن أنه كـــان تعباً . أحست بالغضب لما قالته بعد أن انفجرت ماريا بالضحك وخرجت . وبطريقة ما جعلها هذا أكثر غضباً . . وبدر في ذهنها أن روبرتو ما أجبرها على هذا إلا ليرضي غروره . إن له قوانينه التي تنطبق على الرجال وليس على النساء . ولا يشعر بأي خجل لأنه نام مع جيسكا , بينما يسمح لنفسه بأن يغار ويغضب لأنه يظن أنها عاشرت غرانت . وأحست بنفسها تتلوى من الداخل , كما تتلوى الأفعى . لقد خانتها مشاعرها وتجاوبت معه . . . وأحست بهذا الآن . شعرت وكأنها تستحم بطوفان جليدي كلما تذكرت ما حصل . هل من الممكن أن تحب وتكــره , تحتقر وترغب في آن واحد ؟ أغمضت عينيها , وتناهى لها عن بُعد هدير الأمواج وكأنها تقهقه بسخرية . . يا إلهي كم تكره نفسها ! لقد كانت سهلة المنال أمامه . . كانت تتظاهر بأنها تقاوم . . ولكنها بعد دقائق استسلمت . ونزل روبرتو للعشاء , لم تكن تتوقع رؤيته , وأحست بالألم يعتصر قلبها لرؤيته . فارتجفت وشحب وجهها . . . ولم تستطع أن تتكلم بل رفـعـت رأسها أمامه متحدية . . وابتسامة صغيرة ملتوية تطفو على شفتيها . ـ لا شـــيء تقولينه . هذا تغيير ملحوظ ! وتكلمت عـنـدهـا . . الكلمات تنطلق بغضب : ـ وماذا تتوقع أن أقول ؟ أنت تعرف تماماً ما أشعــر به نحوك . فمنظرك لوحده يثير الغثيان ! وضاقت عيناه : ـ ولكن هذا لم يكن الانطباع الذي لاحظته ليلة أمــس . ـ قد تكون هذه أخبار جديدة عليك . . . ولكن للـنساء رغبة كذلك . حتى مع الرجال الذين يكرهونهم . ـ يجب أن أخنقك لهذا الكلام ! ـ لماذا ؟ ألا تحب سماع الحقيقة ؟ أما كانت التجربة لكلينا إذن ؟ كنت ترغب بي , وأنا كذلك . وتراجع , وأحست بتراجعه من طريقة فرضه لقناع هادئ فوق وجهه الغاضب . بعد دقائق بدت أبدية قال : ـ أوه . . صحيح حبيبتي . . لقد رغبت بك . ـ لا تناديني بهذا ! وكانت لهجتها مقرفة . . فكرر وهو يعلم أنه يؤلمها : ـ حبيبتي ! فهمست بنفس لهجته : ـ أكرهك ! ـ كيف تشعرين وأنت تحترقين رغبة مع من تكرهينه ؟ أحست به يقف إلى جانبها , وتكهرب جو الغرفة كله , أسندت رأسها على ظهر الصوفا تحاول تهدئة نفسها , وقالت عبر أسنانها : ـ لقد مر علي الوقت كالجحيم . . ولكنه انتهى أخيراً . فضحك ســاخراً , وبدت أسنانه من بين شفتيه : ـ كالجحيم . . وهل تظنين نفسك ستتمكنين من الخلاص من الجـحـيـم ؟ قولي هذا بعد شهر وقد أصدقك . أحست بالشتات والضياع فصاحت : ـ شهر . . لا . . لا يمكنك هذا ! لأجل الله روبرتو ! ـ أتظنين أنني سـأتركك تذهبين بعد ليلة أمس ؟ ـ ألم تكفك . . ؟ ستدمرني هكذا . . دعني أذهب ! ـ لــن يريدك كراولي بعد الآن . . مرة أو مئات المرات مــا الفرق ؟ حقيقة أنني حصلت عليك ستبقى شوكة في حلقه . فــاحمر وجهها غضباً : ـ أهذا هو الـسـبـب ؟ وانحنى فوقها ليرفع رأسها بأصابعه : ـ تعرفين تماماً أنه لا ! ـ أنت لا تطاق . . أرجوك دعني أذهب . . لا أستطيع تحمل هذا ! ـ لقد جئت إلى هنا بمحض إرادتك . ـ لقد أوقعت بــــي . ـ يا عزيزتي , الفخ كان واضحاً , وكنت تعرفينه . وسرت إلى داخله بإرادتك . . لم أجبرك على المجــيء . . كيف يمكن أن أفعل هــذا ؟ ـ لقد صدقت أنك فاقد الذاكــرة , وأنك مريض . ـ اكــذبي على نفسك , وليس علي . لقد جئت لنفس الغرض الذي أردتك أن تأتــي من أجله . لم ينته الأمـر بيننا جيني . . . ولن ينتهي . إنه ما زال يلتهمك من الداخل . . أليس كذلك ؟ عندما كانا يتناولان القهوة بعد العشاء الذي أعلنت عنه مارا , أخذت تفكر بالمستقبل . ووضعت فنجانها من يدها ووقفت . . . فأمسك بها : ـ أين تظنين نفســك ذاهبة ؟ ـ إلى الفراش . . . فأنا متعبة . فتركها وقال بخشونة : ـ تصبحين على خير إذن . لم تــســـتطـع التصديق , وسارعت للابتعــاد . وفي غرفتهـــا وقفت تصغـي لعله يتبعهـــا . ولكنهــــا لم تسمع ســــوى الصمت , وخلعت ملابسهــا ودخلت السرير . . . وبصمت استلقت وكأنها تتوقع شيئاً , فهي تعلم أنه لو جاء , فسيـأخذ ما يريد , فليس لديها قــوة الإرادة أو الطاقة لمقاومته . عندما استيقظت صباحاً كانت الشمس تملأ الغرفة , وعندما خرجت من غرفتها كانت الممرضة تقف في الممر خارج غرفة روبرتو . . . فنظرت إليها قائلة : ـ ألن تزوري زوجك اليوم . . . لقد استفقدك بالأمــس . حسدتها جيني على سذاجتها في رؤية الأشياء دون فهمها وقالت بأدب : ـ بالطبع ســأراه . . بعد تناول الفطور . أثناء تناولها للقهوة , قالت لها ماريا فجأة : ـ ستجهدين نفسك في مقاومته . روبرتو لم يقر بالهزيمة في حياته كلها . وردت بأدب ولكن بحزم وغضب : ـ لن أناقش أمــر زواجي معك ماريا . وازداد غضبها عندما ضحكت ماريا . ـ لقد كان هكذا منذ صغره . عنيد , متملك , وأي شــيء يمتلكه يصبح من المحرمات . ـ ولكنه لا يمتلكني ! ـ صحيح ؟ فوقفت جيني لتقلب الكرســي بعنف إلى الوراء : ـ لا ماريا ! فأنا أملك نفســـي ! ولكن هل هذا صحيح ؟ سألت نفسها وهي تصعد لرؤيته . . كيف تدعــي ملكيتها لنفسها وهو قادر على امتلاكها متى شاء ؟ وهو يعرف هذا تماماً كما تعرفه هي ! كانت الممرضة ترتب الأدوية فوق الرف قرب السرير , فابتسمت لجيني مرحبة : ـ أرأيت سيد باستينو , قلت لك إنها قــادمة ! وقفت جيني عند النافذة وقالت : ـ وأنا هنا , يمكنك رؤية ابنك . . ألم تحن إليه ؟ ـ بلى . . شاهدته في المستشفى . أخبرتني أمــي بهذا . . ما رأيك بــه ؟ ـ إنه يشبهــك . فضحــك . ـ وهـل هذا إطراء أم إهانة للصبــــي المسكين ؟ ـ لا شيء . . إنه تقرير لواقع محدد . ـ وهل تكرهينه لأنه ابن جيسكا ؟ فشهقت للسؤال . . ثم قالت بخــشونة : ـ لا يمكن أن أكره طفلاً لأي سبب كان . ـ ولكنك تفضلين أن تتذكري وجوده ؟ ـ وهل ستحب رؤيتي مع طفل غرانت ؟ فــرد بحــدة : ـ لا ! نظرت إليه متفحصة . . هل هي الرغبة فقط التي تحس بها أم إن خلفها شيء آخر ؟ وهل سيحس بالمرارة إذا عرف أن ما بينهما لا يحتوي الحب بل الرغبة فقط ؟ وسمعته يقول وكأنه يكلم نفسه : ـ أندرو سعيد على ما هو عليه . وســارت نحو الباب فسألها كالعادة : ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟ فردت بحدة : ـ إلى أي مكان غير هنا . فأنا أجد صحبتك لا تحتمل ! وأغلقت الباب كي لا تسمع ما سيقول , وهربت إلى الخارج , إلى الهواء النقي البارد . . عندما تعود إلى منزلها ستحبس نفسها لتعمل وتنسى كل شــيء . . . ومع ذلك فسيكون كل عملها مصبوغ بمرارة هذا الشهر الذي ستقضيه هنا . لم ينزل روبرتو للعشاء . فتناولت الطعام لوحدها , وحافظت ماريا على جو ودود معها وهي تخدمها . تلك الليلة لم تستطع النوم إطلاقاً . استلقت صاحية تماماً في فراشها تصغي إلى همهمة البحر البعيدة . . تتأمل برغبتها التي تركتها بيضاء شاحبة ومنهكة القوى في الصباح . وتفحص روبرتو وجهها ملياً عند الفطور , وعلمت أنه قرأ العلامات بالأبيض والأسود على وجهها . وخرج معها في نزهة قصيرة في الحديقة , يقف من وقت إلى وقت ليحدق بالبحر . الهواء بارد وفي السماء غمام خفيف تختبئ الشمس خلفه . وقت العشاء , لامست يده يدها وهو يناولها قطعة خبز , وأحست بقشعريرة . ولم تستطع كبح ارتجافها . . . وتمتم : ـ الأمر يزداد صعوبة . . . إنه هكذا دائماً . ـ عمَ تتحدث ؟ ـ عن الإدمان . . مهما قاومت بقوة , إذا كان يجري في دمك فستحتاجين جيني إليه . . وكلما ازدادت مقــاومتك له كلما زاد جوعك إليه . ـ لن أدع هذا يحدث مرة أخــرى . وتركته لتذهب إلى غرفتها . مضت ساعات على الصمت المطبق الذي يغلف المنزل . ولكنها تعلم أن روبرتو صاحٍ , فذبذبات مشاعره كانت تصلها من غرفته عبر الجدران , لتبقيها صاحية , تحارب نفسها وتحارب نــداءه . عندما فتحت باب غرفته كان ضوء المصباح الأصفــر يكوّن دائرة صفراء حيث يستلقي . . رأسه الأسود فوق الوسادة , وعيناه تضيقان فوقها وهي تدخــل . وببطء ارتفع رأسه , وضــاقت عيناه فيها , لتبدي إعجابها بثوب النوم الحريري بلون القهوة الذي ترتديه , والروب المماثل بأطرافه الحريرية المطرزة القاتمة . حــرك يده , ليعم الظـــلام الغرفة . . . وتقدمت نــحـوه في الظلام . . وأطبقت يداه عليها بقسوة وكأنه يعاقبها على تأخرها في مقاومته , فحبها له ورغبتها فيه لم يموتا بعد , وهذا ما عليها أن تعترف به . . . لقد فقدت كل كرامتها , ولم تعد تهتم لــشــيء وهي تهتف له : أحبك . . أحبك ! وعادت إلى غرفتها في الضوء الشاحب للصباح , كــارهة أن تتركه نائماً , وتبتعد عن دفء ذراعيه . وأخلدت للنوم فقط بعد أن أفرغت رأسها وقلبها من الدموع . دهشت عندما شاهـدته وقد نزل إلى غرفــة الطعام لتناول الفطور . . ونظرت ماريا إليه بابتسامة دافئة راضية , وقالت : ـ هكذا يجب أن تبدو ! أنا أشاهد روبرتو الذي أعرفه ! نظرة واحدة أفهمت جيني ما تعنيه ماريا . فقد ذهب اللون الشاحب عن وجهه , وعيناه عادتا إلى الحياة , مليئتان بالصحة , جسده يتحرك برشاقته القديمة , مزاجه كله مزاج رجل استعاد قوته . تركتهما ماريا , وجلس روبرتو على كرسيه عند الطاولة . . . نظر إليها وتنهد : ـ هــل ستبقين مكتئبة طوال النهار . . ألم نتخلص من الأرواح الشريرة ليلة أمـــس ؟ ـ صحيح ؟ لم تنظـر إليه . . هل يظن أن بإمكانه طرد ذكـــرى جيسكا بمجرد أن تقضي ساعتين معه ؟ وقال لها : ـ لا بد أن ما ذرفته من دموع كان له معانٍ ؟ فاستدارت إليه غــاضبة : ـ ألا تعلم ماذا تعني ؟ إنها تعني أنــني كنت خجلة من نفســي . عاد وجهه إلى القساوة وضاقت عيناه : ـ أتخجلين من الاعتراف بأنك تحبينني ؟ أصــابها كلامه بلكمة في معدتها , فأجفلت من الصدمــــة , وراقبتها عيناه فتأوهت وغطت وجهها بيديها : ـ أوه يا إلهـــي ! كم أنت وغــد ! ـ ألهذا السبب لم تستطيعي أن تتزوجي بكراولي ؟ وصب لنفسه القهوة وأخذ يحتسيها , وكأنما ردها لا أهمية له . وردت بمرارة : ـ زواج واحـــد كان يكفيني . ـ ومع ذلك كنت تنوين الزواج به . فهزت كتفيها : ـ نحن ملائمان لبعضنا . . فلمَ لا ؟ وكشف عن أسنانه بابتسامة قاسية : ـ كراولي لن يناسبك مطلقاً . . إنه ناعم جــداً . كان كلامه أقرب إلى الحقيقة حتى إنها أحســت بالغضب : ـ لا تسخر من غرانت ! أنت من بين كل البشر ! ليس هذا من حقك . إنه يــســاوي عشرة منك ! ـ ومع ذلك أنت تحبينني أنـا . وردت بعنف : ـ لا ! فقال ببرود : ـ أوه . . . بلى . . . أنت تحبينني , ولكن الاعتراف يــؤلمك جداً . بيد أنـي انتزعت ذلك الاعتراف منك . وأصبحت عيناها واسعتان وحشيتان كعيني قطة برية متوحشة وأردفت : ـ ولكنني لا أريد أن أحبك . فابتسم وقال : ـ أعلم . . . لقد أوضحت لي هذا . . . فأنا خنزير لا أطــاق , وأنت تكرهين رؤيتي . هل تعتبرين عدم قدرتك على الابتعاد عن فراشي إطــراء لـي ؟ وطارت إليه مكورة الأصابع لتخبش وجهه , ولكنه أمسك بها وأنزلها إلى ركبتيه , فقاومته بعنف , وصلبت جسدها فوق ذراعيه . ثم أخذ جسمها الغبي الخائن , يخونها من جديد , والتفت ذراعاها حول عنقه , تلامس شعره , مؤخرة عنقه , وأخذت تتأوه لعناقه . وأخيراً توقف , ونظر إلى وجهها الأحمر الملتهب بحرارة . ـ كيف تمكنت من الســماح له بلمسك , وأنت تحبينني هكذا ؟ كيف ؟ أخبريني الآن . . هل ذهبت إليه بعد أن شاهدت جيسكا معــي ؟ فهزت رأسها نفياً وبضعف , فــأجفل , وســأل همساً : ـ وقبلها ؟ ـ لــم يلمســني يوماً . وغُرزت أصابعه في كتفيها : ـ مــاذا ؟ ـ أو . . . لقد كنت غاضبة لدرجة الاستعداد لرمــي نفسي بين ذراعي أي رجــل لمجرد الانتقــام . . . ولكنني لم أفعل ! فحدق بها : ـ ولكن كراولي قال . . . ـ لقد كذب . . . كلانا كذبنا . . . إنه لم يكن يوماً . . ـ اللعنة عليه ! الكــاذب اللعين ! وعلا وجهه بياض بارد كالموت بدد كل أثر للحياة فيه ما عدا حركة عينيه السوداوين فقالت بقلق : ـ روبرتو . فدفعها عنه , ووقف , ثم أخــذ يذرع الغرفة مكفهـر الوجه متصلب الجسد . ووقفت جيني حيث هي . . . ترتجف , تفكيرها مشوش تماماً . . ماذا قالت له كــي يغضب هكذا ؟ لقد توقعت منه أن يبتهج , لا أن يغضب بمرارة . هل هو غاضب لأن غرانت كذب عليه ؟ لا بد أن يفهم أن غرانت كان يحميها منه ؟ لقد انزعجت في البداية عندما علمت ما قاله له . ولكنها بعد ذلك فهمت أنه فعل هذا لمصلحتها , لإنقاذ كرامتها . فلماذا يغضب روبرتو هكــذا ؟
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الثامن
-------------------------------------
8 ـ لن أدخـــل سجنك
-------------------------------------
لم تشاهد جيني روبرتو لما تبقى من ذلك النهار , ولا زارته , فقد جرح مشاعرها بقوله إنها ستزحف إليه . جلست في غرفتها تتسلى بمراجعة رسومها , لتكتشف أن خلفية كل تصاميمها كانت مناظر تأثرت بها هنا , مرت من عينها إلى يدها دون أن يتأثر عقلها بها , فقد وجدت في مناظر الجزيرة عاملاً محــركاً لاتجــاه آخر في الرسـم . . . وهي تعلم أنها قادرة على رسمها , بل أرادت أن ترسمها , فأصابعها كانت تتوق للرسم . كان عقلها الباطن يسجل مناظر أحست بوجوب نقلها إلى لوحة . اليوم الثاني كان براقاً وصافياً , والشمس قوية , والبحر متألق هادئ بالرغم من وجود بضع موجات بيضاء تبدو في الأفق البعيد وهي تقترب من الساحل , وطيور البحر قريبة من الأرض , وهذا دائماً يعني أن طقساً سيئاً يختبئ خلف هذه المناظر . عندما نزلت إلى الطابق الأرضي , كان روبرتو هناك , يقرأ الصحف . قهوة بردت في الفنجان , وقطعة كرواسان تحمل قضمة منه . تنفست عميقاً ثم تقدمت نحوه , فرفع نظــره إليها , وسأل : ـ أنمت جيداً ؟ ـ نعم شكــراً لك . . وأنت ؟ ولامست إبريق القهوة لتجده فاتراً , فرن الجرس : ـ ستأتيك ماريا بغيره . وعرفت ماريا ما هو المطلوب , فأحضرت معها إبريق قهوة طازجة ونظرت إلى روبرتو ويديها على خصرها : ـ هل قلت لهــا ؟ ـ اهتمــي بشؤونك ! فشخرت ماريا وضـاقت عيناها بالغضب : ـ أليس هذا من شأني ؟ إذا ازدادت حالتك سوءاً فمن سيعتني بك ؟ ونظرت إليه جيني بفضول : ـ عم تتحدثان ؟ ـ لا تأبهي لها . فقالت ماريا : ـ الممرضة . فرفع رأسه ونظر إليها بغضب : ـ عودي إلى المطبخ . فتابعت : ـ سيطردها . وزعق روبرتو : ـ أخرجي من هنا ! وأصبح فجأة كالثور الهائج , تخنت رقبته بعضلات الغضب , وانتفخت أوداجه , واحمرت عيناه . فخرجت ماريا رافعة رأسها , ثم قالت وهي تغلق الباب : ـ إذا ذهبت , فستندم . وما إن أقفل الباب حتى احتجت جيني : ـ لا يمكنك طردها , روبرتو , كن متعقلاً ! تناول جريدته من جديد , وهزها , ثم بدأ القراءة . فقالت جيني بتعقل : ـ السبب الوحيد الذي جعلهم يسمحون لك بالمجيء إلى هنا هو اصطحابك لممرضة . فلم تبعدها ؟ وما الفارق لو بقيت ؟ ـ إنها مزعجة ! ـ ولماذا ؟ ألأنها تجعلك ترتاح . أوه روبرتو . لا تكن أحمقاً ! ـ لأنها طالما هي هنا , لن تبقــي معي أنت طوال الليل . ارتجفت بشــدة لهــذا . . . ولم تستطع إجابته , فأخفض الصحيفة , وفي عينه تجهم وسخرية : ـ هل ستفعلين ؟ فاحمر وجهها وأشاحت بنظرها عنه : ـ هذا ليس بعذر . . . ـ إنه عذر كاف لي . أريد أن أراك معــي عندما أستيقظ . وأحست بالنار تسري في جسدها . ففي كلامه حنان ورقة , وإحساس مختلف عن الرغبة المتوحشة التي كان يظهرها لها , كان فيه شــيء من حلاوة المزاح الذي كان بينهما قديماً . . . وسألته : ـ ومتى ستذهب ؟ ـ اليوم . ـ بالقارب ؟ فنظــر إليها بقلق : ـ بالطائرة . . . ولكن إياك والتخطيط لتسلل فيها حبيبتي . . . فأنت ستبقين هنا . . . أريدك معي طوال الوقت إلى أن تقلع الطائرة . وأتأكد أنك لم تحتالي للدخول إليها . وسـألته مقطبة : ـ ولكن إذا لم تكن قد تعافيت تماماً فكيف لي أن أعرف ؟ لا يعجبني هذا روبرتو . . أرجوك . على الأقل دعها هنا عدة أيام . ـ لا . . . إنها تتدخل في حياتي كثيراً , وعلى كل لن نحتاجها , فأمــي قادمة . ـ إيفا ! . . متى ؟ ـ اليوم . . أيسعدك هذا ؟ ـ أنت تعرف أنني أحب أمك . فابتسم وأصبحت عيناه لطيفتان تذكرانها بعيني أمه المليئتان بالدفء. ـ أجل أعرف أنك تحبينها . وهذا ما كان يسعدني دوماً . وهي تحبك , أكثر مما تحب آنا على ما أظن . فأختي وأمي لم تتفقا يوماً . فآنا تحب أن ترمي بثقلها أينما كان . . و أمي أرق من أن تحتمل هــذا . فقطبت جيني : ـ آنا لم تحبني يوماً . ـ لا . ـ كانت تكرهني لأنني . ـ لأنك زوجتي . أعرف هذا . كانت دائماً تغار مني ونحن صغار . كانت تتمنى لو تكون صبياً , الابن الوحيد للعائلة . فيها تعطش كبير للسلطة والتملك , وزوجها المسكين مضطر للتحمل . ولكنني لا أنوي مطلقاً السماح لها بالتدخل في حياتي . وتنهدت مرتجفة : ـ والدك كان يكرهــني أيضــــاً . صمت للحظــات , ثم قال : ـ أجل . . . كان يكرهك , وأنا آســف يا حبيبتي , ماذا أستطيع أن أقول ؟ لم يكن يثق بك لأنك غريبة . ـ كان يفضــل جيسكا . فرد ببرود : (( أجل )) . ـ وفي النهاية فعلت أنت مثله . فســارع يلف خصرها بذراعه , ويقول متأثراً : ـ لا . . فقالت مرتابة : ـ وماذا تعني بلا ؟ مــا هو السبب إذن ؟ فصمت , وبدت الحيرة والارتباك في تعابير وجهه . . . وتردد مع أنه يرغب في الكلام . . . والتوى فمه . . فهمست : ـ لا تتلاعب روبرتو . وتخلصت منه بشــراســة وركضــت خارج الغرفة , أحضــرت سترتها وخرجت من الفيلا لتسير فوق الصخور عند الشاطئ . واستدارت مرة نحو الفيلا لتجد صورته من وراء الزجاج . . كان ينظر إليها , يقرأ غضبها من تحركات جسدها , وأحست بتزايد غضبها لشدة شفافيتها . لم يعتذر , لم يــشــرح , حتى ولا أبدى نــدمــه عن أي شيء . لقد استردها , وهــي رمت بكل كبريائها أدراج الرياح عندما همست له أنها تحبه . . ولا بد أنه راضٍ عن نفسه الآن . لقد انتصر . . ولكن ألا ينتصر دومــاً ؟ أول غلطة ارتكبتها كانت ذهابها إلى المستشفى . . كان يجب أن تقول لإيفا إنها آسفــة ولن تستطيع الذهاب .. . ففي ذهابها إليه , اعترفت بضعفها نحوه , ولقد تمسك بهذا الضعف . وعرف كيف يستغل الموقف , وتركها توقع بنفسها بعد أن أعد فخه . ولو أنها حقاً كانت تكرهه لما ذهبت إليه , لما خلعت خاتم غرانت لتستعيد خاتمه . لما قبلته , لمـا سمحت له بمناداتها حبيبتي . . . أجل هي من سهلت الأمور له . . . وهذا اعتراف مرير . كان عليها العودة إلى الفيلا أخيراً . . فأين لها أن تذهب ؟ والتقاها روبرتو عند الباب , يتفرس وجهها ويقرأ بسهولة كل ما دار فــي رأسها من أفكــار , وقال لها : ـ تبدين كــالأموات . فرفعت رأسها الأشقــر بمرارة , وعيناها قاسيتان شديدتا التألق : ـ شكــراً لك . أحـست بنفسها كالجيش المهزوم , المتقهقر دون أمل , يواجه المنتصر القاهر . . يكره نفسه وهو من غير دفاع . ـ أنت بحاجة إلى شراب ساخن يعيد لك قواك . ـ هذا تصريح مقصود لإظهــار ضعفي . وابتسمت . . دخلا إلى غرفة الجلوس حيث كانت ماريا قد حضرت إبريق شاي ساخن . . تناولت فنجاناً , شعرت بالدفء بعده وعاد اللون إلى وجهها , ولكنها استمرت في شعورها بعار الهزيمة . ولاحظ روبرتو هذا متجهماً . بعد الغداء , جلسا معاً يستمعان إلى الموسيقى . . . وأحست جيني بنعاس غريب , فتكورت إلى جانبه كالقطة . رأسها مشدود إلى صدره بيده . . . ولطالما كان هذا ملاذاً لا يخيب بالنسبة لها . عندما استيقظت , لم تجد روبرتو قربها فقد وقع رأسها بكل لطف فوق الوسائد , والغرفة معتمة بنور بعد الظهر المتأخر . وفجأة سمعت صوت الطائرة من بعيد , فنهضت بسرعة , ومن النافذة أخذت تراقب الطائرة تدور في دوائر فوق الجزيرة قبل أن ترتفع وتختفي في السماء الزرقاء . إذن لقد رحلت الممرضة , وستكون إيفا هنا بعد لحظات . وخرجت إلى الردهة , وفتح الباب الخارجي وتناهى إليها صوت روبرتو يتحدث الإيطالية بسرعة , وفي نفس اللحظة دخلت إيفا . صغيرة , مرتبة , قلقة العينين , ولرؤيتها جيني ابتسمت فوراً , ومدت ذراعيها : ـ يا عزيزتي ! هل اندهشت لرؤيتي ؟ أنا المندهشة لوجودي هنا . ولكن روبرتو اتخذ هذا القرار السريع . . . كانت رحلة متعبة . . مررنا بعاصفة كهربائية فوق المحيط . وأخذنا نعلو ونهبط ككرة مضرب . ولكن أندرو تمتع بكل لحظة من الرحلة , لقد ظن أنهم يفعلون هذا لأجله . . . اختفى صوتها عندما شحب وجه جيني , وضغطت بيدها على قلبها وكأنها تتألم . . ثم همست : ـ ألم تكوني على علم . أوه . . . جيني ! دخــل روبرتو من الباب , والصبي على كتفه , يضحكـان . عينا الصبي كعينا أبيه , ويداه تداعبان شعره . ونظــرت جيني إلى وجه روبرتو بوحشية : ـ لعنة الله عليك ! ثم استدارت وركضت تصعد السلم , وأقفلت باب غرفتها . وجاء إليها فيما بعد ليقرع الباب , ولكنها لم ترد . كانت مستلقية في فراشهــــا ترتجف . يدها فوق فمها والغرفة ظلاماً . وصـــــاح بها آمـــراً بحــدة : ـ افتحــــي الباب ! في مكان ما من المنزل سمعت ضحكة الصبي , بابتهاج على طريقة الأطفال . وكأنما أحد يزكزكه , وعضت جيني أصابعها محدقة في الظلمة . . . وسمعت روبرتو يطلق تهديداً فارغاً : ـ هل أكسـر الباب ؟ أنت تتصرفين كالأطفال وحق الله ! فردت بصــوت عميق أجـش : ـ اذهب من هنا . ومرت لحظـات صمت , وكأنما رنة صوتها أذهلته , ثم تكلم بلهجة مختلفة , لطيفة , متملقة : ـ كان يجب علي إخبارك . . . أعلم . كانت صدمة لك . وأعلم هذا أيضاً ولكنني كنت أخشى أنك لو عرفت لحاولت الهرب في الطــائرة . وردت عليه بنفس اللهجة : ـ كذاب ! ما كنت لتسمح لـي بالاقتراب منها . وصدر صوته من بين شقي الباب , وبصوت ناعم : ـ افتحي الباب . . . من السخف أن نتحدث معاً عبر باب موصد . أتريدين أن يسمعنا من في المنزل ؟ ـ لست أهتم . . . فليسمعوا . . . ولماذا آبه للأمر ؟ ـ سيزعج هذا أمــي . ـ أمك ؟ إنها تعرف حقيقة شعوري تجاه الصبي . هل قلت لها إنني أصبحت الآن عشيقتك لا زوجتك, أم لا لزوم لأن تعرف ؟ هذا ما كنت تريده منذ البداية يا روبرتو . . أليس كذلك ؟ أنا لم أكن يوماً بمستوى أن أكون من آل باستينو . . . ولكنت أغويتني أصــلاً دون زواج مني لو استطعت . . . ولكن لدي أب يهتم بما يحصل لي . وكان يحميني أكثر مما كنت تتصور فلم تجرؤ على نيل ما تريده دون زواج . وكان يناسبك أكثر لو أن لا أب لــي . كانت تصيح , صوتها شخن , مليء بالألم والغضب . . فتمتم بصوت منخفض بالكاد سمعته : ـ لا تقولي هذا . ـ لا أقول الحقيقة ؟ لماذا جئت بي إلى هنا إذن ؟ هل أحسست بحاجتك إلي ثانية ؟ صحيح روبرتو ؟ وهذه المرة لست مضطراً لسخافة الزواج . . ما عليك سوى أن تمد يدك وتأخذني . . . وتوقفت كلماتها الغاضبة , الشرسة , المريرة , وسط اختناقها بالدموع . ودفنت وجهها بين يديها . وضــرب بقبضتيه على الباب فاهتز : ـ افتحــي الباب ! ولم ترفع رأسها . . . بل همست بخشونة : ـ إذهب إلى الجحيم ! ســاد الصمت , وعرفت أنه ابتعد . وبقيت مستلقية كما هي والعتمة تزداد كثافة . وتوقفت ضحكات الصبي . . وتساءلت ماذا يفعل روبرتو الآن . وعلمت أنها تتصرف بغباء , ولكنها لم تكن تستطيع منع نفسها . . . ما كان يجب أن يأتي بالصبي إلى هنا . لم يكن غضبها بسبب أن الصبي هو ابن جيسكا بقدر ما كــان يغضبها أكثر شدة شبهه بأبيه . ووجوده الآن هنا يجعل ما يجري بينها وبين روبرتو مخزٍ . إنها علاقة ليس لها مكان في حياته أندرو هو ابنه . . . باستينو . . . وهي مجرد عشيقة لروبرتو . إحدى نسائه يستغلها مثلهن . . ومع الوقت ما من شك أنه سيصرفها كما كان يصرفهن . وسينظر إليها اندرو ليوازيها بالأخريات اللواتي مررن في حياة أبيه . وهذا ما تجده لا يحتمل . وسمعت صوت روبرتو فجأة يصرخ : ـ بعد نصف دقيقة ســأطلق النار على هذا القفل اللعين . فجلست مجفلة في فراشها . . لا يمكن أن يعني ما يقول . . . ولكنه يعني بالطبع . فلديه مجموعة جميلة من الأسلحة في مكتبته , ويعرف كيف يستخدمها جميعاً . إنه رامٍ من الطراز الأول . منتحبة . . تقدمت لتفتح الباب , فدخـل كالعاصفة والمسدس في يده , وفي عينيه الخطر , وقال متمتماً : ـ أيتها الحمقــاء الحقيرة ! رمى المسدس إلى الطاولة , وأمســك بوجههــا بيد وأضـاء النور بالأخرى . فأحست بالدوار يغشى بصرها . . . وشاهد روبرتو الدموع على وجهها وآثار الألم . وقالت هامسة : ـ ما كان يجب أن تأتــي به إلى هنا . ـ وهل أسألك السمــاح له بالمجــيء ؟ وكيف يمكن أن يكون ردك ؟ كنت ستصرين على الرحيل . أليس كذلك ؟ اعترفي ؟ ـ كمــا سأصــر الآن ! وأسمك بكتفيها : ـ لن أتركك تذهبين أبداً . أنت لـــي . ـ لقد قلت هذا لوالدي . . وتطلقنا . . ولم تقترب مني لخمس سنوات . ـ لأنني كنت أعتقد أنك تنامين مع كراولي . وصدقته . . فعمق الغيرة في صوته كان مقنعاً . وأكمل : ـ كنت أريد قتله . . وقتلك , ولكنك اختفيت , ثم قيل لي إنك تطلبين الطلاق مني رسمياً . . ولو كنت وجدتك لسببت لك إصابة . عندها كنت سأتركك . ـ ألا زلت تعتقد أن علاقتك بجيسكا غير مهمة ؟ كل ما عندك هو الاتهام , لا تدافع عن نفسك أبداً . . ترفض أن ترى أي خطـأ فيما فعلته . . . أليس كذلك روبرتو ؟ كل ما يهمك من الأمر أن أحد ممتلكاتك قد شرد منك ؟ إحدى يديه , تسللت إلى شعرها , وأخذت تلف خصــلات منه حول أصابعه . . . وقال : ـ ولكنه لم يشرد مني ثانية . . . لقد استعدتك , وســأحتفظ بك . ـ وهل تظن حقاً أنــني سأرضى بأن أكون في منزلة العشيقة في نظر ابن جيسكا ؟ تأوه طويلاً : ـ آه . . هذا هو الأمــر إذن . ـ لن أقبل بهذا مطلقاً . ورد ببرود : ـ ولنفترض أننا متزوجان ؟ فمــا الفارق ؟ وشهقت بأنفاسها , وصمتت للحظات , ثم ردت بخشونة : ـ لم تذكــر الزواج من قبل . فالتوت شفتاه : ـ لم يبدُ لـــي مهماً . ـ أتصور هذا . فكــل ما كان في بالك أن تحصل علي . أليس كــذلك ؟ وانحنى نحوهــا مبتسماً . ـ لا شـــيء غيره . . . ولأسابيع بعد استردادي لذاكرتي . يا حبيبتي ! ـ خنزير ! ـ وما كان رأيك بما حدث ؟ صدقاً الآن ؟ ـ كنت أود لـو أرميك في الزيت المغلــي . ولكنها كانت تكذب وكلاهما يعرفان هذا . ـ فكري الآن . . لو تزوجنا, فهل ستقبلين بأندرو كابن لــي ؟ ـ أجل . . سأقبل به . . ولكنني لن أتزوجك روبرتو , في مطلق الأحوال . فأنا لا أثق بك . فهناك الكثير من النساء في حياتك ولن أمر ثانية في تجربة رؤية امرأة أخرى في فراشــي يوماً من الأيام . ـ لن يحصـــل هذا . ـ تقول هذا الآن , ولكنك سرعان ما تغير رأيك . صدقتك فيما مضى . . . وكنت صغيرة وحمقاء . . ولطـالمــا حذرني والدي و غرانت . . . فاحمرت عيناه : ـ لا تذكري اسم كراوي أمامي . . . وإلا لن أكون مسؤولاً عما سيحصــل ! ـ أنت لم تحب غرانت يومــاً ! فضحك ضحكة غاضبة وقال : ـ أكــره رؤيته ويكره رؤيتي . وكلانا يعرف لماذا . وردت بهدوء . ـ لطالما كان طيباً معــي . ـ بالطبع . . فهو رجل صبور . يعرف ما يريد , ومستعد للانتظار على أمل الحصول عليه . ـ أظنك تســـيء الحكم عليه . ـ لا . . . بل أنت من أســأت الحكم عليه . . . ولكنك لن تتزوجيه . . . وستتركيني أعيد له خاتمة بنفسي , لأضعه في حلقه . ـ لا تتكلم هكذا ! أنت لا تنصف غرانت ! مهما كان شعورك نحوه فهو من ألطف الرجال الذين عرفتهم . ـ ولكنه أساء إلينا كثيراً . . ولا ندين له بشيء . . صدقيني . أحــســت بالحرارة تؤلم خديها : ـ ولكنه فعل هذا لأجلي . . . كان يحاول إنقاذ ماء وجهي . . إنقاذ كبريائي . . وأظنه كان يحاول إيهامك بأنـني لا أهتم بما فعلت . ـ وهل تؤمنين بهذا حقاً ؟ لقد فعل هذا لأجل نفسه ! لقد شاهد أمامه فرصة وتمسك بها , فرصة تفريقنا والفوز بك لنفسه . ـ كنا سنفترق على كل الأحوال بعد الذي رأيته ! فهز رأســه ببرود وقال : ـ لا جيني . . . فما رأيته لم يفرقنا . . بل كراولي هو الذي فعـــل. وأحست باليأس . . إلا يمكن له أن يرى الحقيقة ؟ ألا يمكن له أن يفهم ؟ أكان أعمى لهذه الدرجة تجاه خيانته لها ؟ أيمكن أن يعتقد حقاً بأنها كانت ستتجاهل خيانته ؟ ـ نحن نتكلم بلغتين مختلفتين . . . لن أستطيع تقبل أن للرجل الحق في الخيانة الزوجية . . ربما فتاة من بلادك قد تهز كتفيها دون اكتراث لشيء كهذا . ولكنني أنا لن أستطيع . ويجب أن تفهم هذا . أنا لا أتحدث عن الأخلاقيات أو القوانين . . . أنا أتحدث عن الحــب . وتسللت يده بنعومة من ذراعيها إلى عنقها : ـ الحــب . فجذبــت نفسها منه : ـ لا تفعل هذا ! . . . بإمكانك إجباري على التجاوب . . . ولا أستطيع الإنكـار . . ولكنني لا أتكلم على التجاوب الجسدي . أنا أتكلـــم على الثقة , والصدق , ولا أستطيع أن أثق بك في كليهمـــا , روبرتو . أتظن أنني أريد زواجاً أكون خلاله محتارة دوماً , أتسـاءل في أي فراش أنت ؟ أي نوع من الحياة هذه ؟ سـأجن في وقت قصير وهو كتفيه : ـ حسناً . . . أصلحــي وجهك . مشطــــي شعرك . وانزلي إلى الطابق الأرضي قبل أن تظن إيفا ولويس أنني أقتلك . ـ لويس ؟ وماذا يفعل هنا ؟ لماذا جاء بحق الشيطان ؟ لا تقل لي كذلك إن أختك آنا هنا ؟ وكذلك جوليان . . هل جاءت كل عائلتك اللعينة ؟ ماذا جرى ؟ هل هو تجمع قبيلة بني باستينو ؟ فتحرك نحو الباب , ونظر إليها من فوق كتفه : ـ لقد طلبت من لويس أن يأتــي . ولسبب ما , أحست بلسعة قاسية لم تفهم سببها . ـ لم تكــن حكيماً في قرارك هذا , روبرتو . فهو سيتساءل بفضول . . . فلطالما كان معجباً بي . فنظر إليها بحدة : ـ إنه يعبث مع كل أنثى يلتقي بها يا عزيزتي . . . فلقد ولد وهو منتهز للفــرص . ـ ألم تندهش لســـماعك أنه غازلني ؟ فابتسم : ـ ســأدهش أكثر لو سمعت أنه لم يفعل . أنت جميلة , ولم يفتني أبداً إعجــابه بك . وغضبت جيني للهجته , وقالت : ـ ولكنك كنت واثقاً جــداً مني . . . أليس كذلك روبرتو ؟ فابتسم ابتسامة غريبة وقال : ـ أنا أثق بك عزيزتي . وترك الغرفة . . . تاركاً إياها ترتجف من جــراء رده .
-------------------------------------
* * * الفصل التاسع
-------------------------------------
9 ـ كذبة واحــدة تكفي
-------------------------------------
أخذت جيني وقتها لتستعد , وهي تشعر بالحرج لما حدث في الساعة التي مرت , لهذا لم تكن متلهفة لمواجهة إيفا ولويس . أمضت نصف ساعة قبل أن تترك غرفتها . . . وسارت ببطء تنزل درجات السلم ووقفت في الردهة تصغي إلى الهمهمة الخافتة المنبعثة من الصالون . . . وكان سهلاً عليها أن تميز صوت لويس العميق البطيء . وكانت إيفا تضحك بنعومة , وتقول (( كم هــذا سخيف )) عندما فتحت جيني الباب لتقف متحدية الجميع , رأسها مرتفع بكبرياء , وعيناها تبرقان . قالت إيفا بهدوء وكأن شيئاً لم يكن : ـ ها أنت يا عزيزتي ! تعالي واجلســي قربي . نظرت جيني حولها , فلم تجد أندرو . وفهمت إيفا تلك النظرة . . . فقالت بصوت هادئ : ـ أندرو نائم . ـ آه . . فهمت . وقطعت الغرفة شاعرة بوقع نظرات روبرتو عليها , تتجول من صدرهـــا المرتفع تحت الفستان الحريري حتى ساقيهـــا الطويلتين الناعمتيـن تحته . وجلست تضــع ساقاً فوق ساق . . . والتفتت إلى لويس , الذي كان يركز بنظرة إعجاب عليها كذلك . . . فابتسمت له جيني بإغراء : ـ مرحباً لويس . . . ما الذي دفعك لترك النوادي الليلية في نيويورك ؟ فرد مبتسماً : ـ روبرتو . . ومن غيره ؟ ـ ومن غيره ! وسألها لويس وهو يقف : ـ ماذا ستشربين ؟ ـ شراب الكرز مع الصودا . فصب الكأس لها بينما راحت عيناه تتجولان على جسدها وهو يقدمه لها وقال لها بصوت كمواء القط : ـ لقد أصبحت أجمل من آخر مرة رأيتك فيها . فنظرت إليه متفحصة , ورموشها ترتعش متعمدة , فهي تعلم أن روبرتو ينظر إليهما . ـ شكراً لك لويس . فسألتها إيفا بسرعة , والقلق في صوتها : ـ هل كنت ترسمين وأنت هنا ؟ فاستدارت جيني إليها مبتسمة : ـ لقد رسمت بعض الرسوم . . ولكنني وجدت نفسي أرغب في رسم لوحة لهذه المناظر . عندما أعود إلى منزلــي سأرســم لوحة كبيرة تمثل منظر الأرض هنا ولدي عشرات الأفكار الأخرى . ونظر لويس إلى ابن عمه , وســألها : ـ وهل ستعودين قريباً ؟ قال روبرتو دون تردد , وهي يتكــئ إلى ظهر كرسيه والكأس في يده : ـ لا ! ولم تنظر إليه جيني , بل تجاهلته وردت إلى لويس : ـ بأسرع وقت ممكن . يجب أن أعود إلى عملــي . . . فلقد ضيعت الوقت الكثير هنا . فعلق لويس : ـ أنت تكتسبين شهرة في عالم الأزياء . . ولا بد أن هذا يكسبك المال الآن . . لقد قرأت مقالة عنك في مجلة أميركية . فقالت مبتسمة بخبث : ـ أجل . . فقد أراني غرانت المقال . فابتسم لويس ابتسامة غريبة . . وطافت عيناه فيها بطريقة لم تعجبها , ثم تمتم بنعومة : ـ آه . . خطيبك ! أيعلم بأنك هنا . . على فكــرة ؟ أحست جيني بالحرارة في كل جســدها , ولكنهـــا أجـابــت بصراحة : ـ أجل . . . يعرف . ونظرت إلى لويس متحدية , تتحداه أن يقول كلمة أخــرى حول الأمــر . ولكنه قال : ـ لديه أفكار متحررة , لو كنت لــي , أظن أنــني ســأكون أكثر تملكــاً . فصــاح روبرتو من بين أسنانه : ـ هذا يكــفي ! فكشر لويس بابتسامة له : ـ هيا . . روبرتو . . لم تعد زوجتك , وهــي حرة في اختيار من تريد . برضى كراولي أم بغير رضاه . وصمت روبرتو لكن وجهه بقي متجهماً وعيناه تلمعان من شدة الغضب . ثم قال للويس بحدة : ـ أتريدني أن أقتلك ؟ واختفت البسمة عن وجه لويس : ـ ألم تكتف منها بعد ؟ لقد حصلت عليها لمدة أسبوع . وأظن هذا سبب مجيئك بي إلى هنا . . . كي آخذها منك , ولن تكون المرة الأولى التي ترمي فيها إحدى نسائك علي للتخلص منها . أليس كذلك . أحست جيني بالإذلال يحرق وجهها . . . وقفزت على قدميها , فأمسك روبرتو بمعصمها , ليعيدها إلى كرسيها وكأنها طفلة : ـ ابقي هنا . وأطلقت في وجهه غضبها الحارق : ـ وأستمع إليه ؟ ماذا تحاول أن تفعل معي روبرتو ؟ أهذا هو سبب وجوده هنا ؟ هل ستسلمني إليه كلعبة تعبت منها ؟ وقال لويس , والبريق في عينيه جعلها تحس بالغثيان : ـ لعبة جميلة جداً . قد لا تجدين هذا التبادل سيئاً جيني . وقد أفاجئك . وأخذ يتفحصها , والاحمرار يتصاعد من عنقها ليشعل وجهها . ووقف روبرتو باسترخاء . ولكن لم يكن في وجهه أي شيء يدل على الاسترخاء . تراجع لويس فجأة وقد امتلأ وجهه بالرعب . . وأطبقت يدا روبرتو على عنقه . . . وقام لويس دون جدوى , يلعن ويسعل , يداه لا تستطيعان زحزحة قبضة روبرتو عن عنقه , ثم طار فجأة ليقع فوق الكرســي , وأخذ يشهق محاولاً التنفس , وجهه شديد الاحمرار . . . وهو مستلقٍ في مكانه يتلمس عنقه بخوف . حدق روبرتو به متجهماً ثم تمتم : ـ أنت محظوظ لتركي إياك تتنفس . وما تركتك تتمادى معها إلا لكــي تعرف أي نوع من الخنازير أنت . والتفت إليها : ـ لقد تركته يظن أن بإمكانه معاملتك كما اتفق , كــي تعرفي حقيقته , وأنا آســف لأنه آلمك , جيني . لم يكن سهلاً علي الاستماع إلى قذارته . صدقيني . ومالت إيفا إلى الأمام ولمست ذراع جيني بكل لطف : ـ أريد أن أخبرك قصـة . فتمتمت جيني : ـ لا أود سمــاع شــيء . . . فقال روبرتو : ـ يجب أن تسمعي . لقد جئت بهما إلى هنا كي تستمعي . فلو أخبرتك أنا , لما صدقتني . . . استمعي لأمـي جيني . فردت بغضب : ـ لقد ثبت لــي أنها قد تكـذب إذا أردت أنت منها هذا . ـ ولكنها لـن تكذب هذه المرة . ـ وكيف أعرف ؟ لن أصدق كلمة تقولها بعد الآن . فحدق بها ثم التفت إلى لويس وقال لها : ـ راقبي وجهه وهي تتحدث . . . وستصدقين . ونظرت إلى لويس لتشاهد الصدمة في وجهه , وكان ينظر إلى ابن عمه , قسماته خائفة , مضطربة , يعلو وجنتيه الاحمرار . وجلست جيني ببطء . . . نظرت نحو إيفا : ـ حسناً ؟ فقالت إيفا : ـ لست بحاجة لأقول لك , إن زوجي وقبل أن يلتقي بك روبرتو بزمن طويل كان يحاول إجباره على الزواج من جيسكا . . . لقد كان لا يستسيغ فكرة أن لا يتزوج ولده من إيطالية . ولم يكن يحب فكرة استقلالية ابنه عنه . ولطالما أراد فرض إرادته على روبرتو , ولكن لروبرتو إرادة من فولاذ . فهو أصلب من أبيه , ولا ينحني أبداً أمام أي كان . ولطالما تشاجرا بمرارة . . . وكان أنطونيو لا يخفي الأمر عن أحد , وجيسكا كانت تعلم بأنه اختارها زوجة لروبرتو . . . ولسوء الحظ كانت تواقة بشكل غريب للحصول على ما تريد . وتكلم لويس , وعنقه يؤلمه من قبضة ابن عمه : ـ لقد كانت ال***** الصغيرة مفتونة به . فسأله روبرتو بصوت غريب : ـ وهذا ما أزعجك . . . أليس كذلك ؟ ـ لقد كنت أشعر بالسقم عندما أشاهدها تتودد إليك , وكأنك نوع من الآلهة , وأنت لا تأبه لها . . كان عليك أن تكون شهماً أكثر . ـ كمــا كنت أنت ؟ ! ـ لقد تركتك تدوس عليها , ظنت بأنك ستتزوجها في النهاية حتى وهي تعلم بأنك تكرهها وعندما تزوجت جيني . . . شعرت بالإحباط , وبدت كالحمقاء . وكنت قد حذرتها فلم تستمع إلي . فتمتم روبرتو بنعومة : ـ ولكنك كنت مستعداً لمواساتها ؟ فاحمر وجه لويس بعمق . ولم يرد , بل حدق بابن عمه الذي تابع قائلاً : ـ لقـــد لاحقتهـــا دون هـــوادة . وأمطرتهـــا بالغزل الذي وجدته فـــي النهاية لا يقاوم . . . كم استغرق ذلك لويس ؟ ستة أشهر ؟ تسعة ؟ لم تكن سهلة المنال , أليس كذلك ؟ كان عليك أن تعمل جاهداً لتحقق أهدافك . فشخــر لويس , وقد تصاعد غضبه : ـ لا تزُه بنفسك ! لقد كانت ناضجة للقطاف بــعد أن أذللتهــا بالزواج من أخرى . وهكذا وقعت في يدي كالتين الناضج . وحدقت به جيني وذهنها يعمل بسرعة . . إذن كان لجيسكا علاقة غرامية بلويس ؟ ولم يدهشها هذا . ولكنها لم تدر ما علاقة هذا بما حصل فيما بعد وقال روبرتو بلهجة بارة كالجليد . ـ أهكذا ستقص الأمــر على زوجتك ؟ فشهق لويس بحدة وارتباك , وتلاشى كل لون من وجهه وحدق بروبرتو بعينين مشدوهتين : ـ لا يمكنك ! لا يمكنك إخبارها ! سيقتلها هذا ! ـ كــان عليك أن تفكر بهذا قبل الآن . ونظر لويس إلى إيفا , متوسلاً : ـ إيفا . . . أنت تعرفين ما قد يفعل هذا بها ! لا يمكنك تركــه يخبرها . لن تتحمل الصدمة ! وبرز الحزن والمرارة على وجه إيفا : ـ المسكينة ! إنها تستحق أفضل من وغد مثلك . ـ لأجل الله ! . . أنا رجل طبيعي , وهذا كل شــيء . أتظنين أنه من السهل العيش مع امرأة أحبها ولا أستطيع لمسها ؟ أعلم إنني كنت أعرف هذا الواقع منذ البداية . ولكنني أحببتها كثيراً , وأرادتها زوجة لـي , مع إنني أعرف أن حالة قلبها تهدد بموتها في أيه لحظة . . وكانت تعرف أن لــي علاقات , وتتجاهلها . . ولكن جيسكا ؟ . . . لن تسامحني على هذا . . . سيقتلها الخبر . خلال خمس سنوات , كانت جيني قد نسيت كل هذا , ولكنها تذكرت الآن وارتعدت . كانت قد قابلت زوجته مرة واحدة . كانت تمضي أوقاتها كلها في الفراش لمرض مزمن في قلبها . وتذكرت جيني كذلك أن جيسكا كانت . . . شقيقتها . كانت إيفا تنظر الآن إلى لويس بكل احتقار , وهزت كتفيها : ـ كنت تعرف تماماً ما تفعله . . لقد أغويت شقيقة زوجتك عن قصد ولا تحاول الإنكار . . . فلقد كنت تعرف أنها الخيانة التي لا يمكن أن تغفرها لك . ونظر إليها كالحيوان العالق في الفخ , وشفتاه مكشرتان عن أسنانه . . . وصاح : ـ الكلام سهل عليك . لن تتمكني من معرفة حقيقة الأمــر بالنسبة لي . ـ صحيح ؟ ولكن زوجتك كانت تعرف , وتعرف إنك ضعيف الإرادة على حيــاة التقشف . . . ولم تتزوجك بسهولــة لويس , لقد ناقشت العائلة الأمـر لفترة طويلة معهــا قبل أن تعطيك الرد . وكانت تعـــرف تماماً أنك تريد الزواج منهــا لأجل حصتهـا من مال العائلة . وصــاح بألم ظاهر في صوته : ـ لا ! إنها لا تعرف هذا . . . لا يمكن ! ـ لقد فكرت بكل شيء , وكانت كل القرائن ضدك , ولكنها كانت تحبك فقررت المخاطرة ومواجهة الألم الذي كانت تعلم إنك ستسببه لها , كما تحملت بكل شجاعة الألم والخوف من حالتها لسنوات . وفجأة أحنى لويس وجهه بين يديه . وســاد الصــمــت في الغرفة . . أشعل روبرتو سيكاراً , وأسند رأسه على الكرسي يدخن . ونظره مثبت على رأس ابن عمى المنحني . وراقبته إيفا كذلك , وكأنهما نسيا وجود جيني . بعد دقائق , استوى لويس في جلسته , ووجهه شاحب وقال : ـ أنا أحب زوجتي . . ولهذا كنت أريد . . . بل كان يجب أن أحصــل . . . على جيسكا , لأنها تشبهها . ولم تبدو الدهشة على إيفا لهذا الاعتراف . بل هــزت رأسهــا وقالت : ـ كانت جيسكا تعرف هذا . . لقد آلمتها . ولم تحاول إخفــاء سبب رغبتك بها عنها . . أنت تقول إن روبرتو هو من جرح كرامتها . . . ولكنه على الأقل لم يستخدمها كبديلة في الفراش عن زوجته . . . شقيقتها . فوقف عند النافذة : ـ لماذا تفعلان هذا ؟ لمــاذا تعيدان الذكرى بعد خمس سنوات ؟ لماذا الانتظار خمس سنوات لتهديدي الآن بالكشف عن الأمر ؟ نظر روبرتو إلى طرف سيكاره المشتعل . . . وقال : ـ أندرو . فاستدار لويس بحدة وهو مقطب : ـ ما شأنه ؟ ونظــر روبرتو إلى جيني بسرعة , ثم إلى إيفا بصمت , فســارع لويس يسأل بقلق : ـ حسنــاً ؟ فقالت إيفا ببرود : ـ اجلــس يا لويس . ـ أوه . . . لأجل الله ! فصــاح به روبرتو : ـ اجلس ! فجلس ينتظر والغضب يملأ وجهه , فقالت إيفا : ـ إنه ابنك . فــحدق بها لويس بشراسة , ثم إلى روبرتو بعينين ضيقتين : ـ أوه . . لا . . أنتما تكذبان ! . أتظنان أنـني لم اسألها عن هذا ؟ يا إلهــي . . . عندما أفكــر . . . وأدار وجهه الوسيم نحو جيني , وعلت وجهه تكشيرة : ـ آه . . . لقد فهمت . . . أنت تحاول تبرئة نفسك أمامها . أليس كــذلـك ؟ فقالت جيني بخشونة : ـ لن أستمع إلى أي شيء من هذا بعد الآن . . . إيفا أقدر لك ما تحاولين فعله , ولكن , لأجل السماء , لا تكذبي حول ذلك الصبي الصغير المسكين . لا أريده أن يتألم إيفا . . . أي نوع من الوحوش تظنينني ؟ فقالت إيفا بهدوء : ـ لدي الدليل . وبدا أن لويس على وشك الاختناق . وســأل بيأس : ـ أي دليل ؟ فردت ببرود : ـ اعتراف جيسكا وسأريك إياه بعد لحظــات . فأنا لم أخبر جيني بقصتي بعد فالزم الهدوء لويس , لأكمــل القصة . والتفتت إلى جيني . ـ ليلة تشاجرت مع روبرتو , وخرجــت إلى منزل أبيك . . . حصل شجار حاد آخر بين روبرتو وأبيه . . . وأصيب بألم حاد في رأسه حتى إنه اضطر إلى ابتلاع أكثر من حبة منوم . ووجدته في مكتبه بعد منتصف الليل , فاستدعيت خادمان ليحملانه إلى فراشه . ولم نستطع إيقاظه وكانت جيسكا في المنزل بالطبع . وخرجت من غرفتها بملابس النوم لتعلق بشكــل لاذع على حالته , والشجار بينكما . . . وكنت حادة معها . . . فعادت إلى غرفتها غاضبة . وقاطعها روبرتو بصوت عميق : ـ نمت كالميت طوال الليل . وعندما استيقظت وجدتها في فراشــي . فضحك لويس بخشونة : ـ هنا تبدأ القصة الخرافية يا جيني . ونظــر إليه روبرتو بغضب : ـ اقفل فمك أو أقفله لك ! وعــاد إلى جيني : ـ كان رأســي يضج كالطبول . . وأحـسـســت بالغثيان . . وآخــر شيء كنت أرغب فيه هو النســاء . وخــاصة جيسكا . . يا إلهـي جيني . . . كان بإمكاني الحصول عليها في أي وقت وبإشارة من إصبعــي . وشــاهد إجفالها فضحك : ـ أعلم أن هذا كلام قاس . ولكن هذه هي الحقيقة . لقد عرضت جيسكا نفسها علي على طبق من فضة عشرات المرات . ولكنني لم أكن أهتم بها . . . وقلت لها يومها أن تخرج من غرفتي . . . فضحكت . ثم قالت بأنك عدت ووجدتها في فراشي . . كانت قدرت أنك قادمة من الخارج , فســارعت إلى غرفتنا واندست في الفراش معــي . . . يا إلهي ! تلك ال***** ! كان يجب أن تري وجهها وهي تخبرني بالأمر ! فنهضت من الفراش لأرتدي ملابسي وأسرع للبحث عنك . ولم أتوقع أن يقابلني كراولي بتلك الكذبة . كان محظوظاً أنني لم أقتله , ولكنه تمكن مع والدك من طردي خارج المنزل . أكملت إيفا القصة بعد أن توقف : ـ عاد إلي يومها بحالة مريعة , وصدمت بما أخبرني به . . ولكنني أصريت على رؤيتك بنفسي . . كنت أعلم أنك ستخبريني الحقيقة . . وطلبت من روبرتو أن يتركك وشأنك إلى أن أراك . وتعرفين ما حدث بعد ذلك اختفيت , ورفض والدك تمرير أي رسالة لك . وقلت لوالدك الحقيقة حول ما حدث بين روبرتو و جيسكا . . ولكنه لم يصغ إلــي . وذهلت جيني : ـ أخبرت والدي ؟ لم يقــل لــي كلمة عن الأمــر . فرد روبرتو : ـ لأنه لم يحــبي قط . . . كلانا كــان له أب خــلق المشاكـــل بيننا بوجهات نظره ولأكن صريحاً , فإن والدك كان يتوق لمنع زواجك مني . وأكملت إيفا بنعومة : ـ للإنصاف . . لم يصدق والدك قصتي . قال إنها قصــة لا يمكن أن تصدق . وربما لم يخبرك لهذا السبب . وقال روبرتو : ـ كتبت لك . ولم تقرأي رسائلي , أليس كذلك ؟ لــم يكن سهلاً علي تصديق أنك أحببت كراولي . . . ولكنني كنت آمـل أن يكون ذلك للانتقام فقط . مجرد دواء ليشفي جراح كرامتك . وحاولت الوصول إليك فرفضت , ولم أستطع أن أجد مكانك حتى تطلقنا . ثم رأيت كراولي وقال لي بأنكما ستتزوجان . ـ غرانت قال لك هذا ؟ ـ قال إنك مغرمة به , وصدقته . . وتركته وأنا أتمنى لو أستطيع أن أخنقك بيدي . ـ ولكنك تزوجت جيسكا . ـ آه . . أجل . . . جيسكا . . لقد بدا عليها حتى ذلك الوقت بوضوح عوارض الحمل . وعندما أصـــر والدي على معرفة والد الطفل , قالت بأنه لــي . فصــاح لويس : ـ لقد كان ابنك . . . إنه يكذب جيني . . . إنه أبوه . . صدقاً . . لقد نام معها تلك الليلة . فصرخت إيفا بحدة : ـ لا ! بالطبع أصــرت جيسكا على هذا . وأنت أصريت على وجوب زواج روبرتو منها حال أن يصبح حراً . وقال روبرتو : ـ أما أنا فلقد كنت في مــزاج لم يسمح لـي بالاهتمــام بشـــيء . . . ولكنــني كنت أكره جيسكا لما فعلته لنا . وقلت لها هذا . فهـددت أن تقول الحقيقة لأختهــا عنهــــا وعن لويس إذا لم أتزوجها . عندهـــا فهمت من هـــو والـــد الطفل وعندما أظهرت لها معرفتي , اعترفت بكــل برود . . طبعاً ليس أمام والدي . فشخــر لويس : ـ كم هذا مقنع . فرد عليه روبرتو : ـ ماعدا أنني كنت احتطت للأمر . ـ وأي احتياط ؟ ـ سجلت لها كل كلمة قالتها . وســاد الصمت , وأحس لويس بالاختناق , ومرر أصــابعه على شفتيه وكأنهما جفتا . وأكمــل روبرتو : ـ وعندما علمت جيسكا أن لدي دليل على كذبها على أبي , غيرت لهجتها . . وأصيبت بالهستيريا , وهددت أن تجبر لويس على الاعتراف بالطفل حتى ولو قتل هذا شقيقتها . وتنهدت إيفا . ـ كانت تعني ما تقول . كانت تغـار من شقيقتها وكانت تعلم أنك لم ترغب بها إلا لأنها تشبهها . . وأظنها كانت تود أن تطلعها على الأمر ورحبت بتلك الفرصة . وقال روبرتو : ـ لم أستطع تركها تفعل . كنت خسرت جيني على أي حال . وهكذا تزوجت جيسكا لإعطاء أندرو اسمي . إنه دم آل باستينو في كل الأحوال , وله حق بالاسم . ووقف لويس ببطء : ـ حتى ولو اعترفت جيسكا بهذا , فليس هناك دليل على أنه ابني . فقال روبرتو بهدوء : ـ عندما ولد , كان بحاجة إلى نقل دم فوري , وأنت تعــرف لمــاذا كما أعتقد يا لويس فئة دم (( أر إتش )) سلبي أليس كذلك ؟ ـ أجــل . ـ وفئة دم جيسكا (( أر إتش )) إيجابي , وهذا له علاقة بدم القربى والطفل الذي يحمله لا يمكن أن يعيش إلا إذا تغير دمه فوراً , وخــلال دقائق من ولادته . فتنفس لويس بعمق : ـ يا إلهــي ! ـ ولكن جيسكا لم تكن تعرف هذا , ولا الأطباء , الذين كانوا يعتقدون أنني والد الطفل . وأن فئة دمي مماثلة لفئة دمها , وكانت صدمة لهم عندما ولد الطفل بلون أزرق . فقال لويس بصوت خفيف : ـ إذن هو ابني . . . يا إلهي . . . ! إنه لـي . لماذا لم تخبرني من قبل ؟ أنت تعرف أنــني كنت أجهل هذا الأمــر . فنظر إليه روبرتو ببرود : ـ لــم يكــن لك الحــــق بأن تعـرف . . . وحتى الآن كنت تنكـــره . ـ هـــذا لأنـــني لم أكن أعــــرف . ولو عرفت لأسعدنـــي هذا ! أنت تعرف أن زوجتي لا يمكن لها أن تنجب ولداً . والآن تقول لـــي أن لدي ولد . وولد يحمل دم زوجتي ودمــي . فنظرت إليه إيفا بغضب وقالت ببرود : ـ ولكنك لن تتمكن أبداً من المطالبة به . . زوجتك يجب أن لا تعرف . بدا على لويس الذهول . . وأغمض عينيه وهو يقول : ـ لقد نـسيـت وهذا عقـابي . . . إنه ابني . . . ولن أستطـيع الاعتراف به . وتوجه نحو الباب وقــال ساخراً : ـ إنها أرواح الانتقــام . . دائماً تنتقم فــي آخر المطاف . بعد أن ذهب , وقفت إيفا لتسير نحو الباب . . . تاركة روبرتو يسند رأسه على ظهر كرسيه , يراقب جيني متفحصاً .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل العاشر و الأخير
-------------------------------------
10 ـ صــوم السنين
-------------------------------------
بعد لحظات صمت مذهول . . سألت جيني : ـ لمــاذا لم تقل لــي كل هذا منذ زمن ؟ فرد بصوت منخفض : ـ ما كنت صدقتني , حتى ولو أصغيت إلي . لا . . كان يجب إحضــار لويس وإيفا إلى هنا لأتأكد من سماعك كل شـيء . ونظرت إليه عبر رموشها قائلة : ـ يجب أن تعترف . . . تبدو القصة بعيدة عن التصديق . فضحــك : ـ والدي صدق جيسكا . وبالطبــع كان يريد أن يصدق . وكــان سعيداً لتطور الأمور بهذا الشكــل . وفكــرت بـ جيسكا لأول مرة بتفهم وعطف : ـ يا للفتاة المسكينة . . أصيبت بالأذى والألم من كل الجهات . منك ومن لويس , لا بد أنها يئست . وأعطاها ابتسامة صغيرة ملتوية : ـ ولو أنها تألمت , فقد استخدمت مخالبها لتنتقم , فلا تقلقي , كانت مستعدة للذهاب إلى شقيقتها . وحتى معرفتها بأنها يمكن أن تقتلها لم تعنِ لها شيئاً , كانت مستعدة لاستخدام كل الوسائل المتاحة لها لتحصل على ما تريد . وكانت مصممة على تحميلي ولد لويس . ونظرت إليه مقطبة : ـ كنت أعتقد أنها تحبك . فهز رأســه : ـ لا تكوني عاطفية يا جيني . . جيسكا لم تحب سوى جيسكا . ـ وهل . . . وأحجمت عن السؤال , وأخفضت عينيها وقد احمر وجهها . . فسألها بخبث وهو يبتسم : ـ هل . . ماذا ؟ فنظرت إليه بسرعة : ـ تعرف ما كنت سأسأل . ـ هل نمت معها ؟ مـا رأيك . . حبـيبتي ؟ وشدت على أسنانها , تريد أن تضــربه : ـ وكيف لي أن أعرف ؟ كانت زوجتك لثلاث سنوات . ـ كانت تحمل اسمي لثـلاث سنوات . ولم تنم لحظة في فراشـي . . . مع حب أو بدون حب . لم أكن أرغب بها ولم أدَّع هذا قط . . أوضحت منذ البداية أن زواجنا اسمي فقط . حصلت على ما أرادت . . . أصبحت زوجتي أمام الناس . . . وعندما غرقت لــم أستطع الشعور بالأسى عليها . ـ مسكينة جيسكا . ونظرت إلى الساعة : ـ لقد اقترب موعــد العشاء . فضحك : ـ تغيرين الموضوع ؟ لمــاذا يا ترى ؟ فوقفت , ووقف معها . أمسك بذراعها محدقاً في وجهها الـمتجهم : ـ ما الأمــر الآن ! لقد صدقتني , أليس كذلك . . . لم ألمس جيسكا تلك الليلة . . أقســم لك . ـ أصـدقـك . . . ومع ذلك . ـ مع ذلك . . . مــاذا ؟ ـ خمس سنوات . . . لماذا انتظرت خمس سنوات لــرؤيتي ثانية ؟ ـ إنه كراولي . . . لقد صدقته , كنت أتصور حالتك الذهنية , بعد رؤيتي مع جيسكا . . . وكنت أعرف أنه ينتظر الفرصة . . وعندما قال إنــك استسلمت له . . صدقته . . . أحسست بغيرة قاتلة . . . ولكن حتى هذا كنت مستعداً لغفرانه . ولو قابلتـك لأصلحت الأمور . ولكنك ابتعدت . ثم انشغلت بمشاكل جيسكا والطفل . وصدقت أنك فضلته عني فقررت أن أزيلك من تفكيري . فقالت ببرود : ـ هكذا بكـــل بســاطة ؟ ـ لا . . لم يكن الأمر سهلاً . كنت أعتقد أنك تنامين معه . ـ ألم تستغرب عدم زواجــي به ؟ ـ بلى . . ولكن كنت أتصور كراولي يحاول إقناعك بالزواج ويفشــل . ـ وماذا يؤكد لك أنه لم يكن هناك رجــال غيره ؟ ـ ستقولين لــي أنت هذا . ـ وهل ستصدقني ؟ ـ أنا مضطر لتصديقك . . فأنا لن أتمكن من تركك تبتعدين عني ثانية . ـ لقد أردت الابتعاد عنك , ولكنني لم أستطع . ـ لا تدعي رجلاً آخر يلمسك وإلا قتلتك وقتلته . . أحبك . . جيني قولــي لي إنك تحبيني . ـ لقد قلت لك . ـ ولكنك كرهت ذلك الاعتراف . فتنهدت : ـ وهل تلومني ؟ كرهت نفسي لرغبتي بك بالرغم من كل ما حــدث . ـ والآن ؟ فمررت أصابعها فوق فمه , فــأحست به يرتجـف للمستها . فهــمــســت : ـ الآن ! . . أستطيع القول إننــي أحبك دون أي تحفظ . فســألها : ـ ومتى ستتزوجين منــي ثانية ؟ ـ حين تريد . فلامـس شعرها بخفة : ـ هنــاك شرط واحـد . فنظرت إليه بدهشــة : ـ شـرط ؟ ـ أجل . . . كـراولي . . أريده أن يبتعد عنك . . . وإلى الأبد . لقد قام بما في وسعه لتفريقنا . . إنه يحبك بقدر ما أحبك أنا . ولا أريد أن يكون بقربـك . ووضعــت يديها على كتفيه : ـ وأنت روبرتو . . . لدي شرط عليك . فرفع حـاجبيه : ـ أوه . . وما هو ؟ ـ مـا من امرأة أخــرى . . وإلا فلن أهرب فـي المرة القادمة إلى منزل أبي . بل سـأقتلك بأحد مسدساتك . فضــحـك : ـ لن يكون هناك أي تأكيد أنــني لن أكون مع امرأة أخرى سوى أن لا تغادري فراشــي مطلقاً . وعانقها بشــدة وأكمـــل : ـ أريد أن استيقظ كل صباح لأجدك بقربي . . . وهذا هو ما جرفني إلى الجنون عندما شاهدت صورة خطوبتك في الصحف وأدركت إنك ستتزوجين كراولي . ـ قل لـي الحقيقة . . هل حدث الاصطدام بسبب الصورة ؟ ـ الله يعلم . لا أذكــر شيئاً . كنت أقود سيارتي أفكر بك , ثم لم أدر إلا وأنـا في المستشفى . ـ كانت خدعة ممتازة منك وكــان على إيفا أن تكــون أذكرى من أن تـقــع . فابتســم : ـ إنها تحبني . . . وكنت لا زلت ضعيفاً , ولم ترد أن تغضبـني . ـ أنت حقاً ماكــر لا تطاق . ـ وهذا ما أبقاني حياً . وتركك معلقة على صنارتي . كنت أراقبك تتلوين بين رغبة الهرب ورغبة البقاء . ـ أكــرهك . ـ لا . . لن تستطيعي , لقد قـاومت قدر استــطــاعتـك وراقبت محــاولاتك للخــلاص . . . وكنت واثقاً أنـني لو أصبحت معك لوحدنا . . لاستطعت . . . ـ استطعت مــاذا ؟ ولكنها كانت تعرف الجواب . رقصت عيناه وهو يجيب : ـ لاستطعت الانفراد بك . ونظــر إليها متسائلاً فقالت : ـ أيهــا . . وأخرس كلماتها الغاضبة بوضع يده فوق فمها . ـ ولكنني حصلت عليك . . . ألم أفعــل ؟ ـ لم تحصل علي دون معركــة في البداية . فرفع حاجبيه سخرية . ـ بل مجرد مناوشة بدائية , زادت من المتعة بعد قبولك . ـ أكــرهـك . ولكنها كــانت تضحك . . وجذبها إليه وعانقهــا طويلاً . . بعد فترة ســألها : ـ ماذا عن أندرو ؟ مع أنه ليس ابني فأنا أحبه يا جيني ولطالما عاملته على أنه ابني طوال حياته ولن أستطيع التخلي عنه الآن . ـ بالطبع لا . . لقد أصبح سهلاً علي أن أحبه الآن . فلن تقف الغيرة في الطريق . واخــذ يلف خصلة من شعرها حول إصبعه : ـ أولادنا لن يعــانوا من شــيء . فاحمـر وجهها . ـ سنفكر بهذا عندما نصل إليه . . ولكني أظن بأنك يجب أن تسمح للويس برؤيته . . إنه بشــر . وتلقى صدمة فظيعة لمعرفته أن أندرو ابنه . ـ إنه يستحق هذه الصدمة . . ! لقد تصرف بكل خبث حتى إنه غازلك , وأمامي . فقد اعتقد أنني اضعف من أن أمنعه . لقد كان دائماً غيوراً خبيثاً قذراً . ولكن زوجته امرأة رائعة , وبما أن أندرو ابن أختها يمكنه البقاء معها معظم الأوقات . فابتسمت جيني : ـ فكــرة رائعة . دقة على الباب أجفلتهما معاً وأدخلت ماريا رأسها ونظـــرت إليهما ببرود وســألت بالإيطالية : ـ ستتناولان العشاء الليلة أم لا ؟ فرد عليها بنفس اللهجة : ـ وماذا يجعلك تظنين أننا لن نتعشى ؟ فكشرت وجهها بطريقة ساخرة . . . فقال روبرتو مبتسماً لها : ـ نحن قادمان . فاذهبي من هنا واتركــي لـي فرصة لأقبـــل زوجــتي . فردت ماريا بخبث : ـ إذا لم تكن قد فعلت هذا بعد فقد أضعت نصف ساعة من وقتك سدى . وخــرجـت من الغرفة وصفقت الباب وراءها . . فقال روبرتو متجهمــاً : ـ لقد أضــعــت خمس سنوات سدى . . وأمامي الكثير لأعوض عنه . وشد بيديه على جيني : ـ ليس علينا الانتظــار إلى يوم الزفاف , أليس كذلك ؟ فســألـته , وقد فتحت عينيها على اتساعهما ببراءة لذيذة : ـ ننتظـــر مـاذا ؟ ـ يا لعينة . . نستطيع الزواج بعد أسبوع , ولكن الأسبوع وقت طويل بالنسبة لـي . فقالت برزانة : ـ الصيــام جيد للروح . وهربت منه خــارج الغرفة . ونـظـرت إليهما ماريا : ـ لقد أفسدتما العشاء . . . اعلما هذا . فابتسمت إيفا لجيني . ـ لا تهتمـي يا عزيزتي . . ماريا معتادة على الضجيج . ولم يكن هناك أثر للويس . جلسوا إلى المائدة , يتبادلون الحديث , ثم قالت إيفا : ـ ستكون العائلة على أهبة الاستعداد , وسيسبب الزواج ضجة في الصحافة . فهـز روبرتو كتفيه : ـ ليس كثيراً . أظن أن الجميع عرف الآن أن جيني معـي . . وسينـشغل الناس بالحساب لما سيحدث . فقالت جيني , ـ ليس بالضرورة , فسبب وجودي هنا سهل التفسير . ـ حقــاً ؟ ـ أتعلم بمـاذا سيفكــر الناس . . . لن يعرفوا بالتأكيد أنــني جئت هنا لأتزوجك مرة أخرى . فابتسم ســاخراً : ـ وخاصة بعد وقت قصير من إعلان خطوبتك على رجل آخـر . لا بد أن هذا سيصب كراولي بصدمة . فـصــاحـت به بغيظ : ـ أوه . . اصمت . . مسكين غرانت ! ـ وهذا ما يذكرني . . . أعطني خاتم خطوبته لأعيده له مع رسـالة شرح مناسبة . ـ لا . . لن تفعل . سـأفعل هذا بنفسي . فأنا أعرف ما ستقـــول لـه . فرد ببرود متصلب الوجه : ـ أنا مدين له بالكثير . ويجب أن أنتهز أي فرصــة لإبلاغه بهذا . فتوسلت جيني : ـ لا تفعل روبرتو أرجوك . . إنس الأمـر . ـ خمس سنوات ؟ أتتوقعين أن أمســح خمس سنوات من الدين دون كلمـة ؟ ووضعت يدها فوق يده : ـ لقد انتهى الأمـر . ونظـر إليها بخبث : ـ لا . . فأنا دائماً عصبي المزاج وأنا صائم . فنظرت إليه إيفا بذهول . ـ صائم روبرتو ؟ بالتأكيد أنت لا تتبع حمية وأنت مريض ؟ فاحمرت جيني تحت وقع عينيه الخبيثتين , واحتجت . ـ أنت تغش فــي اللعب . فشهقت إيفا وقد فهمت ما تعنيه كلماتهما , وابتسمت مشيحة بنظرها عنهما . ونظر روبرتو إلى عيني جيني : ـ حسنــاً . . ما قولك ؟ هل أصوم أم لا ؟ فتأوهــت : ـ أيها المبتز الخالي من الحياء . لمــاذا تريد دائماً أن تنفذ مـــا تريـــد ؟ فرفع يدها ليقبلها . . . مع نظرة خبيثة واعدة , وقال بـصـوت ناعـم : ـ أنــا هكــذا دومــاً .
* * *
النهاية

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع